الأحد  26 تشرين الأول 2025

منى حاطوم وألبرتو جيّاكوميتي يلتقيان في صرخة مشتركة بـ "باربيكان"

2025-10-26 08:29:37 AM
منى حاطوم وألبرتو جيّاكوميتي يلتقيان في صرخة مشتركة بـ

تدوين- راما الحموري

في مشهدٍ فني يتجاوز حدود الزمن والجغرافيا، يفتتح مركز باربيكان للفنون في لندن فصلاً جديداً من الحوار الوجودي، عبر معرض "لقاءات منى حاطوم وجيّاكوميتي"، الذي يستمر حتى الحادي عشر من يناير/كانون الثاني 2026. هذا المعرض ليس مجرد استعراض لأعمال فنية من حقبتين مختلفتين؛ بل هو مواجهة فكرية وجمالية بين الفنانة العربية المعاصرة منى حاطوم والنحات السويسري ألبرتو جيّاكوميتي (1901-1966).

ينجح التنسيق الفني في خلق مساحةٍ لالتقاء تجربتين توحدهما النظرة القلقة إلى العالم، والتمسك المضني بـ "إنسانية" تترنح تحت وطأة العنف، والبحث عن الوجود في مواجهة الفقدان. وكما يُلخص القائمون على المعرض: "لا تضع منى حاطوم أعمالها إلى جانب جيّاكوميتي لمجرد المقارنة، إنما لتفتح معه حواراً حول الخوف، والفقدان، والبحث عن الإنسانية وسط الدمار".

الدمار كأيقونة: بقايا البيت والوطن المفقود

تستهل حاطوم هذه المواجهة بعملها المؤثر "برج"، وهو بناء معدني ضخم يحاكي مجمّعاً سكنياً مدمراً، يبدو وكأنه تهشّم بفعل قصف عنيف. لا يحتاج المشاهد إلى الاستدلال على مكان هذا الدمار؛ فالصورة باتت مألوفة عالمياً، أيقونة متكررة في نشرات الأخبار اليومية. غير أن حاطوم، الفنانة اللبنانية المولد والمنفية، فلسطينية الأصل، تُعيد صياغة هذا المشهد المأساوي كـ "أيقونة" لدمار الإنسان قبل الحجر. يتحول البرج المحترق إلى رمزٍ متجسد للوطن المفقود، للبيت الذي فقد صفة الأمان، وللذاكرة التي تحترق مع الجدران المنهارة.

ويستمر توثيق هشاشة الأمان الإنساني في عملها "بقايا اليوم"، حيث تُعيد الفنانة تركيب قطع أثاث محترقة داخل هياكل سلكية شفافة. المشهد لا يوحي ببيت، بل بشبح بيت أو أطلال حياة يومية انتهت فجأة. يوثق هذا العمل كيف يصبح الدمار مادة فنية تروي قصة التلاشي.

"المهد الشائك" وجسد العنف: لقاء تحت سقف القسوة

في إحدى المساحات الأكثر قتامة ورمزية في المعرض، يتجاور عمل حاطوم الشهير "لا تواصل"، وهو سرير مصنوع من أسلاك شائكة صُنعت على هيئة مهد طفل، مع منحوتة جيّاكوميتي المرعبة "المرأة مقطوعة الحنجرة". هذه المنحوتة تجسّد الجسد الأنثوي كمساحة للتشريح والعنف.

هذا التوازي، الذي يتجاوز المقارنة الشكلية ليخلق جرحاً وجودياً مشتركاً، يفتح سؤال الجسد في مواجهة السلطة الغاشمة، وصراع الحياة في مواجهة القسوة التي تمارسها الآلة الحربية أو الاجتماعية. "المهد الشائك" لحاطوم يعكس المنفى والأمان المستحيل، في حين أن "المرأة مقطوعة الحنجرة" لجيّاكوميتي تعكس التمزق الجسدي والنفسي الذي خلفته ويلات الحروب الأوروبية.

