الأحد  22 كانون الأول 2024

اعتراف أطول من اللّازم (الاعتراف السّابع!) بقلم: مهنّد ذويب، وآخرون.

2018-11-13 07:35:15 PM
اعتراف أطول من اللّازم (الاعتراف السّابع!)
بقلم: مهنّد ذويب، وآخرون.
مهند ذويب

كأنّني والخَريفُ متشابِهان، لا، إنّني والخَريفُ متشابِهان، ونعاني من إشكاليّة حرفِ التّوكيد والنّصب، واختيارِ الحرف الصّحيح، والوجهة الصّحيحة، رغمًا عنّا يحدثُ كلّ شيء، فالرّياح إرادة الآلهة التي لا تعرفُ ما تريد، السّماء رماديّة، هذا اللّون المزيج، هذا اللّون الذي لم يحدّد وجهته بعد مثلي ومثل الخَريف، ومثل درويش الذي يصدح بجانِبي منذُ ساعة ونِصف، ويكرّر: "الحَنين وجعٌ لا يحنّ إلى وجع"، "هكذا يولد الحَنين من كلّ حادثة جميلة، ولا يولد الحَنين من جرح"، يستمرّ يستمرّ، وأنا أنظر من النّافذة المطلّة على السّماء، في الطابق الرابع، وأفكّر في المَسافات، "لا أحد يحنّ إلى وجعٍ أو كابوس"، أنا أحنّ لكلّ شيء، وكنت قررت أن لا أحنّ أبدًا، ولا أسمع درويش، ولا الناي، ولا أقرأ الشّعراء/ الوباء، مترفي الحُزن، غير الصالحين للحياة، كأنهم عابرون في كلّ شيء، أقرّر ولا ألتزم بشيء، يَصفعني عصام الديك  فيقول: "هَل تَشعُرينَ بالبَردْ، ليتَني البَردُ إذَن!"، فأعود إلى إشكاليّة حرف التّوكيد والنّصب: "إنّني البرد"، ولا تَشعر بشيء، أنام محمّلًا بشعورها، ولا أحد يشعر بشيء، أصحو وحدي على صوتِ نفسي، ونَفَسي، ولا يحدث شيء، أنا لا أصلح لشيء.

أنهمك في الشّرود، يصفعني سؤال المسافة مرّة أخرى، أنا في الطابق الرابع، هل السّماء أقرب أم الأرض؟، هذا سؤال مجازي جدًا، فلسفيّ، لو كان مدرّسي في الفلسفة أمامي لسألني: ماذا تعني بالسّماء، عندها لن أتردد في شرح وجهة نظري في نصف ساعة، ثم لا يخرج المدرّس بشيء، أو حقيقية، ويُسرّ جدًا، لأنّي لا أعطي إجابات، أنا الأسئلة، ما فائِدة أنّنا "نلقى الإجابة حين ننسى الأسئلة"، لا فائِدة، أن لا تَصل خيرٌ من أن تصل متأخرًا، لأنّها عندما تأخرت عنّي فقدت ثلاثة أرباع قلبي المستهلك، ولأنّني عندما تأخرت عن حصّتي المدرسيّة لم يعاقبني المدرّس، فاعتدت التأخر، حتّى فقد الوقت قيمته، كلّ شيء يفقد قيمته يا سادة، وربّما لأنّها لم تستيقظ لم يطلع النّهار بعد.

لا يُهم، يبدو أنّني كررت كلمة شيء كثيرًا، ربّما ما زلت عالقًا بالشيء الغريب في القبّعة والنّبي، ربّما للمصادفة المحضة، ربّما أقصد شيئًا، ربّما لا أقصد شيئًا، هنا، حيث للمصادفة فعل الآية، والآية مرادف المعجزة، والمعجزات لا تحدث كلّ يوم، تجيء مرّة واحدة، "والمعجزات تموت مع موت النّبي"، ولم يمت أحدٌ بعد.

