الأحد  22 كانون الأول 2024

محمود درويش في حكايات شخصية (الحلقة الثالثة)

محمود وأنا وأسرتي

2020-06-08 11:45:47 AM
محمود درويش في حكايات شخصية (الحلقة الثالثة)
غلاف كتاب: محمود درويش في حكايات شخصية

الحدث الثقافي

تقوم الحدث، بنشر كتاب محمود درويش في حكايات شخصية، للكاتب والقيادي في حركة فتح، نبيل عمرو، على 11حلقة. 

صدر الكتاب عام 2014 في 145 صفحة من القطع المتوسط وأنتجته مؤسسة محمود درويش في رام الله، وقدمه الشاعر والكاتب الراحل خيري منصور.

ويسلط الكتاب الضوء على خصائص شخصية وسلوك الشاعر الكبير، وفهمه للحياة، والأشخاص وعلاقته بالمدن والشعراء وكبار الكتاب العالميين، مع فصل خاص يتحدث فيه محمود درويش عن حياته من الطفولة حتى ما قبل وفاته بأربع سنوات.

كما يعرض الكتاب مسحاً لعلاقة الشاعر الكبير بالسياسة والسياسيين وهواياته وعلاقته بالمرأة والمال، وشؤون الحياة العادية.

 

محمود وأنا وأسرتي (الحلقة الثالثة)

كان كريماً، لقد استمتعت بهداياه، حين كان يزور موسكو، وأنا سفير فيها، كانت ربطات العنق الجميلة التي يحضرها معه هي المنقذ لهندام وأناقة السفير، لم أكن أعرف كيف أختار المناسب منها لملابسي المقررة بحكم المهنة، كانت هداياه سخية، وحين كنت ألومه على إحضار زجاجات من العطر الفاخر والمشروبات غالية الثمن، فأنا لا أحب العطر ولا أضعه بل أنفر منه، كما انني لا أشرب، كان يقول: أعرف أنك تعمل في بلد يحب ساسته الهدايا فهذه من أجل عملك.

لقد خفق قلبي حباً لمحمود، واعجاباً بلباقته النادرة، حين سهر على مائدة انتقيت الجالسين حولها بعناية كي يأخذ راحته في التبسط والانسجام والاستمتاع بعشاء حفلة عرس ابني مروان، كان يحب العريس، فقد كان مروان يتولى نقله من منزله الى منزلي خصوصاً في الشتاء العاصف والماطر، حتى صار مروان جزءاً من طقوس النرد الأثيرة لديه، كان يقول: كم أحب هذا الولد، في حفل عرسه ظل محمود ساهراً حتى منتصف الليل، وقبل أن يغادر طلب مني استدعاء العريس.

  • مروان.. أين ستقضي شهر العسل؟

  • حسب الميزانية ونظر الي...وقال ربما تركيا.

  • لماذا تركيا؟

  • هي الأرخص، وعلى قد الموازنة.

اخرج محمود مغلفاً من جيبه، ناوله لمروان، قائلاً :

  • تمتع بوقتك، ألف مبروك.

فض مروان المغلف، عد النقود، التمعت عيناه بسعادة وفرح.

بلغت صداقتي بمحمود ذروتها في رام الله، كان جاري، فأطلّ على حياتي وسلوكي عن قرب، كنا قبل رام الله نلتقي كثيراً في كل العواصم، إلا أن ما وفرته لنا رام الله كان جديداً، اللقاء اليومي والمشي لأكثر من ساعة حول منزله ومنزلي، صحبة أصدقاء خفيفي الظل، ثم ضيافة أم طارق وكل يوم كانت تعد مفاجأة.. غير الثابت الذي لا يتغير وهو القهوة التي يبدأ بها مساءه، ثم نوعاً واحداً من الفاكهة الطازجة كل يوم، عنب الخليل أو الرمان المنقوع بماء الورد، ذلك ونحن ومعنا حكمت زيد نؤدي على مدى ساعتين على الأقل طقوس النرد الصاخبة، كان يسمي حكمت بالعاصفة لأنه وحين يعاكسه الزهر، فكل أهل الطيرة يتعللون على صراخه ولعناته غير المتحفظة على سوء الحظ، اما حين يحالف الحظ محمود ويهزم حكمت، فكان يضع يديه على وجهه كما لو أنه سيتلقى صفعة، اما حين كان يهزم ويشرع حكمت بالتباهي، فكان محمود يغيظه بالقول: اني تراخيت عمداً، فأنا أخاف من رد فعلك حين تُغلب، يمكن تضربني!

كم كانت ممتعة تلك الساعات الثلاث اليومية، المشي وقهوة المساء وطاولة الزهر، غير ان مأساة أصابت متعتنا البسيطة.

"كنت قد فرغت من مناقشة تلفزيونية طويلة مع الصحافي المصري الشهير عماد الدين أديب، كان شخص ملثم قد تسلل الى فناء بيتي، وحين وصلت الى الشرفة التي أحب فيها السهر مع العائلة، واندمجت في مراقبة برنامج تلفزيوني، أفرغ الملثم صلية استقرت رصاصاتها الثماني المسمومة في ساقي اليمنى، الا انني نجوت من الموت.

اذاً لا مشي بعد هذه الليلة السوداء..

