الأحد  22 كانون الأول 2024

صدى الاثنين خيري حمدان

2018-12-08 05:18:01 PM
صدى الاثنين
خيري حمدان
خيري حمدان

تبدو الأيام متشابهة، وحده يميّزها ويفرّق ما بين الاثنين والخميس والأربعاء وغيرها من الأيام المتدحرجة في سفح السنة، وحده قادر على تحديد بدايات الخريف والربيع بمجرّد النظر إلى الأفق، ومع كلّ هذا لا يعرف كم بلغ من العمر إذا ما سئل عن ذلك، في الحقيقة لم يطرح عليه أحد أسئلة شبيهة ولم يخض حوارًا مدنيًا منذ زمن بعيد.

في ساعات ما بعد الظهيرة يستلقي على ظهره ويمدّ ناظريه إلى البعيد، لا يعاني من غواية النظر في ظلّ لامحدودية الأفق، كلّ الآفاق تبدو مطيعة ومرنة وكريمة حدّ التأمّل وامتداد الحياة، تمنحه التجلّي المنشود دون عناء.

شعر في أحد الأيام بقلقٍ شديد، حدّده دون عناء وبدقّة متناهية "إنّه يوم الاثنين". اختلف وقعُ دقّات قلبه دون سابق إنذار هو القادر على سحق الهواء بين كفّيه. اشتدّت وتائرُ التوتّر لديه حين تيقّن من حقيقة ما شاهد. هناك في البعيد الذي تمتلكه حدقتا عينيه ارتفع عمود بناء شاهق طويل، يعرف بالطبع الاسم الذي يستخدموه لتوصيف العمود، إنّه "برج". لا يوجد في الأنحاء من يقدر على مساعدته أو إخباره بما يحدث في الأفق، كأنّه يوجّه الاستفسارات لذاته دون أن ينتظر جوابًا. لكن لِمَ هنا بالذات، بالقرب من صحرائه المتحرّرة من قيود الإسمنت والحديد، بالقرب من معبده المتوحّد مع رموز الطبيعة والحياة؟

أعاده صوتُ الأزيز الذي طرأ في الفضاء الشاسع من حوله لعقود إلى الوراء، وقد تحرّر من غواية الصوت أيضًا، إنّهم يفجّرون الصخور ويحفرون الأرض بآليات ضخمة، لتتحوّل مداخل صحرائه لمدينة مأهولة بعد حين. يعملون على إنجاز المشروع ليل نهار، لا يتوقّفون سوى في ساعات الظهيرة حين ترتفع درجات الحرارة لمعدّلات لا تُحتمل.

- كبير المهندسين سمير مبيضين أمرَ بفحصِ التربة.

تمكّن من التقاط هذه الكلمات وأصيب على الفور بالصداع. لم كلّ هذا الهرج، ألا يمكن التواصل بكلمات أقلّ، ألا يقدرون على تبادل الأفكار والخواطر؟ يمكنه بسهولة قراءة ما يجول في ذهن أفعى وإذا ما كانت على وشك الانقضاض على فريسة مثلا، أو تنوي الاختباء في جحرها والنوم لأيام، دون الحاجة لهدر كلّ هذا الكلام.

لجأ إلى مغارته في أعلى التلّ الذي استأنسه منذ وطأت قدمه المكان، دون أن يتمكّن من النوم وكيف يفعل وقد بات ذهنه مشغولا بالزحمة المرتقبة؟ لم تغمض عيناه سوى في ساعات الصباح الباكر، ورغم ذلك سرعان ما استيقظ مضطربًا. أصاغ السمع وهو القادر على تمييز السكون وحفيف الهواء وهمس الصحراء، ضرب رأسه بأعلى المغارة بعد أن تيقّن من وجود أصوات غريبة لا تنتمي لمملكته وإقليمه الوادع. خرج من المغارة بحذر ومدّ ناظريه في الأفق ثانية، هناك شاهد جرّافة كبيرة تضرب بأنيابها سفح الجبل، تبعج بطنه وتحفر بأصابعها الفولاذية أمعاءه، ثمّ تملأ شاحنات ضخمة حجارة البناء الكبيرة المستنفذة من موطنه الأصفر وتمضي تجاه مشروع البرج العملاق خلف الأفق.

سالت دمعة من عينه، أدرك أنّ مملكته قد باتت مهزومة ومغتصبة، ولا يمكنه الردّ بشيء حيال ذلك. ارتفعت يداه إلى السماء وهمس "يا ربّ"، تلك هي الجملة الأولى التي خرجت من فمه منذ زمن طويل، وسرعان ما جاء الردّ حين شاهد طائرة تشقّ السماء من فوقه مخلّفة خيطًا أبيضَ طويل، كأنّ الخالق أرسل له إشارة مشفّرة يتوجّب عليه بطريقة ما تفسير كنهها.

عاد إلى المغارة ونادرًا ما كان يفعل خلال ساعات النهار، بعد أن أدرك بأنّه قد أصبح أسيرَ غواية الكلام. كم يحتاج الآن لصدر امرأة يبكي عليه ويسرّ لها همّه وحزنه، ليعلن أمامها خيبته وهزيمته المحتومة. في الأثناء تقدّم منه جاره العقرب الذي يخشاه وعلى خلاف معه معظم الوقت، أسرّ له العقرب ببعض كلمات ثمّ مضى في طريقه بسلام.

في اليوم التالي جمع حاجاته الشحيحة، ضمّ قبضته حانقًا ومضى نحو ثلّة المستعمرين الجدد الذين لم يحترموا حرمة صحرائه، التي كان ينوي الإقامة فيها أربعين عامًا بحثًا عن معبد لا يخضع لغواية النظر والثرثرة، ترافقه عقاربٌ وأفاعي، وكان على بيّنة من أنّ اليوم هو الاثنين.