الأحد  22 كانون الأول 2024

الحدث تنشر كتاب محمود درويش في حكايات شخصية في حلقات

2020-04-27 09:26:57 AM
الحدث تنشر كتاب محمود درويش في حكايات شخصية في حلقات
صورة غلاف كتاب محمود درويش في حكايات شخصية لنبيل عمرو

 

الحدث الثقافي

تقوم الحدث، بنشر كتاب محمود درويش في حكايات شخصية، للكاتب والقيادي في حركة فتح، نبيل عمرو، على11 حلقة. 

صدر الكتاب عام 2014 في 145 صفحة من القطع المتوسط وأنتجته مؤسسة محمود درويش في رام الله، وقدمه الشاعر والكاتب الراحل خيري منصور.

ويسلط الكتاب الضوء على خصائص شخصية وسلوك الشاعر الكبير، وفهمه للحياة، والأشخاص وعلاقته بالمدن والشعراء وكبار الكتاب العالميين، مع فصل خاص يتحدث فيه محمود درويش عن حياته من الطفولة حتى ما قبل وفاته بأربع سنوات.

كما يعرض الكتاب مسحاً لعلاقة الشاعر الكبير بالسياسة والسياسيين وهواياته وعلاقته بالمرأة والمال، وشؤون الحياة العادية.

 

المقدمة

 بقلم خيري منصور

 

الكتابة عن صديقين أحدهما أخطأته رصاصات الاغتيال ولا يزال على قيد الكتابة والعنفوان، والآخر تفرّغ للسهر على سريره الحجري، بها قدر من المجازفة.

محمود درويش الذي لم يكن غيابه سوى وعكة شعرية موعودة بقيامة خضراء وعافية ذات حفيف حريري، بردت قهوته في فنجان الوقت، وفاض عن قميصه الأبيض الأخير، لأن الجسد لم يكن غير محارة فرغت من لؤلؤتها، والبدن لا يؤتمن أحيانا على الروح التي تحلّ فيه.

كان لا يزال ثالثنا، في النكتة الشجية التي يقطر الدمع من ضحكتها، ما من مرة نلتقي فيها، نبيل وأنا إلا ومحمود بيننا، وبمعنى أدقّ فينا، وعيناه اللتان يمتزج في وميضهما الكثير من العتاب والقليل من السخرية لم تضبطنا ولو مرة واحدة متلبسين بالنسيان رغم أن للحياة قوة تجترح التناسي كي تستمر رغم أن الحي ليس أبقى من الميت إلا بمقياس من حوّلوا الورد إلى علف.

عرف محمود نمطا مما سماه الصداقة من طرف واحد، لأن هناك من ادّعوا صداقته حيّا وميتا

شهدت بداية التحول في علاقة إشكالية بين الصديقين محمود ونبيل، فالصداقة بين نموذجين من هذا الطراز ليست سهلة، لأنها محررة من النفاق المتبادل والأوهام، فقد عرف محمود نمطا مما سماه الصداقة من طرف واحد، لأن هناك من ادّعوا صداقته حيّا وميتا، شأن كل من يبتلون بشهرة تخلق التباسا بين المشهور وسبب شهرته، لهذا فقد أنجز الاثنان معا تلك العلاقة التي تجاوزت ما سئم منه محمود من العلاقات المخترعة. لكن أعجب صداقة هي تلك التي ولدت بعد الغياب، فالموتى عاجزون عن الدفاع عن أنفسهم وحتى عن ذكرياتهم، لهذا فإن أصدقاءهم الحقيقيين مؤتمنون على هذا الدفاع، ونبيل أحد هؤلاء بامتياز وطني وإنساني.

فهل كانت مجرد مصادفة أم أن في الأمر ما يتجاوزها، أن أسمع بأن محمود قد فارقنا من نبيل، عندما أيقظني رنين الهاتف في القاهرة وأخبرني نبيل بصوت دامع أن محمود لم يخيّب ظن العَدَم وقرر أن ينام باستغراق لا تقاطعه كوابيس ولا حتى أحلام.

كان ما سمعته من نبيل قد استبق كل ما نشر تحت عنوان مراوغ هو (محمود درويش في حالة حرجة)، وهذا كله مجرد تداعيات على هامش ما حدث قبل رحيل محمود بأشهر، فقد اتفقنا نبيل وأنا على استقبال محمود في القاهرة، وهيأنا له ما يليق بهذا الاستقبال، أمسية شعرية في دار الأوبرا، وعدد خاص من مجلة الهلال مكرّس له وعنه، ومقالة عن شعره في  مجلة وجهات نظر، إضافة إلى ميدالية فضية نقشت عليها بعض أشعاره، لكن ما حدث هو بالضبط ما كان محمود يقوله لي أحيانا، وهو عبارة من رواية مالك حداد "ليس على رصيف الأزهار من يجيب " هي  "لا تهيْ أفراحك". لأن ما حدث بالفعل هو أن أمسية الأوبرا قد أنجزت وقرأ فنانون في مقدمتهم نور الشريف قصائد لمحمود، وعدد الهلال صدر مكرسا له وعنه، لكنه كان الغائب الحاضر في كل هذا...

