الإثنين  27 تشرين الأول 2025

الحياد المتواطئ: وثائقي فرنسي يطمس الفارق بين الضحية والجلاد في غزة

2025-10-27 09:20:14 AM
الحياد المتواطئ: وثائقي فرنسي يطمس الفارق بين الضحية والجلاد في غزة

تدوين- سابين العزة

في قلب العاصمة اللبنانية، وفي قاعة سينما «الكوليزيه» في الحمرا، عُرض قبل أيام فيلم «داخل غزة» (Inside Gaza)، الوثائقي الذي أنتجته «وكالة الأنباء الفرنسية» وأخرجته الفرنسية هيلين لام ترونغ. العرض، حظي بحضور لافت من الصحافيين الغربيين، سرعان ما كشف عن انقسام حاد في ردود الفعل، ما بين تصفيق حار لمخرجي الفيلم وغضب مكتوم لدى القلة العربية الحاضرة. فالوثائقي، الذي يوثق تجربة صحافيي الوكالة في القطاع بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، لم ينجح في تجاوز فخّ الرواية المهيمنة، بل سقط فيه ببراعة، مقدماً ما يمكن وصفه بـ «الحياد المتواطئ» الذي يساوي بين الضحية والجلاد.

الاحتلال يبدأ في 7 أكتوبر: طمس الحصار والحروب المتتالية

امتد الفيلم لنحو ساعة، وقوبل بوقوف وتصفيق مطوّل فور انتهائه، تلاه اعتلاء المخرجة ومدير مكتب «وكالة الأنباء الفرنسية» في غزة، عادل الزعنون، خشبة المسرح. لكنّ هذا التأثر لم يكن شاملاً. ففي الوقت الذي أشاد فيه الجمهور الغربي بما شاهده، عبّرت الأقلية العربية عن سخطها من الرسالة الواضحة التي حملها العمل: إسرائيل والمقاومة متساويان في الإجرام والمسؤولية عن الكارثة.

وكما درجت العادة في التناول الغربي للقضية الفلسطينية، خصوصاً الفرنسي، يحاول الفيلم أن يفرض رؤيته الخاصة على الواقع المعقد. بالنسبة لصنّاع «داخل غزة»، يبدأ التاريخ في السابع من أكتوبر 2023. أما ما قبل ذلك، فيبدو وكأن سكان القطاع كانوا يعيشون حياة طبيعية، من دون أي إشارة للحصار الخانق أو الحروب المتتالية التي دمّرت القطاع على مدار سنوات. هذا الاختزال للتاريخ ليس مجرد إهمال، بل هو عملية منهجية لطمس السياق، لإخراج الاحتلال من المعادلة، وتحويله إلى خلفية غير ذات أهمية.

افتُتح الوثائقي بلقطات من عملية «طوفان الأقصى» وما جرى في الجانب الإسرائيلي. ثم انتقل إلى الإشارة إلى جوانب من الحياة «الطبيعية» التي خسرها سكان غزة بسبب الحرب: كوب القهوة الرخيص، أو نزهة على الشاطئ. هذا الانتقال يعكس تبسيطاً صادماً، حيث تُختزل الكارثة السياسية والإنسانية في تفاصيل يومية عادية، في محاولة لإضفاء طابع «عالمي» على المأساة، فيما جوهرها يكمن في سياق الاحتلال والحصار.

مشهد من الفيلم

شهادات تحت قصف الحياد

وثّق الفيلم تجربة أربعة من صحافيي الوكالة: مي ياغي وعادل الزعنون والمصوّرين محمود الهمص ومحمد العبد، منذ اليوم الأول للحرب وحتى إجلائهم وعائلاتهم في ربيع العام الماضي. روى الأربعة اللحظات الأولى بعد «الطوفان»، والقرارات السريعة لتغطية الحدث، وصولاً إلى محطة مفصلية حين طُلب منهم إخلاء مكاتب الوكالة بسبب تهديد إسرائيلي، في إشارة ضمنية إلى أن الاحتلال لا يفرّق بين الصحافي والمقاتل، وأن جميع الغزيين هم هدف مشروع في نظر إسرائيل.

طُلب من فريق العمل النزوح جنوباً نحو رفح، ومن هناك تابعوا التغطية في ظل صعوبات بالغة، حيث أشاروا إلى أن ما تمكنوا من نقله لم يتعدَّ الـ 20 في المئة مما كان يحدث فعلاً.

مرّ الفيلم وكأنه يطفو فوق دماء الغزيين، ليخلص إلى أن المقاومة هي السبب في مأساة القطاع، وما خلفته من عشرات الآلاف من الشهداء وتدمير للمنطقة بأكملها.

تبسيط مُخلّ: الحكومة أم المقاومة؟

في ختام الوثائقي، ظهر مشهدان متقابلان ومختزلان: الأول لمعارضين لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في تل أبيب، والثاني لهتافات ضد «حماس» من داخل غزة. هذه الثنائية، التي تُقدَّم تحت ستار «الحياد»، ليست سوى تبسيط فجّ للواقع، وهي تؤدي إلى استنتاج واحد، وهو أن المشكلة في إسرائيل ليست في الاحتلال، بل في حكومتها الحالية، ولولا «حماس» لما وقعت المجزرة.

