السبت  28 كانون الأول 2024

القصة القصيرة.. من ســرق روايتي؟

2015-12-29 03:03:03 PM
القصة القصيرة.. من ســرق روايتي؟
عبد الغني سلامة

عبد الغني سلامة

الغيمة التي أمطرت إسمنتًا

وسط البلد، وتحديدا بجانب "الكازية"، تقع "مكتبة الغد"، صاحبتها سيدةٌ أربعينيةٌ وقورة، تمضي معظم وقتها في المطالعة. كانت، بالإضافة إلى ثقافتها، ماهرة في التسويق؛ فإذا ما سألتها عن أي كتاب في أي موضوع، تنزع نظارتها الطبية عن وجهها، وتبتسم لك بلا تكلف، وتقدم عرضًا موجزًا عنه، ومن النادر أن تذم كتابًا، أو تنتقص من شأن كاتب... هذه المرة أشرتُ إلى كتاب "العبقريات" للعقاد، وهممتُ بأخذه، فاعتذرت لي بأنه محجوز، فسألتها: لمن؟ وسرعان ما برقت عيناها بإجابة جاهزة: إنه لأحمد. ثم استرسلت كما لو أنها تنتظر هذا السؤال: إنه طالبٌ في الصف التاسع، يأتي كل آخر شهر ليشتري كتابًا بعد أن يجمع ثمنه من مصروفه اليومي. قلت لها حسناً، سآتي آخر الشهر لأتعرف عليه، لا أدري هل قلت ذلك بدافع الفضول، أم بدافع الرغبة في مساعدته!

في موعده المحدد دخل من باب المكتبة فتى نحيلٌ، أنيق الهندام، تغطي وجهه ابتسامة خجولة. بدأ بجولة بين الرفوف، وعيناه اللامعتان تتنقلان بين الكتب والعناوين. أخيرًا تناول كتاب "العبرات" للمنفلوطي، ثم دس يده في جيبه وأخرج ورقة من فئة العشرين شيكلا، ابتسمتُ له، فبادلني الابتسامة بإيماءة التحية، مددت يدي لأصافحه، كانت يداه طريتين، أشبه بغيمة، شددت عليهما قليلا فتساقطت بضع قطرات من الماء.

ناولته "الأجنحة المتكسرة" لجبران، وقلتُ له: أمام كل كتاب تشتريه، سأهديك كتابا آخر، كانت فرحته لا توصف، شعرت أنه يريد الرقص، تبادلنا الحديث والضحكات حتى امتلأت الغرفة بالغيوم، وقبل أن يخرج لمحتُ ساقًا خضراء تنبجس من بين الرفوف.

في الشهر الثاني لم يأتِ أحمد، ثم غاب ثلاثة شهورٍ متتالية، سألته لما عاد بقلق أين كنت؟ وماذا حصل؟ قال بنبرة حزينة: اكتشف أبي مكتبتي الخاصة المؤلفة من عشرين كتابًا، قَدَّر ثمنها بأكثر من أربعمئة شيكل... جُنَّ جنونه... "أربعميت شيكل يا مجرم تشتري فيها كتبْ وأنا بتغطّى ببطانية واحدة مهريّة! من بكره رح تنـزل معي عَ الورشة، ومش حَ استناك حتى تنهي المدرسة..." هذه كانت ردة فعله!

بعد سنتين التقيته في الشارع مصادفة، صافحته بحرارة، كانت يداه خشنتين، وابتسامته مرتبكة، وتعابير وجهه محايدة، وسحابةٌ خفيفة من الضباب تحيط به، سألته عن كتبه، فأجاب أن أباه تدفأ بها يوم الثلجة الكبيرة. ثم مضى في سبيله دون أن يلتفت إلى الوراء، حتى ذاب في الضباب.

قبل يومين انتهى تشرين، في ذلك المساء التقيته مصادفة في "المول"، نزل من سيارته ذات الدفع الرباعي، كان يخفي عينيه بنظارة سوداء ماركة "ريبان"، تابعتهُ إلى أن جلس في المقهى، صافحني بحيادية، كانت يداه ناعمتين باردتين، وخداه أحمرين مكتنـزين، يتحدث بهاتفه النقال بعصبية، أشار إليَّ بالجلوس، ثم أشار للنادل بطرف إصبعه دون أن يتوقف عن الحديث، تأملته بسرعة، لم أجد حوله أثرا لتلك الغيمة، كانت تنبعث منه رائحة عطر فرنسي نادر، لكني استنشقتُ بدلا منها بعض الغبار. خرجتُ مسرعا فوجدت كل الغيوم قد اختفت من سماء المدينة، ونبتت مكانها غابة أسمنت.