وأذكر أننا حرمنا من وداعه بالشكل الطقسي التي يتم فيه مثل هذا الوداع، ولم يخطر ببالنا أن الوداع الحقيقي له هو تذكّره الدائم وفي كل ما تبقى من العمر.

في تلك الليلة التقى عدد من الأصدقاء والمثقفين المصريين في منزل نبيل عمرو في حي المعادي، وأذكر أن الصديق الروائي جمال الغيطاني والذي كتب عن محمود فصلا في فقه الفراق، قد أخَذَنا بعيدا عن طقوس الموت ألى عبقرية الحياة حين تجعل من الموت حادثا عابرا...

في اليوم التالي لوداع محمود الذي شاركنا فيه على طريقتنا وبعيدا عن صداقة الطرف الواحد، كنت شبه مشلول لفرط ما تذكّرت ودخّنت وسهرت، وحين دقّ الجرس وفتحت الباب شاهدت الحياة كلّها وقد احتشدت في طفلة عمرها أقلّ من عام، تحملها زوجتي وابني، إنها حفيدتي الأولى التي تحولت في لحظة ألى جدّتي فحملتني ولم أحملها، فقد شعرت عائلتي بأن ما جرى لمحمود لن أقوى على احتماله بمفردي، فلولا وجود نبيل إلى جانبي وقدوم عائلتي من عمان إلى القاهرة لربما حدث شيء آخر!!!

وقد يبدو هذا كإفراط في التعبير عن غياب صديق، لكن من يعرفون السنوات العشر الأخيرة من حياة صديقي كانت الملاذ الوحيد، وأن الوحشة الباردة كانت تبدو في أماسي دافئة قد يرون في هذا الإفراط الذي يظنه الآخرون تقشّفا عاطفيا.

كتاب نبيل عن محمود عناق حميم، هو بمثابة أطروحة شخصية وإنسانية مضادة لعناق القنافذ الذي عانى منه محمود حيّا

كتب محمود عن فضيحة عصرنا حتى الأبد وهي مجزرة صبرا وشاتيلا ان هجاء الصمت تمّ بصمت أيضا، وأنا أضيف بأن مديح القتلة تم بثرثرة حذفت الفارق بين القاتل والقتيل، وفي قصيدة أحمد الزعتر، ينتهي النص رغم انفتاحه على آفاق التأويل والاستئناف الشعري بأقانيم ثلاثة هي رهان العربي المؤجّل... والذي لم يشهد رغم أنه العبد والمعبود والمعبد!

كتاب نبيل عن محمود عناق حميم، هو بمثابة أطروحة شخصية وإنسانية مضادة لعناق القنافذ الذي عانى منه محمود حيّا، وها هو يكابد أشواكه في قبره لأنه الأدرى من سواه بأحقية الموتى بالحب، في ثقافة ممهورة بالتحاسد والمحب فيها لا يعترف بالآخر إلا بوصفه امتدادا نرجسيا للذات أو حتى نتوءا لهذه الذات .

بالطبع لديّ ما أرويه من التفاصيل التي لا يخلو بعضها من مفاجأة عن صديق وشاعر مثل محمود درويش، وإن كان نبيل قد استبقني في إصدار كتابه عن محمود فقد شحذ شغفي وحرّض ذاكرتي في زمن الزهايمر السياسي والأخلاقي. وفي تلك التفاصيل ما يحول دون البوح به لأسباب تتعلق بآخرين ممن استغرقتهم الرقصة في مأتم الشاعر ونسوا أن الصداقة ليست مهنة وليست مجالا للاستثمار سواء كان أدبيا أو عاطفيا أو حتى اجتماعيا.

