تدوين- راما الحموري
بعد سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد وفراره إلى موسكو في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، انطلقت في سوريا موجة عارمة من محو رموز الحقبة السابقة، التي امتدت لنحو نصف قرن. ولم يقتصر الأمر على إزالة وإحراق صور آل الأسد والشعارات التي تمجدهم، والتي كانت بمثابة "خطوط حمراء" سياسية يُعاقب كل من يمسها، بل تجاوز ذلك إلى تفكيك شامل لكل ما يمثل هوية النظام البائد، بما في ذلك النشيد الوطني.
في أعقاب الفراغ السياسي الذي خلفه الانهيار، تحركت السلطات السورية الجديدة لتشكيل هوية بصرية وسمعية جديدة للدولة. كان من أبرز نتائج هذه التحركات اعتماد شعار الجمهورية الجديدة، وهو "النسر السوري"، بالتوازي مع البدء في مشاورات مكثفة حول صياغة نشيد وطني جديد يعكس روح الثورة والتغيير.
ما بعد النسر والتمثال: التطهير الرمزي
لم تتوقف جهود التطهير الرمزي عند تحطيم تماثيل الرئيس الراحل حافظ الأسد في الميادين وإزالة صور بشار الأسد من الشوارع والمؤسسات، بل شملت حلّ البنى الأساسية للنظام السابق. وشمل ذلك المؤسسات العسكرية والأمنية من جيش وشرطة، فضلاً عن حل "حزب البعث"، الذي حكم البلاد منذ ستينيات القرن الماضي.
وفيما يخص الرموز الوطنية، قررت السلطات الجديدة التوقف عن ترديد النشيد الوطني السابق أو أي شعارات لها علاقة بالنظام المخلوع، وذلك في إجراء مؤقت ريثما يتم اعتماد النشيد الجديد رسميًا. ولجأت كوادر الثورة السورية إلى استخدام قصيدة الشاعر عمر أبو ريشة "في سبيل المجد والأوطان" كنشيد بديل في الميادين والفعاليات، في تعبير رمزي عن القطيعة التامة مع الإرث البعثي.
هذا التوقف الرمزي ظهر بوضوح في مشهد رفع وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني علم سوريا في مقر سفارة بلاده في واشنطن وفي مقر الأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) الماضي، حيث لم يرافق رفع العلم ترديد أي نشيد وطني.

قرار "التربية" يوقف ترديد الأناشيد
في خطوة لتعزيز الانضباط ومنع أي اجتهادات فردية قد تُفهم على أنها استمرارية أو ترويج لرموز سابقة، أصدر وزير التربية محمد عبدالرحمن تركو قراراً يلزم مديريات التربية في المحافظات كافة بوقف ترديد أي نشيد أو شعار داخل المدارس العامة والخاصة، في سائر المراحل الدراسية.
ويهدف هذا القرار إلى إبقاء الساحة التعليمية "خالية" من أي رموز ريثما يتم اعتماد النشيد الوطني الرسمي للدولة والشعار الخاص بوزارة التربية، بما يتوافق مع الأصول الدستورية والقانونية. وجاء هذا القرار بعد مداولات للمجلس الأعلى للتربية والتعليم في ظل تداول أناشيد في بعض المدارس ذات مدلولات معينة، ما أثار استياء الشارع.
ويستذكر السوريون تاريخ الأناشيد الوطنية في بلادهم، حيث كان هناك نشيد معتمد منذ عام 1919 في عهد "المملكة العربية السورية"، ثم استُبدل عام 1938 بنشيد "سوريا يا ذات المجد". لكن النشيد الذي ظل عالقاً في الذاكرة حتى يومنا هذا هو "حماة الديار"، الذي اعتُمد عام 1938 بعد مسابقة وطنية أُطلقت لاختيار رموز الدولة الجديدة بعد نيل الاستقلال الجزئي عن فرنسا، وفاز بها الشاعر خليل مردم بك. ورغم استبداله مؤقتًا خلال فترة الوحدة مع مصر بنشيد "والله زمان يا سلاحي" (1958-1961)، عاد "حماة الديار" للتداول الرسمي بعد الانفصال، وبقي نشيداً للجمهورية حتى سقوط النظام.