 

الغرفة

مضى من عمري أكثر من نصفه، على افتراض أني سأموت ميتةً طبيعية، ولا زلتُ أجهل كُـنْه هذا المكان الذي أعيش فيه، حيث أجده في كل مرة مختلفًا؛ رغم أنه مجرد غرفة صغيرة، تحتوي على سرير بجانبه منضدة صغيرة، فوقها صورةٌ لعجوز ثمانيني، تقابلها خزانةٌ بدرفتين، وستارةٌ داكنة تخفي وراءها نافذة كبيرة. تقريبًا تلك هي كل محتويات الغرفة. وهي على بساطتها، تظل محيرة.

أحيانا تبدو غرفة نوم دافئة، يطيب لي النوم فيها حتى ساعات الضحى، وأحيانا تبدو لي مجرد غرفة في فندق درجة ثالثة، آتيها في ساعة متأخرة من الليل، لدرجة أنني لم أفكر في تصليح حنفية المطبخ، ولا حتى إبلاغ موظف الاستقبال عنها. وأحيانا تبدو لي زنزانة موحشة في سجن عسكري شديد الحراسة.

الدكتور "زاهر" كان يؤكد لي أنها غرفة في مستشفى حكومي تستخدم لذوي الأمراض المعدية. لكنني لا أعاني سوى من صداع يأتيني بين الفينة والأخرى وأحيانا أشعر بمغص معوي، فهل الصداع والمغص يستوجبان المكوث في المستشفى سنوات عديدة؟ من المؤكد أنه مستشفى للأمراض العقلية، والدكتور يخفي عني هذه الحقيقة كجزء من العلاج، يا إلهي، "يعني أنا مجنون!"

يظلّ الشرطي "نادر" مبتسمًا على الدوام، رغم أنه يحمل بيده باستمرار "مطراق رمان" رفيعًا وطويلاً، ويلوح به مستمتعًا بصوته الرهيب. أيقظني في الصباح صائحًا بصوته الحاد: "لساتك نايم؟" وعندما سألته أين أنا؟ قال لي: أنت في غرفة توقيف مخصصة لمن تضبطهم الشرطة يقودون سياراتهم سكارى، أو بصحبة غانيات... لكني لا أملك سيارة، ولا حتى رخصة قيادة، ولم أمشِ يومًا مع أنثى غير أمي! هل أنا مجرمٌ خطير والشرطي يخشى مني فاخترع قصة غرفة التوقيف ليلطف عليَّ الأمر؟

كان يدخل الغرفة من حين لآخر أشخاص بلا ملامح، وبلا وجوه، يشبهون أولئك الذين يظهرون فجأة في الأحلام أو في الكوابيس، لا تدري من أين أتوا، ولا كيف اختفوا! أسألهم من أنتم؟ وماذا تريدون؟ ينظرون إليّ بعيونٍ زجاجية، ثم يمضون مخلفين وراءهم بقايا طعامهم وروائحهم الغريبة...

أكثر ما كان يحيرني في الغرفة تلك الصورة الكئيبة، التي قالت أمي عنها: "إنها صورة جد أبيك عندما كان في الجيش العصملي"، هل هذا يفسر تكشيرته الفظيعة؟ الحاجة "أم وفيق"، العجوز الثرثارة، قالت إنها صورة والدك، والدي الذي لم ألتقِه قط؛ حيث قُتل في أول يوم من الحرب، وكنت ما زلت حينها في أحشاء أمي. "أبو حسن" صاحب البقالة الوحيدة في الحي، كان يقول عنه باستمرار "إنه أطيب زبون مـرَّ عليه"، وإنه كان كريماً، وصاحب نخوة.

بينما كان يقول عنه "حسّان"، الجار اللدود، إنه كان انطوائيًّا وجبانًا ومعقّدًا. أما الأستاذ "أبو توفيق" فكان يؤكد أن صاحب الصورة لا يمت إليّ بصلة، وأنها مجرد صورةٍ رسمها مستشرق من خياله، وإذا بحثت في الأحياء المجاورة سأجد الصورة نفسها معلقة على جدران الصالونات، وينسج أهل البيت عنها الحكايات...