هذا التبسيط يمثل قمة «الحياد المتواطئ». فطوال فترة تغطيتها للحرب، حرصت «وكالة الأنباء الفرنسية» على الالتزام الصارم بالحياد اللغوي، حتى إنها تجنّبت استخدام وصف «الإرهاب» للمقاومة. لكن هذا الحياد يتحول إلى خبث عندما يضع الضحية والجلاد في ميزان واحد. أن يقول أحد العاملين في الوكالة إنه ضد القتل هو موقف إنساني بديهي، لكن وضعه في السياق الفلسطيني كإنجاز أخلاقي هو إهانة للواقع، ففي هذا السياق، لا يمكن أن يُساوَى بين الضحية والجلاد تحت شعار «الإنسانية».

التفسير الاستعماري: تملُّك السردية وتجريدها من السياسة

لطالما ادّعى الغرب أنه يمتلك القدرة على «تفسير» العالم العربي لنفسه وللعالم. غير أن هذا التفسير ليس بريئاً، بل هو شكل من أشكال التملُّك والسيطرة، طريقة لتحديد ما يجوز قوله وما لا يجوز. لقد أُخضعت الرواية الفلسطينية لتصفية لغوية ومؤسساتية أوروبية، جُرّدت من بُعدها السياسي لتُعاد صياغتها كحكاية إنسانية ناعمة، مجرَّدة من أي مطالب سياسية، ومناسبة للاستهلاك الإعلامي الغربي.

في فرنسا تحديداً، اللغة هي القانون. عندما أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون في عام 2019 أن معاداة الصهيونية يمكن أن تُعدّ شكلاً من أشكال معاداة السامية، لم يكن يقدم رأياً أخلاقياً، بل كان يرسم حدوداً للخطاب، تترتب عليها عقوبات. وبعد بدء الحرب على غزة، حُظرت التظاهرات المؤيدة لفلسطين، وحُلّت جمعيات، ونُبذ طلاب ونشطاء، قبل أن تتدخل المحاكم لتقليص هذا التعسف. لكن الرسالة وصلت: التضامن مع فلسطين هو خطر سياسي. حتى بعدما أقرّت «المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان» بأن الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل هي حرية تعبير، ظل الصوت الفلسطيني محاصراً، يُعامل في الإعلام الفرنسي كاستثناء يحتاج إلى تبرير وجوده قبل أن يُسمع.

المساعدات الإنسانية غطاء للتملُّك السياسي

يخفي الخطاب الإنساني الغربي السياسة خلف قناع الأخلاق. فيصبح اللاجئون «ضحايا»، وتتحول المقاومة إلى «إرهاب»، ويُختزل التاريخ في مفهوم «الصراع». تضخّ فرنسا والاتحاد الأوروبي أموالاً ضخمة في غزة والضفة الغربية، لكنها مشروطة بفحص أمني ورقابة مالية وصياغة لغوية «محايدة». تُستنزف المنظمات التي توثق الاحتلال في متاهات البيروقراطية، وتتحول القضية الفلسطينية إلى مجرد صور لممرّات إنسانية وطوابير طحين، بدلاً من أن تُعرَض كخريطة للاستعمار. لا يرى المشاهد سوى المساعدات، ولا يرى النهب والاستيطان والقتل اليومي. يُحذف الفاعل السياسي، ليُختزل الفلسطيني في متلقٍّ سلبي للمساعدة.

يعيد الإعلام الغربي إنتاج القوالب نفسها: «اشتباكات»، «دوّامة عنف»، «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها». هذه المفردات تلغي التسلسل السببي وتحوّل الاستعمار إلى نزاع متكافئ. في فرنسا، يعمل الصحافيون في ظل حذر قانوني وأمني شديد، ما يولّد رقابة ذاتية: لا أحد يمنعهم مباشرة، لكن الجميع يتجنّب قول ما قد يغضب الدولة أو يثير المؤسسات.

العقل الاستعماري: من الأرشيف إلى الرقابة الذاتية

العقل الاستعماري الفرنسي لم يمت؛ إنه ما يزال يتكلم من داخل المناهج، ومن مؤسسات الثقافة والإعلام المموّلة من الدولة. لم تعترف فرنسا بتعذيبها في الجزائر إلا بعد عقود، وما تزال تتحكّم بأرشيفها، إدراكاً منها بأن من يملك الأرشيف يملك التاريخ.

في الفضاء الثقافي، يُحتفى بالفلسطينيين كمبدعين في ظل الحزن والموت، لكنهم يُعاقَبون إذا ما تحدثوا في السياسة. تطلب المهرجانات والجامعات «الحياد»، وهو مرادف للصمت عن الاحتلال. تُستخدم تعريفات «معاداة السامية» كسلاح لإرباك الحدود بين نقد إسرائيل ومعاداة اليهود، حتى يصبح الحياد اسماً جديداً للرقابة. وعندما تُصنّف التظاهرات التضامنية كتهديد أمني، تبلغ السردية الاستعمارية ذروتها. يُطالب الفلسطيني أولاً بإثبات «براءته» قبل أن يُسمح له بالكلام. تصبح الدولة هي المحرر الأخير للنص. وهكذا يُعاد صياغة الرواية: استعمار قديم بأدوات جديدة، يكتب قصتنا بلغته، ثم يصفّق لنفسه على حسن «الاستماع».