أذكر أننا نبيل وأنا ذات مساء قاهري مشبع بالرطوبة النيلية والضجيج، كنّا نسير بالقرب من فندق شبرد باتجاه مقهى ريش، ولا أعرف بأية مصادفة نجونا من حادث سير كان سيودي بنا معا، وكما يحدث عادة في مثل هذه الحالة من النجاة العبثية، تركنا لخيالنا العنان ونحن نتصور ما سيقال عن هذا الحادث رغم أنه عبثي وبمحض المصادفة، ولم أخبر نبيل حتى الآن وأنا أكتب هذه السطور أنني في الليل وبعد افتراقنا، طلبت محمود بالهاتف لكن أصابعي ارتعشت وتجمدت قبل أن أكمل الرقم، فما أصعب وأشقى أن تحتفظ برقم غير قابل للاستخدام وإن استخدمته لا تدري من سيجيبك، وما أشق على النفس من كتابة رسائل يعيدها ساعي البريد لأن المرسل إليه مجهول الإقامة! القليلون من أصدقاء محمود ومنهم نبيل يعرفون ما لهذا الإنسان من قدرة على السخرية الذكية، والنميمة البريئة، وأذكر للمثال فقط لحظة حزينة في حياتي اخترقها محمود بالسخرية الوجودية هي لحظة وفاة أمي، وتشاء المصادفة أو ربما ما هو أبعد منها أن يقدم لي العزاء في بيتي محمود ونبيل معا، وكان الجو باردا ومحمود يرتدي قميصا فقط، وقلت له وأنا أودعهما.. كان يجب أن ترتدي سترة فالجو بارد، لكنه أجابني على الفور: إذا كان القميص هو سبب شعوري بالبرد فسوف أخلعه. وفي الليل اتصل بي ليعتذر عن جملة اضطر لقولها أمام الآخرين، إنها عبارة تقليدية تتردد في مناسبات العزاء بلا دلالات وهي "آخر الأحزان"، قال لي بصوته ذي البحة الحميمة الدافئة: كم شعرت بسذاجتي وأنا أردد هذه العبارة، فالأحزان لا آخر لها .

ها أنا اتورط بما جازفت به وهو الكتابة عن صديقين تمتد علاقتي بهما ثلاثين عاما على الأقل، فكم هو العمر يا نبيل؟ وكم صديقا للإنسان يا محمود حتى وهو يبلغ أرذل الوحشة؟؟

في كتابه "ألف يوم في موسكو" تحدّث نبيل عن أيام كان لي منها نصيب، فقد عشت معه في موسكو لفترة من الوقت وأنا أعدّ أنطولوجيا عن الأدب الفلسطيني، واعترف بأن الرجل كان سفيرا فاعلا لدولة ما تزال في رحم التاريخ، وهو الذي عرّفني بشخصيات روسية مثل شاغال مدير معهد الاستشراق، وايغور يرماكوف وايتماتوف ورسول حمزاتوف، وهناك من الوقائع ما يدفعنا إلى الضحك المر بعينين دامعتين. منها أن لنا صديقا مشتركا عُيّن في منصب كبير، وعاتبني لأنني لم أهنئه، وحين أخبرت نبيل قال: إننا فعلنا ذلك من أجله، فنحن عندما التقينا في موسكو سقط الاتحاد السوفييتي، وحين التقينا في القاهرة سقط النظام، ولو هنأنا صاحبنا لأقيل من منصبه في اليوم التالي.

أين أنت يا محمود لتشاركنا هذه الضحكة الدامعة؟ وماذا كان عشاؤك البارحة؟ ومن شاركك طاولة الزهر؟    

هل أقول مثلا بأنه سخر ذات ليلة من أسمائنا؟ هو ونبيل وأنا وقال إنها كالتوابيت لا توجد فيها ألف واحدة؟

شكرا لنبيل على هذا العصيان لزمن العقوق وهو الصديق الذي نزع الرصاصات من ساقه واستقام وامتطى اغتياله ليعدو نحو نفسه محررا من أوهام الحالمين بقشرة بصلة. كم كان محمود شغوفا بجدلية الغياب والحضور وما يرادفها شعريا من ثنائية الخفاء والتجلي، لكأنه كان يحدس مبكرا بغياب عاجل، وأذكر أنه حين كتب عن الصديق الشاعر سميح القاسم بمناسبة بلوغه الستين قال إنه ككل الأصدقاء الذين يكبرونه في السن ولو عاما واحدا يأخذونه معهم، فبعد الخمسين لا فرق بين عمر وآخر لكنه كان يقول لي بسخريته البليغة والدامعة إنه يكره سن السّتين لأن الناس في بلادنا يرون فيه أرذل العمر، وإلا لما قالوا بأن فلانا ابن ستين كلب أو أن رقم ستين هو نهاية المطاف في أمثال ومواعظ، هاجس الزمن إزاء جدلية الحضور والغياب كان وراء اختياره لعنوان كتابه "في حضرة الغياب"، لكن أي حضور وأي غياب؟ دعونا نسأل محمود نفسه... فهو الأدرى على الأقل بشعاب الغياب قدر تعلقها بجغرافيا النفي، وتضاريس الاغتراب سواء كان مكانيا فيزيقيا أو زمانيا ميتافيزيقيا.. يقول:

لنا دور واحد، أن يستدعى غيابنا للحضور قليلا من أجل أي شيء يطلبه اللاعبون من أجل مساومة على إدارة سجن أمريكية، أو من أجل أضافة الشرعية على انقلاب، من أجل ارتفاع سعر الخبز والبنزين ومن أجل تزويد الخطاب القومي بتقاليد بلاغة رمادية تسمى الفلسطينيين.