مع أني لم أحبّ الصورة، لكنني رفضت أن أصدق رواية الأستاذ "أبو توفيق". لا أدري لمَ تعلقتُ بها، صرت كلما زارنا أحدٌ أحدثه عن صاحب الصورة، وأروي له الحكايات عن بطولاته، والذبائح التي كان ينحرها إكرامًا للضيوف، وإذا وجدت تفاعلاً من المستمع أشير إليها: أنظر، ألا ترى الشبه بين عينيه وعينيّ؟  ذات مرة قررت التخلص منها، فوجدت الحائط عاريًا قبيحًا، فأعدتها على الفور. وعندما حصلت على "تأشيرة" للهجرة إلى كندا، كانت أول شيء أضعه في الحقيبة.

لكنْ، غرفتي والصورة، وحيرتي معهما، وكل ما قيل عنهما من قصص، كومة، والغرفة المجاورة لي كومة أخرى مختلفة... فهي على درجة من الغرابة تستعصي على الفهم. دوما مقفلة، أسمع منها بين الحين والآخر دوي انفجارات، من المفترض أنها كفيلة بهدم الغرفة، بل والعمارة كلها، ومع ذلك لم تتصدع جدرانها. في العصارى أشتم رائحة حشيشٍ تتسلل من تحت الباب، تختلط مع روائح عطور فاخرة، وأحيانًا مع رائحة مياه آسنة وعفونة.

في المساء أسمع تراتيل وأناشيد دينية تتداخل مع صوت أم كلثوم، وموسيقى غربية صاخبة، وضجيج سيارات، وهدير جنازير الدبابات، وأصوات طلقات متقطعة وسريعة، وبكاء أطفال، وعويل نساء، وتأوهات مومسات يطارحن الغرام، وضحكات مدوية... يا إلهي، كيف تتسع هذه الغرفة لكل تلك المتناقضات!

من ثقب الباب راقبت الغرفة طويلا، لأعرف من يدخلها ومن يخرج منها، لعلّي أفهم شيئًا مما يجري هناك. دخلها شيخٌ ملتحٍ يرتدي دشداشةً قصيرة، تبعه رجلٌ أربعينيّ أجنبيّ الملامح، يحمل حقيبة "سمسونايت"، ثم رجلٌ أشعث أغبر يبدو أنه لم يستحم منذ الثورة العربية الكبرى، وشاب "منكوش" الشعر يرتدي "بنطلون جينز" يشبه الفنانين غريبي الأطوار، وآخرون يبدو عليهم الهزال من شدة الجوع، وفتيانٌ يحملون بنادق رشاشة. لكني لاحظت أنه لم يخرج من الغرفة أحد

فكرتُ أكثر من مرة أن أدخل الغرفة المجاورة لأعرف حقيقتها، لكني كنت أتراجع، كيف سأفهمها من مجرد إطلالة سريعة، وأنا لم أفهم غرفتي التي أسكنها؟ أخيرًا دفعني الفضول لأفتح الباب. رأيت عشرات الأشخاص يتقاتلون فيما بينهم. أشلاءٌ وجثث ممدّدة على الأرض، وجوهٌ مكفهرة وأخرى مكتنـزة تشوبها حمرةٌ، وتبدو عليها آثار النعمة. ولشدة دهشتي رأيت صورة جدي، أو أبي، الصورة نفسها تقريبًا، منسوخة عشرات المرات، ومعلقة على كل الجدران. الاختلافات طفيفةٌ بين نسخة وأخرى، اللحية أطول أو أقصر، لون الشعر أغمق أو أفتح، حجم الأنف، لون الياقة... لكنها تحمل العيون والتكشيرة الفظيعة ذاتها!

