الثلاثاء  28 تشرين الأول 2025

"رائحة الزينكو".. زياد أبو لبن يوثق ذاكرة المخيم الفلسطيني في مجموعة قصصية جديدة

2025-10-17 02:27:48 AM
رائحة الزينكو للدكتور زياد أبو لبن

تدوين-إصدارات 

صدرت حديثا عن دار الخليج للنشر والتوزيع في عمان (2025) المجموعة القصصية "رائحة الزينكو" للكاتب والناقد زياد أبو لبن، والتي تستعيد عبر نصوصها القصيرة ملامح الحياة في المخيم الفلسطيني، بكل ما تحمله من معاناة وحنين وتفاصيل حميمة.

وفي لقاء صحفي، أوضح أبو لبن أن عنوان المجموعة يحمل أكثر من دلالة، إذ تشير "رائحة الزينكو" إلى ذاكرة المخيمات الفلسطينية، حيث البيوت المصنوعة من ألواح الزينكو التي كانت تختزن في رائحتها قصص التشرد والشتات، ولكنها في الوقت ذاته تروي حكايات الصبر والانتماء.

يقول الكاتب: "من خلال هذا العنوان استطعت أن أقدم مجموعة من القصص التي ترصد تفاصيل المخيم الفلسطيني في أزمنة مختلفة، وتظهر حجم المعاناة التي يعيشها الفلسطيني بين ضنك العيش والغربة عن الوطن، سواء داخل فلسطين أو خارجها".

وجاء في مقدمة الكتاب: "في أزقة ضيقة، وبين بيوت من صفيح وزينكو، تولد الحكايات كما يولد الخبز الساخن من رحم النار. هذه المجموعة ليست مجرد قصص عن الطحين والفلافل والحليب... ولا عن خيام تحولت إلى براكيات، بل عن شعب يعيش، يضحك، يأكل، ويحلم... رغم كل شيء. وبين صفوف المؤن وعيون الأطفال، تتشكل ذاكرة المكان، وكرامة لا تنكسر. هذه القصص تكتب المخيم... لا كألم، بل كحياة لا تزال تختمر على نار هادئة".

وتتوزع نصوص المجموعة بين مشاهد يومية وإنسانية من حياة اللاجئين، مثل "بطاقة الجوع"، التي تسلط الضوء على بطاقة المؤن التي كان اللاجئ الفلسطيني يتسلم عبرها مساعداته الغذائية، في مشهد يعكس قسوة المرحلة وما حملته من فقر وقهر.

كما تتناول القصص طقوس الطفولة في المخيم، مثل طوابير الحليب التي كان يصطف فيها الأطفال صباحا، والأراجيح المصنوعة من حبال الغسيل، ورائحة الخبز الساخن في الأزقة، إضافة إلى مشهد الوحل والطين في شتاء المخيم القاسي.

ولم تغب الحكايات الشعبية عن أجواء المجموعة، إذ وظف أبو لبن قصص الجدات والأمهات كوسيط رمزي ينقل من خلاله موروثا غنيا، ووسيلة مقاومة ناعمة في وجه الغربة والانكسار.

وأشار الكاتب في حديثه إلى إن هذه التفاصيل الصغيرة هي التي شكلت وعي أبناء المخيم، وأسهمت في ولادة جيل متمسك بحقه في العودة، مؤمن بعدالة قضيته، ومصر على الحفاظ على ذاكرته الجمعية من النسيان.

فيما يلي واحدة من قصص مجموعة "رائحة الزينكو":
حين احترق قلب المخيم
كان مساء المخيم يتهيأ لنومٍ مبكرٍ، كعادته، حين استيقظ على صرخة من نار. ارتفعت ألسنة اللهب كأنها لعنة انبثقت من باطن الأرض، والتهمت صيدلية الطليعة التي طالما كانت للناس ملاذًا، لا مجرد حانوت دواء.
صيدلية الطليعة لم تكن مجرد مكان تُصرف فيه الوصفات، بل كانت قلبًا ينبض في خاصرة المخيم، بيتًا أبيض تضيئه مصابيح الثقة، ويعطّره الحنين. في ركنها العتيق كان مايكل، الصيدلي الذي أحبّه الجميع، يجلس بين الرفوف كراهبٍ في صومعته، لا يخطئ خلط الوصفة، ولا يردّ سائلًا، ولا يُخفي حنوّه خلف النظارات السميكة التي لا تفارق عينيه.
كان الناس يقولون إن مايكل يعرف أوجاعهم أكثر من أطباء عيادة وكالة الغوث، يقرأ الوجع في العيون، ويشخصه قبل أن تُفتح الأفواه. كانت له ابتسامة دافئة، تسبق الدواء إلى شفاء الروح.
وفي تلك الليلة المشؤومة، فزع المخيم على دويِّ النار، وكانت الصيدلية تشتعل كأنها قصيدة تحترق. سُمعت انفجارات الأدوية، كأنها قنابل تسقط من السماء، وزجاجات تنفجر في نحيبٍ زجاجيّ مؤلم. رائحة الاحتراق كانت مزيجًا غريبًا من الكحول والأعشاب والوجع.
ركض الناس حفاة نحو اللهب، يحدوهم الخوف على مايكل، وعلى دوائهم، وعلى ذاكرة كاملة كانت تُطوى بين الجدران. هناك، وسط العتمة والرماد، ظهر وجه مساعد مايكل — الشاب الوسيم الذي كان يحلم بفتح فرع جديد — لكنّه كان قد تفحّم، كأن النار اختارته قربانًا.
ارتفعت صيحات النساء، وانهمرت الدموع مثل مطرٍ متأخر، لكن في لحظة صمت مباغتة، تقدّم شيخ كبير من وسط الحشد، كان يرتدي عباءة قديمة، وعصاه تسبق خطاه، ووقف بين النار والناس، وصاح بصوتٍ هدّه الزمن لكنه لم يفقد هيبته:
"ابعدوا... فللصيدلية ربٌّ يحميها!"
ساد وجوم. كانت النار في اشتعالها الأخير، كأنها خجلت من يقين الشيخ، أو ارتبكت من هالة الإيمان التي حاصرها بها، وما هي إلا لحظات حتى انطفأ اللهب، وارتفعت سحابة من الدخان نحو السماء، كأنها روح المخيم تصعد للصلاة.
ومنذ ذلك اليوم، لم ينسَ أهل المخيم حريق الطليعة، لم ينسوا مايكل، ولا وجه المساعد الذي لم يُدفن كما يليق بالأبطال، ولا صوت الشيخ الذي أوقف النار بكلمة.
ذاك الحريق لم يلتهم خشبًا وزجاجًا فقط، بل أشعل الذاكرة في قلب كل من مرّ بالصيدلية يوماً، فصارت رمادًا دافئًا لا يزال يبعث الدفء في برد النسيان.
وهكذا، بقي حريق صيدلية الطليعة... تاريخًا محفورًا في ضمير المخيم.