تدوين-ثقافات
في مقال نشر بصحيفة الغارديان البريطانية، بعنوان: "إحدى أقدم المراكز الحضرية على كوكب الأرض: التاريخ العريق لغزة تحت الأنقاض" يستعرض الكاتب والمؤرخ البريطاني ويليام دالريمبل التاريخ العريق لمدينة غزة، مسلطا الضوء على الخسائر الأثرية والثقافية التي رافقت الإبادة الجماعية، ومؤكدا أن غزة مدينة ذات جذور حضارية ضاربة في عمق التاريخ.
فيما يلي ترجمة المقال
مع دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، وجلبه قدرا من الهدوء إلى المشهد الجحيمي الذي أصبحت عليه غزة، آن الأوان للتفكر في كل ما فقد. فالكلفة البشرية، التي تصفها لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بأنها إبادة جماعية، لا تقدر بثمن، لكن ما لا يعرفه كثيرون هو حجم الخسائر الثقافية والتاريخية التي لحقت بالتراث الغني لغزة خلال هذه الشهور الدامية.
غالبا ما ينظر إلى غزة باعتبارها مجرد مخيم لاجئين شاسع، أقيم فوق صحراء حديثة العهد بالسكان، لكن هذا التصور خاطئ تماما. فالحقيقة أن غزة من أقدم المراكز الحضرية في العالم. وإذا كانت غولدا مائير قد زعمت ذات مرة أن "الفلسطينيين لا وجود لهم"، فإن الواقع يكشف العكس. ففلسطين من أقدم الأسماء الجغرافية المعروفة للبشرية، وسجل وجود شعب يرتبط بهذا الاسم منذ بداية الكتابة نفسها.
تشير النصوص المصرية القديمة إلى اسم "بلست" (Peleset) منذ نحو عام 1450 قبل الميلاد، أما النقوش الآشورية فذكرت "فلسطو" (Palashtu) في القرن الثامن قبل الميلاد، وكتب المؤرخ هيرودوتس في القرن الخامس قبل الميلاد عن "فلسطين" (Παλαιστίνη).
كل هذه الحقائق استحضرت أثناء عملي مع الزميلة أنيتا أناند على إعداد سلسلة بودكاست من 12 حلقة بعنوان "الإمبراطورية"، تركز على تاريخ غزة. وتذكر غزة في نقش فرعوني للملك تحتمس الثالث في القرن الخامس عشر قبل الميلاد باسم "غزاتي"، كجائزة استراتيجية ثمينة. ومنذ آلاف السنين، كانت غزة نقطة التقاء ثقافية وجغرافية تربط بين أفريقيا وآسيا، وبين الصحراء والبحر المتوسط.
كانت غزة مركزا تجاريا استراتيجيا مزدهرا، انطلقت منه التوابل والعطور والنبيذ إلى اليونان وروما، نهاية لطريق القوافل القادم من الجزيرة العربية عبر البتراء. كما كانت حصنا يحرس الطريق الساحلي الحيوي إلى مصر.
وقد وصفها الرحالة على مر العصور بـ"الخصبة والمتنوعة زراعيا"، بفضل مياهها الجوفية ومناخها المتوسطي، وهي عوامل ساعدت على إنتاج عنب ممتاز صنِع منه نبيذ شهير، وصفه البعض بـ"شاتو دي إيكيم" (Château d’Yquem) عالم العصور الكلاسيكية.
وفي معرض يقام حاليا في معهد العالم العربي بباريس بعنوان "كنوز غزة المنقذة: 5000 عام من التاريخ"، تعرض أوان فخارية فريدة تعرف بـ"الجرار الطوربيدية" كانت تستخدم لتصدير نبيذ غزة، والذي وجدت بقاياه حتى في فرنسا الميروفنجية وإنجلترا الأنجلوساكسونية في القرن السادس الميلادي.