نحن لا نشتبك مع عدو على امرأة أو حتى على حقل قمح، بل على حضور لا وجود له

وهذه مجرد عينة من فلسطينية محمود التي تبدو بحاجة إلى فضّ اشتباك بين حضورها وغيابها، فهو لفرط انتمائه لم تتورم هويته على حساب إنسانيته، ولم يحول موروث التراجيديا إلى نمط إنتاج.

حين قلت له ذات حوار استمر ساعات ولم تكن غايته النشر، ما هو الوطن البسيط الذي تريده ولماذا قرنته باحتمال الياسمين؟ قال لي: كم أتمنى لو يقرأ كثير من شعبنا قصائد يهودا عميخاي، لأن خطورته أنه نقل الحلم من المرتفع التجريدي والميتافيزيقي الذي عاش فيه شعراء يهود من امثال حاييم بياليك إلى حلم ابتعد عن الأسطورة وأصبح على تخوم التاريخ، وهذا يفزعني الآن، فنحن لا نشتبك مع عدو على امرأة أو حتى على حقل قمح، بل على حضور لا وجود له إلا بقدر ما يقضمنا ويغيّبنا ويؤسس ذاكرة مُتخيّلة على أنقاضنا...

لهذا حين قلت له إننا الحصان الذي ضاع في طريق المطار، نهض منتفضا وكأنه يصرخ بصوته المبحوح: هذا بالضبط ما أقصده، فالحصان الذي ضاع بين دوره القديم وضرورته خارج الاستعراض في السباق والأسطبل وبين الطائرة هو المنبتّ الذي لا تاريخا أبقى ولا جغرافية قطع.

معذرة يا نبيل إن كان الشجى يبعث الشجى، فهذا كله قبر محمود وليس قبر مالك، ولو كانت المقدمات تُهدى بعير الحبر لاقتطعت ورقتين ولففت بهما وردتين واحدة لقبر يسمح فيه بالتدخين ولكفن بلا عروة أو جيوب والأخرى لصديق مؤتمن على الغياب، حيث لا يقوى الغائب لا الغارب على الدفاع عن نفسه وإن كانت نصوصه هي الورثة الحقيقيون قد تولت ذلك، فمحمود بلا أرملة لأن نساءه سوف يبقى حفيفهن الحريري إلى الأبد في إيقاعاته الشعرية كلما كان يكتب عن راحل من الأصدقاء لا ينسى نفسه، لأن شرط الغياب بشري بامتياز وما من استثناء على الإطلاق، وتشاء المصادفة أن ألتقي الصديق الشاعر مريد البرغوثي وهو من أصدقاء محمود ونبيل بمناسبة وفاة والدته التي عرفتها عن قرب وأحببتها ورأيت فيها أمي، وحين عانقته همس بأذني: إنها ليست استثناء. وكان يقصد ما قاله محمود، عندما أجريت له جراحة قلب "الآن تأكدت بأنني لست استثناء"، فالناس لأسباب أجهل الكثير منها يعتقدون بأن الموت هو لغيرهم ونادرا ما يعترفون بأنهم مشمولون بهذه العناية ...

راوجت الكتابة عن محمود درويش بين الاحتفاء والنقد الذي يتغذى من نصوص الشاعر ويستدين منها ما يقول، لهذا لم يكن محمود محظوظا بالنقد الذي طالما انتظره، وهناك كتب ومقالات عنه آثرت السير في الطرق المطروقة، ونادرة هي المقاربات الجمالية التي عبرت السّطح.

وما كتبه الصديق نبيل عمرو جاء من باب آخر، ليس نقدا كما أنه لا يدّعي ما ادّعاه كتّاب آخرون، ولأنه اقترب من محمود حتى تنفّس معه في بعض اللحظات الحرجة والحميمة أيضا، فقد لامس فيه عمقا غير متاح لم تجتذبهم شهرة كاتب أو شاعر أو فنان، فالإنسان هو مجال هذه المقاربة الحيوي، أما البوصلة فهي من صميم هواجس إنسانية ووطنية، فقد استطاع نبيل أن يستنطق محمود في مساحة طالما سيّجها الشاعر لحساب أنانية شخصية، ولولا أن نبيل استوفى الشرط الصعب وهو شرط الصديق والرفيق لما تدفّق محمود بهذه الاريحية وكأنه مستغرق في مونولوج طويل.