"الأنف" والدم: بحث عن الوجود في قلب الفراغ

في سياقٍ آخر، تُقدّم حاطوم عملاً بصرياً آسراً ومقلقاً في آنٍ واحد، يتكون من بقع ضخمة من الزجاج الأحمر القاني، الذي صنعته في ورش مورانو الإيطالية، ليبدو وكأنه انفجار دموي متجمد في وسط قاعة العرض. إلى جوار هذا الدم الزجاجي، تُعرض واحدة من أكثر منحوتات جيّاكوميتي قتامة: "الأنف".

في هذه المنحوتة، يمتد وجه نحيل داخل قفص معدني، أنفه الطويل يندفع في استطالة مفرطة كرمح نحو الفراغ. وضعت حاطوم المنحوتة داخل مكعب صممته هي، مما يجعل المشهد يوحي بأن الإنسان محاصر داخل آلة الوجود، لا يملك سوى أن يصرخ صرخة مدببة طويلة، متجسدة في "الأنف" الذي يطل على العالم.

إن هذا التجميع بين "بقع الدم" و"الأنف المحاصر" هو ذروة الحوار بين الفنانين: فـ جيّاكوميتي، المتأثر بعبثية ما بعد الحرب العالمية الثانية، جعل منحوتاته أجساداً نحيلة على حافة التلاشي، تبحث عن معنى في العدم. بينما حاطوم، المنفية التي جعلت من "المنفى والخوف" مادة فلسفية وفنية، تستخدم مواد صادمة لتعكس استمرار العنف الذي يستهدف الجسد والوجود.

"الرجل السائر": ثقل الزمن والسير رغم الثقل

يتابع زائر "باربيكان" جولته ليلتقي بأعمال جيّاكوميتي الأشهر، مثل "الرجل السائر" و"القط"، اللذين يعرضان هنا كرمزين للحركة المستمرة والبحث العبثي عن المعنى. في منحوتة "الرجل السائر"، يتجسّد الإنسان في هيئة ظلٍّ نحيل يواصل السير بخطوات هشة ومترددة رغم كل شيء. وفي منحوتة "القط"، يتحوّل الحيوان المعدني إلى كائن أسطوري يذكّر بالآثار المصرية القديمة، وكأن مصير التيه والبحث مشترك بين الإنسان والحيوان.

يكتمل حوار الزمن في نهاية الجولة بعرض فيديو قديم لحاطوم يعود إلى عام 1985، تسير فيه حافية في شوارع بريكستون اللندنية، وقد ربطت بحذائها سلاسل ثقيلة، تجرّها في تعبٍ واضح. يتجاور مشهدها المتعب مع تمثال جيّاكوميتي "الرجل السائر" بخطواته المترددة. يظهر هنا التماس الوجودي المباشر بينهما: فنانة معاصرة تسير في أثر نحات رحل قبل عقود، كلاهما يحاول المضيّ قدماً في هذا العالم رغم الثقل المادي والوجودي الذي يجرّه.

ألبرتو جيّاكوميتي، المولود في سويسرا عام 1901، عُرف بكونه أحد أبرز وجوه الفن الحديث وتأثر بالسريالية ثم بالوجودية، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، ليتحول تركيزه إلى تجسيد الجسد الإنساني على حافة التلاشي. أما منى حاطوم، المولودة في بيروت عام 1952 لعائلة فلسطينية لاجئة، فقد استقرت في لندن منذ السبعينيات، وتحول منفاها إلى مادة جمالية لبناء فلسفة فنية متكاملة تتحدث عن الهشاشة والمنفى السياسي.

إن هذا المعرض في "باربيكان" هو شهادة على أن الفن الحقيقي يتجاوز الحدود الزمنية، ليصبح لغةً مشتركة بين فنانين تفصل بينهما أجيال، لكن توحدهما صرخة واحدة: التمسك بإنسانية الفرد في وجه قسوة العالم. إنه لقاء بين فنانين لم يلتقيا جسدياً، لكنهما يتشاركان ذات القلق الإنساني في قلب الدمار.