لقاء "استمزاج" يطلق شرارة البحث عن الكلمات
من المتوقع أن يتم قريباً إعلان تشكيل لجنة صياغة خاصة للنشيد الوطني العتيد. ورغم عدم صدور أي قرار رسمي أو إعلان مسابقة حتى الآن، أثار منشور صادر عن رئاسة الجمهورية حول اجتماع ضم الرئيس السوري أحمد الشرع مع عدد من الشعراء، شرارة البحث عن مؤلف وملحن للنشيد الجديد.
ضم الاجتماع وزير الثقافة محمد الصالح، والشاعرين أنس وشقيقه حسن الدغيم، والكاتب الفلسطيني جهاد الترباني. وأكد المنشور أن الجلسة تضمنت الحديث عن صياغة النشيد الوطني الجديد. وقد وصف الشاعر السوري أنس الدغيم، وهو مسؤول في وزارة الثقافة، الجلسة بأنها "ودية"، مشيراً إلى أن الحديث عن النشيد جاء "عرضيًا"، ومؤكداً أن النشيد الوطني "ليس مشروعاً فردياً، ولا يمكن أن يكتب بمنطق الاستئثار، بل يجب أن يكون تعبيراً عن روح جميع السوريين".
هذا الاجتماع مع الشعراء أثار جدلاً واسعاً بين مؤيد لإلغاء النشيد القديم ومعترض على مناقشة الأمر مع مجموعة ضيقة من الشعراء. كما طالت الانتقادات صلاحيات الحكومة الانتقالية بإجراء تغييرات جوهرية كهذه. وذهب بعض المنتقدين إلى أن نشيد "حماة الديار" لا يرتبط نصًا بالنظام المخلوع.
النشيد السابق.. "مزعج ومرتبط بالإجرام"
وكشف عضو اللجنة العليا للانتخابات والكاتب السياسي حسن الدغيم عن تفاصيل ما دار في الجلسة مع الرئيس السوري، موضحاً أنها كانت بمثابة "استمزاج" للآراء. وتناولت المشاورات "الوجدانيات والقيم التي ينبغي أن يتضمنها النشيد الجديد، سواء من ماضي سوريا، أم حاضرها ومستقبلها، والثورة والشهداء والانتصار والتضحيات، ونشيداً يختزن القيم ويصافح قيم الحرية والكرامة والعدالة".
وأكد الدغيم أن الجلسة لم تكن بشأن "إجراءات تقنية بكتابة النشيد الوطني"، مشيراً إلى أن الرئيس استمع إلى عدد من القصائد الشعرية وناقش في الشعر ومعانيه. وشدد الدغيم على أن "كل دولة تحتاج إلى نشيد وطني، هذا الأمر أساس". وأضاف أن "النشيد الوطني السابق وإن كان مصاغاً وموضوعاً من الآباء السوريين بالجمهورية العربية السورية، لكن الذهنية ارتبطت بالجيش السوري البائد". وتابع أن "لذلك بقي نشيد حماة الديار نشيداً مزعجاً مرتبطاً بالإجرام والفتك والقصف ولم تعد الآذان تحتمل صوت حماة الديار وبات ضرورياً تغييره، وهذا ما نص عليه الإعلان الدستوري".

تحديات الإعلان الدستوري والبرلمان الغائب
على الرغم من التوافق على ضرورة التغيير، يرى ناشطون قانونيون أن على السلطة الحالية الالتزام بالإعلان الدستوري الحالي، والذي أقر بعد سقوط النظام. تنص المادة الخامسة من الإعلان على أن شعار الدولة ونشيدها يحددان "بقانون باقتراح من مجلس الشعب، وباقتراح من رئيس الجمهورية". هذا الأمر يستلزم موافقة البرلمان (مجلس الشعب) الذي لم يتشكل بعد، ما يضع الحكومة الانتقالية أمام تحدٍ دستوري في إجراء تغيير جوهري كالنشيد الوطني قبل استكمال البنية التشريعية للدولة الجديدة. وبالتالي، تبقى عملية ولادة النشيد الوطني الرسمي رهناً بالاستقرار السياسي واستكمال المسار الدستوري الذي يحدد شكل ومضمون رموز الجمهورية السورية الجديدة.