إبراهيم رحمة
عانى الكائن العربي في التسعين سنة الأخيرة كما هائلا من الويلات المبرمَـجة والمبرمِـجة.. حتى أمست في العقد الأخير الواحدة تتلو أختها ولم يعد الكائن العربي يفرق بينها أو يميزها من بعضها.. كما أنه يتراءى للملاحظ وللوهلة الأولى ذاك النوع من الغباء الذي يعالج به الكائن العربي بفرديته أو بجمعيته هذه الويلات.. حيث أنه عوض مجابهتها بأدوات القضاء عليها تراه يزيد من توالدها ومن قوتها، وعوض أن يجتهد الآخر (الذي هو عدو له) ويفني قوته من أجل ضخ مزيد من الويلات ضد العربي، نجد هذا الأخير وبكل الغباء يستزيد منها ويجعل الآخر في حل منه، بل ويتفنن في تنويعها ضد مكونات وجوده (الدينية والعرقية)..
ربما كانت الفترة ما قبيل اجتياح فلسطين وإعلان الكيان الغاصب لدولته من أشد الفترات الحرجة عند الآخر، فكان يجتهد من أجل إيجاد موقع قدم له في خريطة الشرق (علما أنه كان مستعمرا لها)، لكنه استعمار غير مستقر ويجابه كل يوم مقاومات شديدة.. كان وقتها الصراع عضليا أكثر منه عقليا ولهذا لم يهنأ الاستعمار بيوم واحد بل ووصل به الأمر أحيانا إلى حافة الاستسلام أمام التوحد العربي..
غير أنه وبمجرد الاجتياح وإعلان الكيان الغاصب لدولته، وصل الآخر إلى قناعة جديدة، هي لازمة الحد من العضلات (العسكرة) والتمكين للاحتلال العقلي (أصبح لاحقا يسمى الغزو الثقافي)، ولأجل تحقيق هذا النهج الجديد كان لا بد من أسس جديدة..
بعد تطوير الآخر لأسلحته العقلية حتى مَكْنَنَتِها، ابتكر منظومة من المشكلات ذات توالد تلقائي، فأصبح الكائن العربي في زمنه الأخير وكأنه يعايش لعبة داخل لعبة، ما إن ينتهي من مشكلة، حتى تخرج من الأولى مشكلة ثانية وهلمجرا، لا يكاد يفيق من واحدة وإلا وقد دخل أزمة جديدة ألعن من التي قبلها، لقد أصبح الكائن العربي أمام "ماتريوشكا"، هي غير "ماتريوشكا" المسالـمة، تلك اللعبة الروسية التي تتكون من مجموعة من الدمى، حيث كلما تفتح دمية تجد داخلها دمية أخرى..
"ماتريوشكا" التي يعيشها الكائن العربي هي من نوع آخر، هي لعبة قذرة تستهدف وجوده الواعي الفاعل، فتلهيه بمجموعة من الدمى (المشكلات)، والتي ليست بأساسية وقد لا تعنيه أحيانا (حيث ما يعني الكائن العربي هو بناؤه ونهضته بعيدا عن كل شكل من أشكال رد الفعل)، فيظل يتلهى بهذه الدمى المشكلات، وكل مشكلة بداخلها مشكلة أخرى، يستغرق زمنه فيها، فلا ينتبه إلا على شفير الإفلاس المدني ثم الحضاري..
اليوم وفي خضم هذه السنين العجاف، ها هو العربي بمثابة الكائن المسخ، قد يحدثك بلغة راقية، وقد تجده في مظهر لائق، وقد يؤلف لك المؤلفات المستحكمة، وقد وقد وقد.. لكنه عند الـموقفية الـمطلوبة منه لا تجد له أثرا، كما أنه لا يحسن فهم الواقع واستخلاص الدروس منه، ولا يربط الحاضر بماضيه القريب قبل البعيد، بل هو ينخرط في متاهات تزيد من قوة الآخر ضده، وتزيد من ضعف كيانه الجمعي قبل الفردي.. أحيانا يتبادر إلى ذهن الـملاحظ أن العربي ما هو إلا كائن يستدمر ذاته، كائن منتهي الصلاحية، وفي النتيجة هو كائن مسخ، ألغى ذاته قبل أن يلغي حاضره..
السؤال الملح، هو إلى متى يظل الكائن العربي في دوامة "ماتريوشكا"، وإلى متى يظل بعيدا عن دائرة الفعل الإنساني؟ فالصراع القادم هو عن عودة الإنسان المسخ إلى الحضور الواعي الفاعل..
بسكرة في 10 يوليو 2015.