الأربعاء  03 أيلول 2025

“إسرائيل".. وانهيار سردية الاضطهاد و"معاداة السامية"

2025-09-03 08:38:43 AM
“إسرائيل
ما يخسره الاحتلال اليوم ليس فقط علاقات دبلوماسية أو تعاقدات اقتصادية، بل الأساس الذي قام عليه: الشرعية

تدوين- محمد بدر

منذ اندلاع الحرب التي شنّها جيش الاحتلال على قطاع غزة عقب عملية السابع من أكتوبر 2023، وجدت “إسرائيل” نفسها أمام تحدٍّ يتجاوز حدود الميدان العسكري إلى عمق صورتها الدولية. فعلى مدار عقود، استطاعت “إسرائيل” أن تُحافظ على هالة من “الشرعية” و“الدعم الغربي غير المشروط”، مستندة إلى خطاب تاريخي يقوم على سردية الهولوكوست والاضطهاد الأوروبي لليهود. غير أنّ الحرب على غزة، بطولها المدمر وشراستها غير المسبوقة، هدمت هذا الأساس، وعرّت “إسرائيل” أمام العالم كدولة تمارس سياسات إبادة جماعية بحق شعب أعزل، ما دفع كثيرًا من الحكومات، والمنظمات، والمجتمعات، إلى إعادة النظر في طبيعة العلاقة معها. لم تعد “إسرائيل” في موقع الضحية، بل باتت في نظر غالبية الشعوب لاعبًا استعماريًا متغطرسًا يقود حربًا مفتوحة ضد المدنيين. وهنا يكمن التحول التاريخي: من كيان كان يتباهى بكونه “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط” إلى كيان يُوصَف عالميًا بأنه دولة فصل عنصري وإبادة.

لم تعد “إسرائيل” في موقع الضحية، بل باتت في نظر غالبية الشعوب لاعبًا استعماريًا متغطرسًا يقود حربًا مفتوحة ضد المدنيين

لقد بنت “إسرائيل” قوتها الناعمة لعقود على مقولة أنّها دولة صغيرة مهددة وسط محيط عربي معادٍ، وأنها تسعى للبقاء فقط. لكن مشاهد الدمار الواسع في غزة، ومئات آلاف الشهداء والجرحى الذين سقطوا بفعل قصف عشوائي لم يترك حجرًا على حجر، جعلت من هذا الخطاب غير مقنع. صور المستشفيات المدمرة، والمدارس المحترقة، ومراكز الإغاثة التي تُستهدف أمام عدسات الكاميرات، انتشرت على نطاق واسع عبر وسائل الإعلام التقليدية والمنصات الرقمية. منظمات إنسانية كبرى مثل “أطباء بلا حدود” و“الأونروا” و“الصليب الأحمر” وثّقت عشرات المجازر في تقاريرها الرسمية، متحدثة عن حصار تجويعي وقصف ممنهج، وهو ما أعطى شرعية لخطاب يتهم الاحتلال بارتكاب جرائم حرب. والجيل الجديد في الغرب، الذي يتلقى أخباره مباشرة عبر “تيك توك” و“إنستغرام”، لم يعد يكتفي ببيانات وزارات الخارجية، بل يشاهد بأم عينيه صور الأطفال تحت الركام. هذا الانكشاف العلني ألغى قدرة “إسرائيل” على التحكم بالرواية الإعلامية كما فعلت في الماضي.

على المستوى السياسي والدبلوماسي، شكّلت الحرب نقطة انعطاف؛ إذ بدأت دول عديدة تُعيد تقييم علاقتها مع الاحتلال بشكل غير مسبوق. في أميركا اللاتينية، اتخذت البرازيل موقفًا حادًا حين شبّه الرئيس لولا دي سيلفا مجازر غزة بالهولوكوست، ما أثار عاصفة دبلوماسية وأدى إلى استدعاء السفير “الإسرائيلي”.

 بوليفيا ذهبت أبعد من ذلك حين أعلنت قطع علاقاتها الدبلوماسية نهائيًا مع “إسرائيل”. أما تشيلي وكولومبيا فقد سحبتا سفيريهما، في خطوة رمزية لكنها مؤلمة للاحتلال الذي كان يعتبر أميركا اللاتينية ساحة نفوذ. في جنوب أفريقيا، برزت لحظة فارقة حين قادت بريتوريا الملف القانوني ضد “إسرائيل” أمام محكمة العدل الدولية، مقدمة أدلة على أنّها ترتكب إبادة جماعية. هذه الخطوة أعادت فلسطين إلى واجهة القانون الدولي، ومنحت شرعية عالمية للاتهامات الموجهة ضد الاحتلال.