كم هو إشكالي الاقتراب من مبدعين نالوا هذا القدر من الشهرة، إذ لا بد من فك الاشتباك بين المرئي بالعين المجردة والمرصود بالبصيرة، وهناك أكثر من التباس حول صورة الشاعر في مقدمتها الالتباس الناجم عن الاختزال والجغرفة، وكأن فلسطينية محمود هي المفتاح الذهبي الذي يفتضّ الأقفال كلّها، رغم أنه لم يكن بحاجة إلى إشهار هويته إلا في حضرة المحتل الذي يستبيحها ويحاول ترجمتها إلى العبرية، لهذا كان يرفض قراءة قصائد مباشرة تشهر الهوية النازفة في العالم العربي، ويقول إنها كتبت وقُرئت حيث يجب أن تُقرأ، لهذا  سيبدو المرء وليس الشاعر  فقط ساذجا إذا قال: أنا عربي في دمشق وعمان والقاهرة وبغداد وسائر عواصم العرب.

عانى محمود شأن أنداده من ازدواجية مزمنة في ثقافتنا، تخلط التأويل بدلالاته الفكرية والمعرفية بالتقويل القسري الذي يعذّب النصوص كي تعترف بما لم تقترف ومهمة كهذه مسيّرة بالنوايا، لهذا تخلع عبارات ومفرداتها من سياقاتها، كي تلبي رغائب مرتهنة للنوايا ومصاردة النص من خارجه.

من يتولى الدفاع عن محمود هو محمود ذاته، بعد أن تفرّغ للسهر في سريره الحجري الذي هو سرير الغريب لا الغريبة، فما يتبقى أخيرا هو الشعر سواء تعلّق هذا الموروث بمحمود أو بسواه كما يقول هايدجر في قراءته لأشعار هولدرلن.

الفلسطيني جدا في جوهره لا يحتاج إلى مسرحة انتسابه الوطني، ومحمود رضع منذ بواكيره أنساغ الغابة والجبل لهذا قال لفدوى طوقان بعد عام 1967.

نحن في حلّ من التذكار

فالكرمل فينا، وعلى أهدابنا عشب الجليل...

هنا، أقول بلا تردد إن الشاعر تمرد على الصورة النمطية لمن عانى شرط الميلاد القاسي، وبدلا من تضييق الإنسان وحشره بين قوسين في الجغرافيا، حدث العكس، فالفلسطيني تأنسن وفلسطين اتسعت لتفيض عن مساحتها وعن الغمد الصخري الذي حشرت فيه، ولعلها ليست مصادفة أو نتاج عوامل التعرية في الجغرافيا أن يكون لها شكل خنجر، إنها عوامل تعرية التاريخ، التي تلخّصت بل تقطّرت في ثنائية تجاوزت الغناء إلى التراجيديا وهي السؤال الجذري الذي تولى الإجابة عنه ملايين المشردين والشهداء والأسرى:

لماذا تعبس المدن الكبيرة حين يبتسم المخيم

هي حوارية الفلسطيني المطرود من الجغرافيا، مع توائمه المدرجين في قائمة ترانسفير تاريخية، لأنهم تناسوا بأنه النذير والقطفة الحامضة الأولى في موسم حصاد دموي سوف يشمل أمة برمّتها، حين تصبح أمة من اللاجئين في عقر الوطن والدار.

كلّما ابتعدت قليلا عن الحضور الساطع والحميم للصديق الغائب، أجد ما يشدّني ثانية إلى هذه الآصرة، التي اختبرت وفاء الوريث لما ورثه، فنبيل عمرو لم يكن صديقا موسميا لمحمود، ولم يكن من ذلك السرب الذي يحوم حول وهج الشهرة..

أخيرا، بل أولا، ما دام السياق درويشيا، والخاتمة فاتحة، والغياب حضورا، فإن ما اعتذر عنه هو خروجي عن نصّ الصديق نبيل لكي التقيه من الجهة الأخرى وهي على الأرجح الجهة الخامسة المطرودة من كل البوصلات...

ما من وداع يليق به غير عناق لم أظفر به، لأن الحصان الذي سقط عن القصيدة، لم يمت، وهذه أصداء صهيله تملأ المدى...

                     خيري منصور 2014