خرجت تلك الكلمات عنوة، لم يكن مخططاً لها أن ترى النور، نزعته انتزاعاً، عوقبت الكلمات قبل الكاتب ذاته، لاقت ذعراً وخيبة تارة واستحسان بل وثناء تارة أخرى، إنّها لون الحب الذي خطته أنامل الراحل غسان كنفاني ليالٍ طوال اشتعل بها قلبه، سكب فيها كلمات الحب اللاذعة بقلبه العذب قبل عقله، مشيّدةً وجهاً جديداً غير مألوف للمناضل الروائي الثوري، هو الكاتب العاشق.
ليست للنشر، لكنّها نُشِرت
رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان، هي اللوحة الفنية التي نسجها غسان ونشرتها غادة بعد عشرين عاماً من وفاة الكاتب، تلك الرسائل التي لم يكن أحداً في المجتمع الأدبي بصدد فهم ماهيّة الأسباب التي نُشرت لها، فهي على حد قول غادة السمان، خرجت من الحيز الخاص إلى الحيز العام لاحتوائها على قيمة أدبية من المعيب حجزها عن الأدب العربي، إلّا أن المناهضين لفكرة نشرها غالباً ما يُشككون بذلك السبب، مؤكدين أن هناك مآرب أخرى لم تُفصح عنها السمان.
ما هو الحب في قلب الوطن؟
كانت تلك الكلمات وصفاً تفصيلياً دقيقاً والأهم أنّه شخصيّ عن الكاتب غسان كنفاني، فهي التي تمثل حالة الكاتب والصحفي والمحرر والعاشق الذي يخطُ كامل الاعمال الكتابية، السياسية والثورية، المناضل الذي يتنقّل من زاوية إلى أخرى، لا يُثنيه ذلك على التجرّد ليلاً من كل أنواع الترّهات الخالصة أمام الحب المكنون في دواخله، واصفاً تلك المتمنعة، لم يعرف ما تريد ولم يعرف ما يريد، كلماته واضحة التخبّط والأسى يبدو صافياً فيها، في تلك الرسائل جمع غسان الحب والوطن، الثورة والإنسان، "لقد صرتي عذابي، وكتب علي أن ألجأ مرتين إلى المنفى هارباً أو مرغماً على الفرار من أقرب الأشياء إلى الرجل وأكثرها تجذراً في صدره الحب والوطن"، احتوت الرسائل على نثار الوطن، الذي مزج غسان فقده بفقدها، كيف يقوَ الانسان على فقد الحب والوطن؟
سخط، ممزوجٌ بالأمل
يسطُر غسان في هذه الرسائل التي لم يكن الهدف منها النشر، سخطه على غادة حيث ظهر في الكثير من المواضع تذمره لعدم تلقيه رسائل منها لا سيمّا أنه في انتظار دائم رغم تنقله من دولة إلى أخرى على مدار سنين طويلة، حيث يذكُر غسان أن رسائلها مقتضبة لا تملؤ شغفه وانتظاره، وأحياناً أخرى تبخل على الردّ، حيث يذكُر غسان معاتباً أنها تبعثُ بالرسائل للجميعِ إلّا له، متسائلاً؟ ما الذي تريده من وراء هذا كلِّه، فهو دائماً في تقدم مستمر نحوها، إلّا أنها تقف متمسمرة في وسط الميدان على حدّ قوله.
كل ما في طريقه، هي
في لقاءات أصدقائهم المشتركين، قال غسان أنّها في ذات المرّات كانت محور الحديث، مع صديق مشترك، فهو يتعثر بها في كل الأشياء، في الشوارع والرسائل، والمكاتب، والورق والحبر، يضيف بالكلمات تذمره وتساؤله عن كيفية سماحه لها بالمغادرة، "كيف لم تطبق كفاي عليك مثلما يطبق في بحر التيه على حفنة ريح".
متعب في التفسير، مرة تلو الأخرى
أعاد التساؤل أكثر من مرة، لتفسير سبب شُح مشاعرها له، وفي كلِّ مرة يخرج بنتيجة جديدة، محاولاً إيجاد التبريرات، كان قد لاقي الكثير من الشفقة عليه ممن يقرأون له في زاويته الخاصة التي كانت مكاناً لنشر مناجاته لغادة، قال يشفقون عليّ أمامي، ويضحكون عليَ من خلفي.
تعددت آراء الادباء والصحفيين والكتاب نتيجة نشر غادة السمان لهذه الرسائل، وصفها البعض بأنها إهانة لشخص المناضل والكاتب الثوري والشهيد الذي بذل حياته للوطن، في حين تناقض هذا الرأي من قبل آخرين عبروا عن أهمية أنسنة حياة الشهيد ولم يعتبروا مثل هذه الرسائل إهانة وإنما هو شخص طبيعي كـ غيره عاش حياته وله متطلباته وليس من المعيب أنْ الثوري والشهيد هو إنسانا في البداية والحب ليس خطيئة على حد قولهم، فيما اعتبر آخرون أن الحب هو الحافز لاستكمال الفعل النضالي الثوري .