السبت  28 كانون الأول 2024

أبجدية ضوء.. الحداثة؛ ما بعد الحداثة والعرب

2015-12-29 03:08:50 PM
أبجدية ضوء.. الحداثة؛ ما بعد الحداثة والعرب
إبراهيم رحمة

إبراهيم رحمة

تُعَبّر كلمةُ حداثة (عصرنة أو تحديث) عن أي عمليةٍ تَتَضمّنُ تَحْديثَ وتَجْديدَ ما هو قديمٍ لذلك تُسْتَخْدَمُ في مجالاتٍ عِدّةٍ، لكنّ هذا الـمُصطلَحَ يَبْرُزُ في المجال الثّقافيِّ والفكريِّ التّاريخيِّ لِيَدُلَّ على مرحلةِ التّطوُّرِ التي طَبَعَتْ أوروبا بشكلٍ خاصٍّ في مرحلة العُصُورِ الحديثةِ. بشكلٍ مُبَسَّطٍ، يُمْكِنُ تَقسيمُ التّاريخِ إلى خمسةِ أجزاءٍ (وهذا من منظورٍ أوروبيٍّ بَحْتٍ): ما قبل التاريخ، التاريخ القديم، العصور الوسطى، العصر الحديث والعصر ما بعد الحديث.

مُعظَمُ الحياةِ الحديثةِ تَغَذَّتْ من مصادرَ مُتَعَدِّدَةٍ: اكتشافاتٍ علميةٍ مُذهِلةٍ، معلوماتٍ عن مَوْقِعِنا من الفضاءِ وتَصوُّرِنا عنه، مَكْنَنةِ الصّناعةِ التي حَوَّلتْ الـمَعْرِفةَ بالعلومِ إلى تِكنُولوجيا، وغيرها. كلُّ هذا يَخْلُقُ بيئاتٍ جديدةً للبشرِ ويُدَمِّرُ القديمةَ، فهو يُعجّل حركةَ الحياةِ، يُبَلْوِرُ أفكارًا واتجاهاتٍ اجتماعيةً وسياسيةً ودينيةً، يُكَوِّنُ قِوًى وسُلُطاتٍ جديدةً، يُعَقِّدُ العلاقاتِ بين النّاسِ وبعضِهُمْ وبين النّاسِ والمؤسساتِ المختلِفةِ، يزيدُ أو يُغَيِّرُ اتجاهاتِ الصّراعاتِ الطّبقيّةِ ويَفْصِلُ الملايينَ من البشرِ عن تاريخِهِم وعاداتِهِم الموروثةِ منذُ الأزلِ.

غيرَ أنّ الغَرْبَ يبدو أنّه تَجَاوَزَ هذه المرحلة (مرحلة الحداثة) إلى مرحلةٍ جديدةٍ هي مرحلةُ ما بعدَ الحداثةِ؛ حيثُ تُعتبَر فلسفةُ ما بعدَ الحداثةِ فلسفةً نقديةً لِمُجْمَلِ مرحلةِ الحداثةِ وفلسفاتِها التي سيطرت على الحضارةِ الغربيّةِ بعدَ عصرِ النّهضةِ والثّورةِ الصّناعيّةِ وتَرَكّزتْ على فِكرةِ التّحكُّمِ في الطّبيعةِ ومواردِها والتّحكُّمِ في البشرِ والمجتمعاتِ. لكنّها من وُجهَةِ نَظَرٍ أخرى قد تكونُ فلسفيّةً بَحْتَةً هي؛ تقديمُ فلسفةِ الحداثةِ بأسلوبٍ إنسانيٍّ مفهومٍ وواضحٍ ومُرْتَبِطٍ ببساطةٍ مع هُوِيَّةِ الـمُفَكِّرِ والـمُفَكَّرِ فيه والـمُفَكَّرِ له؛ مثلا من وُجْهَةِ نظرٍ فنّيّةٍ؛ الرّسّامُ واللّوحةُ والمتَذَوِّقُ على التّوالي.