الجيل الجديد في الغرب، الذي يتلقى أخباره مباشرة عبر “تيك توك” و“إنستغرام”، لم يعد يكتفي ببيانات وزارات الخارجية، بل يشاهد بأم عينيه صور الأطفال تحت الركام

تركيا من جهتها جمدت التبادل التجاري العسكري والمدني، وأعلنت دعمها للجهود الرامية لمحاسبة الاحتلال أمام المحكمة الجنائية الدولية. أما أوروبا، فقد شهدت انقسامًا واضحًا: فبينما ظلت برلين ولندن متمسكتين بالدعم غير المشروط، اعترفت كل من إسبانيا وإيرلندا والنرويج رسميًا بدولة فلسطين، وبدأت فرنسا تدرس فتح سفارة لها في رام الله، وهو ما يمثل ضربة قوية لمكانة “إسرائيل” الدبلوماسية.

حتى الولايات المتحدة، الحليف التاريخي والأهم للاحتلال، لم تسلم من تداعيات هذا التحول، صحيح أنّ الدعم العسكري والسياسي ظل قائمًا في البيت الأبيض، لكن المجتمع الأميركي شهد شرخًا غير مسبوق. الجامعات الكبرى مثل كولومبيا وكاليفورنيا تحولت إلى ساحات اعتصام ضخمة، هي الأكبر منذ احتجاجات حرب فيتنام، حيث رفع آلاف الطلاب شعارات تطالب بقطع الاستثمارات الأكاديمية عن “إسرائيل”. في الكونغرس، ارتفعت أصوات جناح تقدمي داخل الحزب الديمقراطي بقيادة شخصيات مثل بيرني ساندرز ورشيدة طليب وأوكاسيو كورتيز، تطالب بوقف تسليح الاحتلال. حتى داخل الحزب الجمهوري، الذي يُعرف بتأييده المطلق، بدأت تظهر أصوات معارضة مثل النائبة مارجوري تايلور غرين، التي انتقدت الدعم المفتوح.

هذه الانقسامات توحي بتحولات استراتيجية قد تقوض “العلاقة الخاصة” بين واشنطن وتل أبيب على المدى المتوسط، خصوصًا أنّ الانتخابات الأميركية القادمة ستتأثر بالضرورة بمواقف الشباب والناخبين الجدد، الذين يرون “إسرائيل” كقوة استعمارية لا كحليف ديمقراطي.

في الجانب القانوني، تعرض الاحتلال لصفعة تاريخية. ففي مطلع 2024، أصدرت محكمة العدل الدولية قرارًا يلزم “إسرائيل” باتخاذ خطوات فورية لمنع الإبادة في غزة. ورغم أنّ القرار لم يكن ملزمًا بوقف إطلاق النار، إلا أنّه أضفى شرعية على الاتهامات. بعد ذلك بعام، أصدر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان طلبات توقيف بحق رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير جيش الاحتلال السابق يوآف غالانت وقادة عسكريين آخرين، بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. كما رفعت منظمات حقوقية عشرات الدعاوى أمام محاكم أوروبية استنادًا إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية، بما يعني إمكانية اعتقال مسؤولين من الاحتلال عند دخولهم بعض الدول الأوروبية. هذه التطورات القانونية غير مسبوقة في تاريخ “إسرائيل”، وتضعها لأول مرة في خانة الكيانات المارقة التي تُعامل كجنرالات ديكتاتوريات أفريقيا وأميركا اللاتينية في سبعينيات القرن الماضي.

في المجال الاقتصادي، لم يخرج الاحتلال سالمًا أيضًا؛ وكالات التصنيف الائتماني مثل “موديز” و“فيتش” خفّضت نظرتها المستقبلية للاقتصاد “الإسرائيلي” من “مستقر” إلى “سلبي”، محذرة من مخاطر الحرب المستمرة على الاستقرار المالي. شركات عالمية كبرى وجدت نفسها محاصرة بحملات مقاطعة في العالم العربي والإسلامي، وأبرزها “ماكدونالدز” و“ستاربكس”، اللتان تكبدتا خسائر بملايين الدولارات بعد اتهامهما بدعم الاحتلال. حتى الشركات التكنولوجية بدأت تُعيد النظر في الاستثمار في تل أبيب، بسبب التوتر الأمني والسياسي، ففضّلت بعضها تحويل مقراتها إلى بلدان أكثر استقرارًا مثل قبرص واليونان. وهذا التراجع يضرب مباشرة أحد أعمدة الاقتصاد “الإسرائيلي”، الذي يعتمد على جذب استثمارات أجنبية في قطاع التكنولوجيا الفائقة.