لم أتمالك أعصابي، أمسكتُ بياقته وشددتها نحوي، وصحتُ بأعلى صوتي: من أنت بحق الجحيم، من أنت بحق الجحيم؟

 

حقيبة مدرسـية

لا شيء يؤثّر على الأب أكثر من ابنته الصغيرة: طلباتها، دموعها، ضحكتها، ترقّبها له عند مدخل البيت وعيونها على ما يحمل في يديه .. "فدوى" .. طفلة مشاكسة، ستكمل عامها السادس بعد شهرين، ولكنها بحاجة عاجلة لحقيبة مدرسية، لأن غدا سيكون أول يوم لها في المدرسة، اشترت لها أمها الدفاتر والأقلام من بقالة أبو محمد التي تبيع كل شيء إلا الحقائب .. "فدوى" لها ألف طريق إلى قلب والديها، ونادرا ما يُرفض لها طلب، لذا قرر أبوها أن يخترق الحصار الذي يفرضه جيش الاحتلال على القرية، وأن يتوجه عبر الجبال إلى نابلس، كانت حقول الزيتون في الجهة الغربية من بورين هي المنفذ الوحيد الذي يمكن أن يوصله هناك، فسلك الطريق الوعر منذ الصباح الباكر، وبصعوبة بالغة استطاع الوصول .. اشترى حقيبة زهرية اللون، تزينها صورة الأميرات الثلاث، وعلبة ألوان خشبية، ومطرة ماء.

علم من الناس أن الجيش زاد من تشديده إغلاق كل المنافذ والطرق، وحتى الطرق الالتفافية والممرات الجبلية، فقرر أن يمضي سحابة اليوم على المقهى، وفي زيارة بعض الأصدقاء إلى أن يهبط الليل؛ ليعود تحت جنح الظلام.

في المساء عاد من نفس الطريق، كان وحيدا، خائفا، يتنقل بين الأشجار على مهل، من بعيد لمح بضعة جنود يكمنون بانتظار صيد ما، كان يسمعهم يتجادلون وأحيانا يضحكون بصوت مرتفع، ظل مكانه ينتظر رحيلهم، قبل أن ينتصف الليل بقليل لم يعد يسمع شيئا، ساد صمت ثقيل، انتظر بعض الوقت ثم انطلق من مخبئه، مشى بضعة خطوات فقط قبل أن يسمع رشق رصاصات مزق صوتها السكون، إحداها استقرت في خاصرته اليمنى، في البداية كانت تشبه اللسعة، غطى الجرح بكفه، وانبطح أرضا، وسرعان ما اشتد به الألم، لكنه كتم صرخاته، وظل جرحه ينـزف بغزارة، وقواه تخور، وحرارته تنخفض .. أحسَّ بخوفٍ شديد، احتضن الحقيبة بقوة، حاول أن يبعدها عن مجرى الدم، لتظل نظيفة زهرية، شعر بدوار خفيف ثم أغمض عينيه على صورة فدوى وهي تسأله بلهفة: ما الذي أخّرك يا بابا .. نحن بانتظارك .. نحن قلقون ..

في الصباح كان الأهالي يتناقلون خبر العثور على جثة رجل مجهول يحضن حقيبة أطفال.

 

خمسة دقائق فقط

كان عمرها ثلاث سنوات عندما اقتحمت قوة احتلالية مدججة بالسلاح منـزلها الصغير في مدينة الخليل، ولم تفهم حينها من هؤلاء الدخلاء ؟ ولماذا يطرقون الباب بكل عنف في آخر الليل ؟ ولماذا اقتادوا أباها معصَّب العينين ؟ وإلى أين سيأخذونه !!

كبرت "عبير" قليلا .. ودخلت المدرسة .. صارت تسمع أقرانها الصغار يتحدثون عن آبائهم، ويتباهون بهدايا العيد، وأن سَحَر ساعدها والدها بحلِّ واجباتها، وإيمان طلبتْ من أبيها غيتاراً يعمل بالبطارية، أما علياء فقد وبخها أبوها لأنها صعدت على كتفه وهو يغالب النعاس .. عادت للبيت مثقلة بالأسئلة، أطلقتها بوجه أمها دفعة واحدة .. ولم تتلق سوى دموعها ونحيبها .. قالت لها بتصميم: أريد أبي هذا المساء .. أريده بشدة .. حتى لو صرخ بوجهي سأصعد على كتفيه ..

كبرتْ سنة أخرى، وعرفتْ أن والدها محكوم بأربعة مؤبدات .. سألتْ جدها .. كم يوما تساوي أربعة مؤبدات ؟؟ ومن هؤلاء الأوغاد الذين سيحبسونه كل هذه الساعات الطوال ؟! قضمت سنة أخرى من الأسئلة دون أن تجد إجابة ..

في العطلة الصيفية اصطحبتها أمها إلى سجن النقب؛ أربعة ساعات في الطريق، ساعتين عند مدخل السجن، وساعة أخرى للتفتيش، وأخيرا حظيت بخمس دقائق كاملة لترى أباها؛ وقفت أمامه بذهول ..