إنّ صراعَ الأفكارِ دَفَعَتْ الغَرْبَ بدايةً إلى مرحلةِ الانفعالِ ثم الارتباكِ عَقِبَهَا وَعْيٌ بالذّاتِ وبالزّمنِ مِمَّا نَتَجَ عن كلِّ ذلك مَوْقِفِيَّةٌ واعيةٌ أدخلتْ الفَرْدَ الغَرْبِيَّ مثلَ مُجْتَمَعِهِ في صَيْرُورَةٍ لن تَقِفَ غَدًا على أيّةِ حالٍ؛ قد يَمْتَدِحُهَا بَعْضُهُمْ وقد يَنْتَقِصُهَا بعضٌ آخَرُ غيرَ أنّها مَسِيرَةٌ خيرٌ من الرُّكودِ؛

السّؤالُ الذي يَطْرَحُ نفسَهُ بإلحاحٍ: أينَ العَرَبُ؟

حاول بَعْضُ العَرَبِ التّفاعُلَ مع مِثْلِ هذه المدارسِ (الحداثة؛ ما بعد الحداثة)؛ غير أنّه كان تفاعُلا مُحْتَشِمًا لعدّةِ أسبابٍ: بعضُها مُرْتَبِطٌ بالذّهنيّةِ القائمةِ (لاسِيّما ما ارتبطَ منها بالـمُعْتَقَدِ (إسلاما كان أو غيرَه)؛ بينما رَبَطَ بعضُهم ما يَلْزَمُ أنْ يَحْدُثَ في المنطِقَةِ العربيّةِ بِما يَحْدُثُ هناك وَراءَ البِحارِ؛

سُؤالٌ جديدٌ يَطْرَحُ نفسَهُ هو الآخَرُ بإلحاحٍ: هل الموقفيّةُ العربيّةُ يَجِبُ لها المرورُ عَبْرَ الموقفيّةِ الغربيّةِ حتّى تكونَ مُدْرِكَةً واعيةً؛ بعبارةٍ أخرى؛ أهو لِزامٌ على المنظومةِ العربيّةِ (فكرا واعتقادا وتَصَوُّرا ومِنهاجا وتَفَاعُلا) أن تكونَ نفسَهَا المنظومةَ الغربيّةَ أو حتّى مُقتبَسَةً منها أو مُقتبِسَةً أو مُتَقاطِعَةً معها؟ أم يُمْكِنُ أن تكونَ ثَمّةَ منظومةٌ عربيّةٌ مستقلةٌ؟؛

لماذا طَرْحُ مثلِ هذا الموضوع (الحداثة وما بعد الحداثة والعرب)؛

إنّ من يَرَى في نفسِهِ الوَعْيَ وإرادةَ الوَعْيِ من مجموعةِ الـمُنتَمِينَ إلى المنطقةِ العربيّةِ بشكلٍ أو بآخَرَ؛ يُشَكِّلُ زُبدةَ مَنْ يَتَكَلَّمونَ العربيّةَ (سواءً أتقنَ اللّغةَ أم لا)؛ لذا فَعَلَى الزُّبدةِ أنْ تُفكّرَ مَعَنَا؛ لا أقولُ للخُروجِ من المأزقِ الرّاهِنِ الذي تَتَخَبَّطُ فيه المنطقةُ العربيّةُ فَرُبّما هذا الأمر (الخروجُ) ما يزال بعيدا لِعدّةِ أسبابٍ مَوْضُوعيّةٍ؛ إنّما يكونُ على هذه الزّبدةِ وَضْعُ - على الأقلِّ - مَنَاراتٍ على الطّريقِ؛ إشاراتٍ؛ ونِقَاطِ ضَوْءٍ؛ ثم تكونُ هذه الزّبدة هي الـمُبادِرةُ لِتَشْكيلِ فِكْرٍ جديدٍ مِنْ شأنِهِ تَحْرِيكُ السّاكنِ في العقلِ العربيِّ؛

إذًا؛

كيف يُمْكِنُ تَحْرِيكُ السّاكنِ في العقلِ العربيِّ قَصْدَ الخُروجِ مِنْ منطقةِ ما تحتَ الصِّفرِ التي ظَلَلْنَا نُرَاوِحُ فيها زَمَنًا يَزِيدُ عنِ القُرُونِ؟؛

في انتظارِ إثراءِ المتلَقّي لهذا للطَّرْحِ..