الإثنين  20 تشرين الأول 2025

​"اللي باقي منك" إلى الأوسكار: ملحمة عائلية تخوض معركة السرد الفلسطيني المضاد للنسيان

2025-10-20 08:52:19 AM
​
"إللي باقي منك": حكاية تاريخية مكتفية بسردها

تدوين- راما الحموري

يعود بنا فيلم المخرجة شيرين دعيبس  إلى جوهر الحكاية المسلوبة، مقدماً سردية تمتد لثلاثة أجيال من عائلة حماد. الفيلم الذي يطالب بحق الرواية في وجه السرديات الصهيونية، يثير نقاشاً حول استراتيجية الشكل الأمريكي للوصول إلى المشاهد الغربي، وتأثيره على تعقيد الذاكرة.

السردية كفعل مقاومة في زمن الاختطاف الجغرافي والثقافي

في عالم يتم فيه اختطاف السرديات والحقائق بنفس السهولة التي تُختطف بها الجغرافيا، يبرز الفيلم الروائي الطويل "اللي باقي منك" (2025) للمخرجة الفلسطينية الأمريكية شيرين دعيبس كصرخة فنية تطالب بحق الفلسطينيين في سرد قصتهم من منظورهم الخاص. لا يقتصر الأمر على رواية ما جرى وحسب، بل يتجاوزه إلى إعادة تعريف الحكاية والحقيقة ذاتها: من يملك حق صياغتها، وكيف يجب أن تُقال؟

تُدرك دعيبس، من خلال ملحمتها السينمائية الممتدة على مدى ساعتين وعشرين دقيقة، أن السردية الفلسطينية هي اليوم ساحة معركة لا تقل أهمية عن ساحات القتال الميدانية. فمن يسيطر على الحكاية، يسيطر على الذاكرة، ومن يسيطر على الذاكرة يملك مفاتيح المستقبل. ويأتي اختيار الفيلم لتمثيل الأردن في سباق الأوسكار عن فئة أفضل فيلم روائي دولي، وانضمام نجوم عالميين كمارك روفالو وخافيير بارديم كمنتجين منفذين، ليؤكد أن هذه السردية بدأت تخترق جدار الصمت والإنكار، لتضع نفسها في صلب المشهد الثقافي العالمي.

سينما مضادة للنسيان: استدعاء الذاكرة المتشظية بين النكبة والانتفاضة

في وجه السرديات الصهيونية التي عملت لعقود على سلب الفلسطينيين صوتهم ومحوهم من المشهد التاريخي، يقف "اللي باقي منك" كسينما مضادة للنسيان بامتياز. لا تكتفي دعيبس بسرد قصة خطية، بل تستدعي ذاكرة متشظية، معلّقة بين الأزمان، ومتداخلة بين الأجيال: من جيل عاش النكبة بكل فداحتها، إلى جيل ورثها ككابوس يومي وكرر معركتها في الانتفاضة.

الفيلم هو بالفعل ملحمة عائلية تتبع مسار عائلة حمّاد عبر أربعة مفاصل زمنية مفصلية: النكبة عام 1948، ثم الأعوام 1978، 1988، وصولاً إلى عام 2022. هذا التسلسل الزمني ليس مجرد خلفية تاريخية، بل هو النسيج الحي الذي ينسج عليه الفيلم تفاصيل الحياة اليومية والتوترات والمعضلات الأخلاقية التي تتخلل فترات ما بين المجازر. إنها دعوة للنظر إلى ما لا نراه غالباً في الصور الكبرى للصراع، إلى "كاتالوغ" لحياة عائلية لم تتوقف يوماً عن القتال، ليس بالسلاح بالضرورة، بل بالدفاع العنيد عن الهوية.

الألم الممتد عبر عقود لهذه العائلة، التي تتنقل من يافا إلى نابلس، فالضفة الغربية، وحيفا ثم المنفى في كندا، ليس مجرد سرد شخصي، بل يصبح استعارة بليغة ومؤثرة لشعب بأكمله.

عمق التجربة الجيلية: كيف تُورث الصدمة والمعضلة

يبرع الفيلم في استعراض التحديات الجيلية داخل العائلة الواحدة. نرى كيف أن سليم (صالح بكري)، الذي تعرض للإذلال أمام ابنه نور عام 1978، يبدو أكثر امتثالاً وخضوعاً نسبياً من والده شريف (آدم بكري/محمد بكري)، الذي لا يزال يحمل ندوب النكبة وتخليه القسري عن بستان الليمون في يافا عام 1948.

تنتقل مبادئ شريف القومية لتؤثر في حفيده نور (محمد عبد الرحمن)، الذي يُصاب برصاصة إسرائيلية عام 1988 خلال الانتفاضة الأولى، معبراً عن المقاومة بجرأة أكبر. هذا التفاعل بين الأجيال يكشف أن "النكبة" لم تُقدم كحدث تاريخي مفرد، بل كمسألة جيلية متوارثة، حيث يعلّم الأجداد أحفادهم دروس البقاء والتجذّر وخوض معركتهم الخاصة بالتوازي مع معركة الوجود الكبرى.