صعق محمود مما حدث، واظب على الاتصال بي للاطمئنان، زارني في ميونيخ، قضى ليلتين بجواري في منتجع في بلدة "باد فيزي" بالقرب من ميونيخ، رأيته لأول مرة يحاول منع الدموع من أن تنهمر من عينيه، لقد شاهدني لأول مرة، أجلس على المقعد ذي الدولابين اللذان يتحركان باليد، ولمح فراغاً بدل ساقي اليمنى التي كانت قد بترت.

بعد أيام وصلتني رسالة بخط يد محمود، كانت الأثمن، بل الهدية الأغلى التي احصل عليها، ربما في حياتي كلها..

الرسالة

عزيزي نبيل

تحيات وقبلات،

يوم الأحد، الساعة السادسة مساءً، حيث موعدنا اليومي للمشي والكلام، كنت في طريقي إليك. الشارع خال من المارة والمصلين... ومن مناوشة الكلبين الصغيرين، هل أجدك هناك، قرب الجامع، مع عكازك الذي لا مأرب لك فيه الا اسناد البلاغة على شيء من الفكاهة؟ فلم يحدث لي أن مشيت على هذا الشارع الا لأراك.

ألحت علي الخاطرة، ربما ربما. حين فتح طارق الباب، وانقضت علي سارة كحمامة شرسة، هاتفة بلهفة: سيدو!

خشيت أن ترى دمعتي، فأشحت بوجهي باتجاه الحديقة، وأدركت كم أنت ضروري وجميل... وكم نحبك! هل كنا في حاجة الى هذا الغياب لندرك قيمة الغائب؟

لكنك لم تكن غائباً، فكل ما في أشياء المكان الصغيرة يتباهى بامتلائه بك، لا لأن لسانك يرفع الحجاب عن المسافة بين القلب والكلمات، بل لأنك موجود حقاً فينا حين يخلو الواحد منا الى تصفح أمسه ويومه. وليس هذا الغياب الشكلي الا تعبيراً عن ضجر طارئ من الزحام ألم بك، وتعبيراً عن حاجتك الى قيلولة تأمل بشفافية تدفع نرجسنا الجريح الى الخجل من صورته في مرآة الماء. لا، ليست الصورة التي ابتدعناها عن أنفسنا مطابقة للحقيقة، وأكثر من ذلك: ليس هذا الوطن نقيضاً تماماً للمنفى، فلا يعرف الشيء دائماً بضده. ما زال الأبرياء منا، ولعلي واحد منهم، يستغربون كيف يقدم فلسطيني على محاولة اغتيال فلسطيني هو في هذه الحالة أنت؟ ألأن فيه فائضاً من الإحباط المسلح، أم لانفصال العقل عن الأداة، أم لأن العجز عن محاورة الرأي بالرأي تبرير لسهولة الجريمة؟

فيصبح قتل الأخ شكلاً من أشكال قتل الذات المريضة؟ سنحتاج الى علماء اجتماع، والى علماء نفس لدراسة سيكولوجية، الضحية العاجزة عن الفعل في المكان الصحيح، والمتعطشة الى انجاز أية بطولة، حتى لو كانت قتل نبيل عمرو، الذي لا سلاح له سوى وسامة الصورة، ووضوح الرؤية، وفصاحة العبارة. هل تلك تهم كافية لتأجيج الكراهية؟ أإلى هذا الحد لم نعد قادرين على التعايش مع نجاح الفرد؟. لا أحرضك على شيء... لا أحرضك إلا على الاستمرار في المحافظة على طاقة الحب التي أعرفها فيك... وأعرف أنك لا تستطيع النوم قبل أن تصالح أي شخص أسأت اليه، عن قصد أو عن غير قصد، وأعرف أنك تحب الحياة، وأن الحياة تحبك... لذلك عادت اليك من جديد هدية الهية. لقد زارك الموت ليختبرك، وليختبر مدى ولائك للحياة التي أنجزت اليها فانحازت اليك. فهنيئاً لك بها، وهنيئاً لها بك، وهنيئاً لنا بعودتك سالماً. ستعرف قيمة الحياة وأفراحها الصغيرة الآن أكثر، دون أن تسرف في جشع حبها الحسي.

إن قليلاً من التأمل في ما وراء الطبيعة، وفي ما وراء اليومي، وفي ما وراء الدولة، سيجعل القلب أكثر حكمة...

                                                         مع محبتي الدائمة

                                                             محمود درويش
 

عدت من العلاج، وحين قدرت بأنه استيقظ من نومه، أي على الحادية عشرة صباحاً، ارتديت أفضل ملابسي، وكنت قد تدربت على المشي القريب من الطبيعي، قطعت المسافة بين منزلينا مشياً، هبطت الدرج الموصل الى شقته، فهو في الدور الثالث تحت مستوى الشارع العلوي، ضغطت على جرس الباب، دهش محمود لما رآني كما كان يراني قبل الاصابة، خلع نظارته ومسحها بكم البيجاما، احتضنني وقال كم انا سعيد بك.

قلت: هل نواصل المشي؟

ضحك ونظر الى ساقي اليمنى، وقال: بالمناسبة لقد راقبت مشيتك لا يمكن لأحد أن يشك بأن ساقك ... وتردد قبل أن ينطق بكلمة مبتورة.. قلت له: يكفي أنني أنا لا أشك.