منذ ليلة أمس وأنا أفكّر في القطّة التي نَجت بأعجوبة من المَوت تحتَ قدمي سيارة كنتُ أرتديها، لم تَكترث لاسمي، أو لارتِباكي، كانَت تفكّر ربّما بصغارها الذين كبروا بعيدًا عنها، أو بزوجها الذي تركها بعدَ ليلة حميميّة، بالكاد نجح فيها، أفكّر بالمطر الذي انهمر فجأة وبقوّة، ولم يغسل فيّ شيئًا، في التّعب الذي انهمر كالمَطر بقوّة لكنّه لم يكن مفاجئًا، أفكّر بكلّ ما انكسر فيّ، بانطفاء أشيائي جميعها، بالتي قالت: إنّك (شخصٌ) بلا حَنان، أفكّر فيّ؛ لأنّني هذا الهيكل المتبقي فقط من إنسان أو من الإنسان.

لم يَكن سهلًا عليّ اعتيادُ الحياة، لدرجة أنّني أقمتُ حفلة لنفسي عندما شعرتُ بهذا، وكتبتُ في نهاية الحفلة نصًا أثبته في ديواني الشّعري، أحفظ رقمه بدقّة: النّص ١٧، وهذا لم يَكن رقمًا عبثيًا، أزعم أنّ لكلّ رقم ارتباطٌ وثيق بالنّص الرقم ١٣ مثلًا. على أيّة حال فإنّ هذا الاعتياد أخذَ بالتّلاشي، ومنذ السابع من الشّهر الجاري تحديدًا، وهذا أمرٌ غاية في الخطورة، أمرٌ يجعلك تسترجع كلّ عاداتك الإنسانيّة: الحنين، القلق، الخوف، الحب، عدم النّوم، البكاء حتّى، رغم انتفاء هذه الصّفات، فمنذُ أكثر من عامٍ لم أبكِ إطلاقًا من عينيّ، لكنّني بكيت ثلاث مرّات هذا الشّهر، أكتب هذه الجملة الآن في ال ٧:١٧ تمامًا وأقسم أنّني بلا أيّ قصدٍ التفتّ إلى السّاعة، أنا قلقٌ جدًا الآن من أن أعود تمامًا إلى الشّعور الإنسانيّ ثمّ وبلمحة بصر أجدني مضطرًا إلى تدريب نفسي على الاعتياد مرّة أخرى، تدريبًا سيجعلُ القلبَ قطعة قماشٍ لا يمكن رتقها أبدًا.

ليسَ لديّ أيّ مشكلة في كلّ ما سبق، فلم يكن ليذهب ذاكَ الاعتيادُ بلمحة بصر إلّا لمعجزة دجليّة العينين، معجزةٌ جعلتني أنسف كلّ عهودي مع ذاتي: أن لا أكتبَ عن أحد، أن لا أحتفظ بذكرى من أحد، وحتّى أن لا ألتقطَ صورًا سأتصفحها باكيًا بعد منتصفِ اللّيل، فقط كنتُ أحتفظ بصوري وحيدًا، وبصورتي الأثيرة مع الصّغيرة ياسمين، التي لا تعرفني تمامًا على الأغلب، جعلتني مرّة أخرى أنتبه لحمّى الشّوارع، وتفاصيل الأماكن، وأنا الذي أقسمت (لأوار) أن لا أكرّر شيئًا مما سبق، وتعاهدنا على هذا على صوت أم كلثوم في ليلة متوشّحة بالسّواد المحبب، صَدق وكذبت.

إنّ الانتباه للتّفاصيل ومعرفة لغة العينين وملامح الجسد يجعل الحياة مرهقةً جدًا، مرهقة كأنّك تسترق السّمع كلّ ليلة ولا تعاقب بأي مذنّب أو حيوانٍ سماويّ ثمّ يكذّبك أهل الأرض، إرهاقٌ يجعلكَ دائم الصّمت؛ كأنّك تنتظرُ أن يخبركَ بشيء تعرفه، ولا يفعل، وعندما يفعل يكون الأمر قد فقد وقعه فيك، وعندما يفعل ولا يقول إلا ربع الحقيقة ينخنقُ صدركَ بشكلٍ لا يفهمه ولن يفهمه أحد، هذا يمكن أن يحدث فقط مع من تحب، هذا يحدث فقط منذُ أقلّ من شهر.