تلعب الذاكرة التاريخية والصدمات المتوارثة دور النسيج الأساسي للشريط، مؤكدة على أن تلك الأراضي التي يسكنها الإسرائيليون اليوم، لم تكن "فراغاً"، بل تحمل تاريخاً عائلياً يمتد لقرون. تستخدم دعيبس إيقاعها الخاص، بعيداً عن الانفعال المباشر أو الاستعجال، متيحة للألم أن يتكشّف شيئاً فشيئاً، من دون أن يغرق في الغضب السطحي أو الشفقة المجردة.

الشكل الأمريكي: خيار استراتيجي يثير نقاشاً نقدياً

لعل الجانب الأكثر إثارة للنقاش في الفيلم هو تبنيه لـ "أسلوب سردي أميركي مألوف": حبكة واضحة، شخصيات محددة، ومقاربة للألم تخلو من الرمزية المعقدة وتميل إلى المباشرة. هذا الخيار، الذي يهدف إلى خلق صورة حميمية ومتعاطفة وواضحة في الشكل، هو بالتأكيد خيار استراتيجي مقصود من المخرجة للوصول إلى أكبر عدد ممكن من الجمهور، خاصة المشاهد الغربي الذي لا يزال يكافح لفهم تعقيدات القضية الفلسطينية.

إن استخدام "أدواتهم لسرد قصصنا" هو تكتيك فعال بلا شك، جعل الفيلم "طموحاً، شجاعاً وضرورياً" وفقاً للكثير من النقاد. لكنه يثير سؤالاً نقدياً جوهرياً: ما الذي يُفقد من عمق القصة وتعقيد الذاكرة الفلسطينية حين نُبسّط ما لا يُبسّط؟ وهل تكفي هذه البساطة لنقل العبء التاريخي والثقافي للقضية؟

بالرغم من هذا التبني، تنجح دعيبس في تقديم الإنسانية كشكل من أشكال المقاومة. لكن هذا الإصرار على "الإنسانية" يفتح بدوره باباً لنقاش آخر: لماذا يُطلب من الفلسطيني أن يُثبت إنسانيته كي يُسمع صوته، وكأن كل المأساة والإبادة والتهجير لا تكفي للاعتراف بوجوده وحقه؟

تصوير "الآخر": زعزعة الطمأنينة بدلاً من المواجهة المباشرة

فيما يتعلق بتصوير الإسرائيليين، تعتمد دعيبس على أسلوب مثير للاهتمام. هي لا تسعى إلى المواجهة المباشرة أو الهجومية، بل تفضل "زعزعة الطمأنينة" لدى المشاهد. يُقدم "الجيش" كقوة قمعية لا تحيد عن صورة "الشرير"، بينما يُصوّر المواطن الإسرائيلي المدني ككائن خامد، جبان، أو غير قادر على إدراك حجم الظلم الذي ارتكبته دولته بحق شعب لا يُعترف حتى بوجوده.

هؤلاء الإسرائيليون، الذين اعتادوا على ممارسة السلطة، ربما كامتداد غير واع لمأساة الهولوكوست التي يذكرها أحدهم، لا يتساءلون عما يفعلونه أو ما يعنيه أن يعيش الفلسطيني في ظل ظلمهم. لكن دعيبس لا تهاجم، بل تثير قلق الجمهور، الذي لا يسعه إلا أن يشارك هواجس العائلة الفلسطينية التي لم يبق لها سوى صورة أمام منزل كان لها ولم يعد ملكها.

 الذاكرة ليست نوستالجيا، بل وثيقة حية للمقاومة

"اللي باقي منك" هو عمل سينمائي طموح ومؤثر يستحق التقدير، وربما يكون "ناقصاً بالضرورة"، ليس لتقصير من دعيبس التي أظهرت سيطرة كاملة على العمل (كمخرجة وكاتبة وممثلة)، بل لأن موضوعه نفسه لا يمكن احتواؤه في إطار سينمائي واحد. إنها تعود بعد غياب 12 عاماً بفيلم أكثر نضجاً وتركيباً.

في النهاية، ما يمنح الفيلم ثقله الحقيقي ليس فقط ما يقوله، بل ما يصر على تذكّره. فعودته إلى التاريخ، وإلى بدايات كل شيء، تجعل الذاكرة هنا ليست مجرد خلفية سردية أو حنين (نوستالجيا)، بل هي وثيقة حية وفعل مقاومة وإصرار على أن ما مضى لم ينته، وأن ما سُلب لا يمكن أن يُمحى بالزمن.

إنها القوة التي تربط الأجيال الثلاثة، وتجعل من البيت المهجور، والبحر، والصورة القديمة، أماكن لا تزال تنبض بالحياة في الوعي الجمعي. فما يبقى منّا، حين لا يبقى شيء، هو الذاكرة. وبترشحه للأوسكار، يكون "اللي باقي منك" قد ضمن للذاكرة الفلسطينية ساحة عالمية جديدة للمقاومة.