هل هذا هو أبي ؟؟ آه ما أجملك .. خذني عندك .. ضمني بين جناحيك ..  قبّلني .. كانت عيناها تقول ذلك، وهي تفيض بالرجاء .. أما هو فكان قلبه يتقطع .. ويؤجل دموعه إلى المساء ..

اعتادت زيارته كل شهر .. وفي كل مرة تتعلق به أكثر .. يراها تكبر .. وتراه يهرم .. والوقت يسرقهما معا .

في ذهابها ترى صحراء النقب تحف بها الأشجار، وهي تقفز فوقها كالعصافير .. وحين تتعب تحط في حضن أبيها .. أما في عودتها فلا ترى إلا الرمال الكئيبة .. والريح الصفراء .. وسؤال ينشر حروفه على طول الطريق: (لماذا لا يَدَعونني أعانق أبي ؟!) وعندما تأوي لفراشها تجد السؤال مختبئا تحت اللحاف .. تنام من التعب، وفي الصباح ينسل السؤال من تحت الباب ليوقظها، تنهض حائرة، وفي الصف تفتح كتاب الجغرافيا فترى نفس السؤال يتكرر في كل الصفحات، تصل بيتها والسؤال ما زال يدلف من حقيبتها المثقوبة.

ظل السؤال يطاردها أينما ذهبت .. يحيّرها، ويدفعها نحو الصمت، حتى صار صمتها بلا نهاية .. عيناها شاردتان حزينتان .. تنـزفان دمعا ساخنا .. هل الشوق يؤلم إلى هذا الحد؟ لا أحد يعرف الإجابة إلا عبير وأهلها ..

تقدم أهلها بطلب من إدارة السجن للسماح لها بالدخول عند أبيها خمسة دقائق فقط؛ لتعانقه وتقبّله .. لتلمس يديه وتحس بأبوّته .. أجاب آمر السجن ببرود: "يوسف السكافي" مخرب وإرهابي .. اشتكوا للصليب الأحمر وللمنظمات الدولية ولمحامين عرب وإسرائيليين وأعضاء كنيست .. ولكن الطلب كان يُرفض المرة تلو المرة.

في آخرة زيارة، كانت رغبتها بعناق أبيها جامحة .. وقفت أمام اللوح الزجاجي الذي يفصلهما عن بعضهما وطرقته بقوة، ألقت بسماعة الإنتركم على الأرض، صرخت بشكل هستيري،  بكت بحرقة .. هذه المرة كان وقْع السؤال عليها قاسياً، لم تستوعبه، لم تقبل أي إجابة .. أحسَّت أن الهواء ثقيلٌ ويطبق على صدرها، وأن هذا العالم كله ظالم، وبلا قلب، ولا يعرف الرحمة ولا العدالة ..

سألتها معلمة الحساب لماذا نسيتِ جدول الضرب يا عبير ؟ سألتها سعاد لماذا نسيتِ عيد ميلادي العاشر ؟ سألها جدها لماذا نسيتِ مواقيت النوم والإفطار؟! سألتها أمها لماذا نسيتِ قلبكِ في النقب ؟ كان جوابها واحدا: بعد أن عرفتُ أني لن أعيش أربعة مؤبدات؛ لم أعد أذكر شيئا ..

تدهورت صحتها، وساءت أحوالها، فقدت قدرتها على الإمساك بأي شيء، تم نقلها لمستشفيات الأردن، ولكن بلا جدوى .. وأخيرا .. وفي شهر نيسان، بينما كانت الأرض تنبت بالأقحوان، والأشجار تزهو بنوّارها .. كانت عبير قد دخلت في غيبوبة .. كان جسدها يرتجف .. ويداها تلفان على خصرها بقوة كأنما تحضن نفسها .. ونفس السؤال يعذبها، وبعد ثلاثة أيام .. أيقنت أن هذا العالم بأسره متواطئ وعاجزٌ عن منحها خمسة دقائق فقط .. فأرسلت لأبيها قبلة .. ثم أغمضت عينيها على حلم جميل .. وأسلمت الروح لبارئها ..

عاشت عبير أحد عشر عاما بأمنية واحدة .. خمس دقائق فقط .. ماتت عبير ولم تحقق أمنيتها.