تدوين- أسماء المغربي
شهدت قاعات مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في جدة مشاعر جياشة وفيضاً من الدموع مع العرض العالمي الأول للفيلم الدرامي التاريخي "فلسطين 36" للمخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر. هذا العمل السينمائي، الذي يندرج ضمن برنامج "روائع عربية"، لم يكن مجرد استعراض فني، بل كان رحلة عميقة ومؤثرة إلى الجذور الدامية والملتبسة للقضية الفلسطينية، معيداً سرد فصول الثورة العربية الفلسطينية الكبرى (1936–1939) ضد بطش الانتداب البريطاني.
منذ اللحظات الأولى، كان وقع الفيلم صادماً وعاطفياً، خاصة على أبناء الجالية الفلسطينية الحاضرين، الذين تابعوا بصمت وتأثر بالغ أحداثاً لم يعيشوها، لكنها تشكل نسيجاً أساسياً من ذاكرتهم الجمعية وروايات آبائهم وأجدادهم، فقد شكلت هذه الحقبة لحظة مفصلية ساهمت في رسم واقع سياسي استعماري خانق لا يزال الفلسطينيون يعيشون تحت وطأته حتى اليوم.
الوعد الذي أشعل الفتيل: فلسطين في ثلاثينيات القرن الماضي
يتناول الفيلم مرحلة هي الأكثر دقة وتعقيداً في تاريخ فلسطين الحديث، وتحديداً ما بعد مرور نحو 20 عاماً على توقيع "وعد بلفور" عام 1917، الوعد المشؤوم الذي قدم فيه وزير الخارجية البريطاني آنذاك، آرثر بلفور، دعماً صريحاً لإنشاء "وطن قومي" لليهود في فلسطين. هذه الخلفية التاريخية هي نقطة الانطلاق لحكاية انتفاضة شعب بأكمله ضد سلطة استعمارية مهدت لمأساة لم تُغلق فصولها بعد.
بأسلوب بصري آسر، وسرد غني باللقطات التاريخية النادرة، نجحت جاسر في بناء ملحمة سينمائية واسعة الأفق. استندت المخرجة إلى أرشيف بريطاني نادر، واستعادت من خلاله روح تلك الحقبة، بما في ذلك لقطات ملونة تظهر حيوية ميناء حيفا، بالإضافة إلى مشهد لافت وغير مألوف يظهر جواز سفر نازي، في إشارة إلى تزايد موجات هجرة اليهود الفارين من الفاشية الأوروبية إلى فلسطين.
صراع إنساني في زمن التحولات الديموغرافية
تدور الأحداث الرئيسية للفيلم حول شخصية "يوسف"، الشاب الفلسطيني الذي يعيش حالة من التمزق الداخلي بين قريته الريفية الهادئة نسبياً وأجواء مدينة القدس المتوترة، باحثاً عن معنى للسلام في وقت كانت فيه البلاد تندفع بعنف نحو مواجهة مفتوحة.
مع تسارع وتيرة الهجرة وتدفق المهاجرين اليهود، وتصاعد التحولات السياسية والديموغرافية المتسارعة التي فرضت على الفلسطينيين واقعاً جديداً من الصراع والمعاناة، يركز "فلسطين 36" بعمق على البعد الإنساني للصراع عبر شخصيات متنوعة تعيش بين مدن نابضة بالحياة مثل القدس ويافا، والقرى التي كانت تتعرض للقمع والعنف. ويستعرض الفيلم الحياة اليومية للفلاحين وسكان المدن في مقابل ممارسات الجنود البريطانيين القاسية.
توثيق القمع الاستعماري: الوجه القاسي للانتداب
يقدم الفيلم سردية عربية موجعة وصريحة، تكشف الوجه القاسي لممارسات الانتداب البريطاني في فلسطين، عبر عرض دقيق ومؤلم لتفاصيل القمع اليومي الذي عاشه المدنيون في تلك الحقبة.
من أبرز المشاهد التي تثير الانزعاج والتأثر هي استعراض الاعتقالات العشوائية، التي تحولت آنذاك إلى سلوك يومي متكرر، حيث كانت القوات البريطانية تقتحم الأحياء قبيل الفجر، وتقتاد عشرات الشبان من دون مذكرات توقيف أو تهم واضحة.
وتتوسع عدسة المخرجة في تصوير حملات المداهمة العقابية التي غالباً ما انتهت بإحراق المحاصيل الزراعية، وإهانة السكان، وتحطيم البيوت، وهي رسائل ترهيب ممنهجة هدفت إلى تفريغ الريف من قوته البشرية وكسر الروح الوطنية.
أما الذروة المأساوية للوحشية فتتمثل في توثيق الإعدامات الميدانية التي كانت تنفذ فوراً وبلا محاكمة أو أي دليل، قبل أن تبلغ أوجها في مشاهد تفجير المنازل على من فيها، تنفيذاً مباشراً لسياسة العقاب الجماعي التي طاولت الرجال والنساء والأطفال على حد سواء.
نجومية على السجادة الحمراء وتصفيق يتجاوز العرف
يأتي الفيلم من كتابة وإخراج آن ماري جاسر، وقد شارك في العمل نخبة واسعة من الممثلين العرب والأجانب، ما يضفي ثقلاً فنياً على العمل. كان من بين الأبطال الممثل البريطاني الحائز على الأوسكار جيرمي آيرونز، الذي أدى دور المندوب السامي، بالإضافة إلى قامات عربية بارزة مثل الممثلة الفلسطينية هيام عباس، إلى جانب كامل الباشا، وصالح بكري، وياسمين المصري، وجلال الطويل، وظافر العابدين.
ومع انطفاء المشهد الأخير للفيلم، خيم الصمت لثوان معدودة على القاعة الممتلئة بالكامل، قبل أن ينفجر الجمهور بتصفيق عاصف وحاد، تجاوز العرف السينمائي المعتاد، تعبيراً عن تأثر عميق وإجلال لهذه القصة التي تعود إلى الجذور الأصيلة للمأساة الفلسطينية.