تعاقبت على غزة إمبراطوريات عدة: المصريون، الآشوريون، البابليون، الفرس، اليونان، الرومان، ثم الأمويون، المماليك، العثمانيون والبريطانيون. وكانت كل قوة ترغب في السيطرة على هذا الموقع الحيوي. لكن وسط كل تلك الفتوحات، هناك شعب محلي عاش في هذه الأرض قرونا طويلة، تحولت ديانته تدريجيا من الوثنية إلى الأديان الإبراهيمية الثلاثة، وتغيرت لغته من الآرامية إلى اليونانية، ثم إلى العربية.
وتظهر الدراسات الجينية الحديثة أن الحمض النووي لسكان غزة مسلمين ومسيحيين وسامريين يشابه إلى حد كبير الحمض النووي لمن عاشوا هناك في العصر البرونزي، ما يدل على الاستمرارية السكانية والثقافية عبر العصور.
ظلت غزة مركزا وثنيا نشطا لفترة أطول من المدن المجاورة، لكنها كانت أيضا من أوائل المناطق التي احتضنت الرهبنة المسيحية. ومع قدوم أتباع القديس أنطونيوس الكبير، تأسست الأديرة، و"تحول الصحراء إلى مدينة". وفي عام 406 م، مولت الإمبراطورة يودوكسيا بناء كاتدرائية في غزة، ولاحقا بنيت كنيسة القديس سرجيوس الشهيرة.
تعتبر الفتوحات الإسلامية بداية تحول سياسي وثقافي، لكن علماء الآثار يشيرون إلى أن هذه الفترة لا تترك أثرا دراميا مفاجئا في السجلات الأثرية، مما يدل على أن التغيير كان تدريجيا وليس ثوريا. احتفظت غزة بمكانتها الإدارية، وظلت اللغة اليونانية والإدارة المسيحية قائمة لعدة سنوات.
تواصل ازدهار غزة خلال العصور الصليبية، حيث أصبحت معقلا لفرسان الهيكل لحماية الحدود مع مصر، ثم ازدهرت مجددا في العصر المملوكي الذي شهد بناء المساجد والخانات. وفي العصر العثماني، وإن كانت مدن مثل يافا وعكا قد تفوقت تجاريا، فقد بقيت غزة مركزا إداريا وعسكريا مهما.
في الحرب العالمية الأولى، شهدت غزة معركة مصيرية بين القوات العثمانية والقوات البريطانية المدعومة بوحدات هندية وأسترالية ونيوزيلندية، استخدمت فيها الدبابات والغازات السامة. وسقطت المدينة في المعركة الثالثة لغزة في نوفمبر 1917، بالتزامن مع صدور وعد بلفور في 2 نوفمبر – الحدث الذي غير مستقبل فلسطين.
وبحلول نهاية عام 1948، أصبحت غزة موطنا لمئات الآلاف من الفلسطينيين الذين هجروا جراء النكبة.
واليوم، ورغم أن اسم غزة يتردد في نشرات الأخبار لأبشع الأسباب، إلا أننا نعرف القليل جدا عن تاريخها. فهذه المدينة التي تعد من أقدم وأغنى المدن بالتاريخ الإنساني، غابت عن المناهج التعليمية والأفلام الوثائقية ووسائل الإعلام.
لكن هذا بدأ يتغير. فقد صدر هذا الشهر عدد من الكتب المهمة التي تسد هذا الفراغ، منها كتالوج معرض باريس، وكتاب "تاريخ موجز لقطاع غزة" للمؤرخة آن عرفان، وكتاب "مؤرخ في غزة" للمؤرخ جان بيير فيليو، وهو ملحق لعمله المعروف "غزة: تاريخ".
يقول فيليو في كتابه الأخير: "غزة التي عرفتها، والتي طفت أرجاءها، لم تعد موجودة". وهذه الكتب الثلاثة تعد ضرورية لكل من يسعى لفهم أعمق لتاريخ غزة، لفهم حاضرها المأساوي بصورة أفضل.