الانتخابات الأميركية القادمة ستتأثر بالضرورة بمواقف الشباب والناخبين الجدد، الذين يرون “إسرائيل” كقوة استعمارية لا كحليف ديمقراطي

على الصعيد الإعلامي والثقافي، انقلبت الموازين؛ لم تعد “إسرائيل” تملك السيطرة على رواية الحرب كما في العقود الماضية. وسائل التواصل الاجتماعي فضحت كل شيء: من صور الأطفال الشهداء إلى قصف المستشفيات والمدارس. حملات مثل #AllEyesOnGaza جمعت مئات الملايين من المشاركات، وجعلت من غزة بؤرة اهتمام عالمي. الفنانون والمشاهير انضموا بدورهم إلى موجة التضامن، بدءًا من بيلا حديد ودوا ليبا ووصولًا إلى مخرجين عالميين، ما وضع الاحتلال في مواجهة عزلة ثقافية غير مسبوقة. الجامعات الغربية بدورها قطعت شراكات بحثية مع مؤسسات “إسرائيلية”، وتوسعت حركة المقاطعة الأكاديمية BDS بشكل جعلها تيارًا رئيسيًا لا مجرد نشاط هامشي.

هذه الحرب لم تُضعف فقط مكانة “إسرائيل” الدولية، بل أيضًا صورتها الإقليمية؛ فقد اضطرت الدول العربية التي وقعت “اتفاقيات إبراهيم” – مثل الإمارات والبحرين والمغرب – إلى التراجع خطوات للوراء تحت ضغط شعبي، ما جعل التطبيع يبدو وكأنه خيار هشّ لا يمكن الدفاع عنه في ظل المجازر. أما الدول التي لم تطبع، فوجدت في الحرب مبررًا لتعزيز خطابها المناهض للاحتلال، كما فعلت قطر وتركيا. لقد أعادت الحرب الاعتبار للقضية الفلسطينية كقضية مركزية في الوعي العربي والإسلامي، بعدما حاولت “إسرائيل” طيلة عقد كامل تهميشها عبر الانخراط في صفقات اقتصادية وإقليمية.

استراتيجيًا، تكمن الخسارة الأكبر في أنّ “إسرائيل” لم تعد تُرى عالميًا كقوة ردع لا تُقهر، رغم المجازر والتدمير الهائل، واصلت المقاومة الفلسطينية إطلاق الصواريخ وإدارة المعارك من تحت الأرض، ما فضح محدودية قدرة جيش الاحتلال على تحقيق حسم عسكري. في لبنان، عزز حزب الله حضوره، وأصبح لاعبًا إقليميًا لا يمكن تجاهله. هذه التطورات قوضت أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”، وأظهرت أن “إسرائيل” ليست سوى قوة عسكرية ضخمة لكنها عاجزة عن فرض استسلام.

هذه الحرب لم تُضعف فقط مكانة “إسرائيل” الدولية، بل أيضًا صورتها الإقليمية؛ فقد اضطرت الدول العربية التي وقعت “اتفاقيات إبراهيم” – مثل الإمارات والبحرين والمغرب – إلى التراجع خطوات للوراء

في النهاية، ما يخسره الاحتلال اليوم ليس فقط علاقات دبلوماسية أو تعاقدات اقتصادية، بل الأساس الذي قام عليه: الشرعية. الكيان الذي نشأ بقرار أممي عام 1948 واستند على الدعم الغربي، يجد نفسه الآن متهمًا في أرفع المحافل الدولية، ومعزولًا عن شعوب العالم، ومكروهًا من الرأي العام العالمي. هذه الخسارة قد لا تُسقطه عسكريًا في المدى القريب، لكنها تزرع بذور أزمة وجودية عميقة ستتفاقم في العقود المقبلة. التاريخ يعلمنا أن الدول لا تنهار فقط حين تخسر الحروب، بل حين تخسر صورتها ومكانتها في العالم. وهذا بالضبط ما حدث لـ”إسرائيل” بسبب حربها على غزة: فقدت العالم، وربما فقدت مستقبلها.