عليّ أن أعترفَ أنّ كلّ شيء تغيّر، ولن تصدّقوا أنّ الشّجرة التي بجواري في المكتب والتي ما انفكّت تُسقِط أوراقها نكاية بإهمالي قد نبتَ لها ثلاثة أغصانٍ جديدة، ولن تصدّقوا أنّ رائحة الأشياء ورائحتي تغيّرت، لكن؛ ورغم كلّ هذا، ورغم أظافري المغروزة في جسد المعجزة كرمزٍ للتّمسك المطلق ما زلتُ أتركُ الباب مواربًا؛ لأنّني كما أكّد لي الجميع: لا أصلح لشيء إطلاقًا، أكرر هذا مرّة أخرى عن سبقِ القصد.

قبل ليلتين فكّرت جديًا في محاولة ردمِ شقٍ ما في جسدي، أمسكتُ هاتفي ويدي/ قلبي ترتجف، مقتنعٌ جدًا أنّها/ المعجزة لن تمرّ إلا فوق الشّق الذي أطفأ شمعته الثلاثة في السابع من هذا الشّهر، لن يصدّق أحد، لكنّني وحدي أصدق هذا.

"وأنا مثلهم لا شيء يعجبني، وقد مللت من السّفر"، لكنّ هذا ليسَ سببًا للنّزول في محطّة لا أريدها؛ لأنّ "وطني حقيبة وأنا مسافر"، ولأنّ المحطّة أو بعد المحطّة متلازمٌ مع مللٍ أخير قادم، لأجل كلّ هذا "أدخلُ صحنَ الجامع الأمويّ" بكامل إرادتي، وأنادي "حيّ على الياسمين" بكامل إرادتي، لأكون ولأوّل مرة مخيرًا، ولن يكسرني إلّا شيء اقترفته/خلقته/حملته/توحّدت معه بكامل إرادتي.

تعوّدت كثيرًا على كتابة كلامٍ غير مفهوم، إيراد اقتباساتٍ عشوائيّة، مقابل الصّمت الحقيقيّ في الواقع الذي يأتي من باب: "الصّمت في حرم الجمالِ جمالُ"، أو من نافذة: "كذا قضى الله فكيفَ أصنع، الصّمت وإن ضاقَ الكلامُ أوسع"، هذا الصّمت الذي يأكل مفرداتي تباعًا، يأكل ما تبقّى مني، يخنقني بأظافره السّوداء، كيفَ يحدث هذا، ولماذا يقول لي الجميع: أغلب قصائدك تبدأ بالأسئلة، إنك تتحدث عن الأنصاف كثيرًا، أنت سوداويّ، لا إنسانيّ، تحتاجُ أن تعيد بناء الإنسان فيك، كيف يُقال هذا وأنا مستهلك، سراجٌ قديم أعطبَ الوقت مكان الفتيلة فيه، والسّراج فتيلة/ قلب، كيف يحدث هذا والحقائق تبدو أكثر عريًا كلّ يوم، فلن تستطيع إخفاءك من الداخِل مدّة طويلة، ستظهر أكثر، كما لو أنّك تتعرّى أمام المرآة؛ لتتفقد شروخ جسدك، قطع جلدك الناقصة، مكانَ الحياة فيك، مكان الحياء، مكان الله.

"إنّ الأغنية تعبير فصيح عن المعاناة الوجودية عمومًا، وليس تركّزها حول عذاب وآلام العشق سوى ستار يُخفي آلام الوجود التي تسقط على علاقة حُب"، وأقول: إنّ الكتابة كذلك يا ميلان كونديرا؛ لأنّها الأغنيّة الأولى التي نلحّنها بالدّموع وصوت البكاء/ النّشيج، هذا اقتباسٌ أخير، وأثير، لاعترافٍ أطول من اللازم.