الأحد  22 كانون الأول 2024

محمود درويش في حكايات شخصية (الحلقة الخامسة)

بوابة مصر.. محمد حسنين هيكل

2020-06-23 09:20:23 AM
محمود درويش في حكايات شخصية (الحلقة الخامسة)
غلاف كتاب محمود درويش في حكايات شخصية

الحدث الثقافي

تقوم الحدث، بنشر كتاب محمود درويش في حكايات شخصية، للكاتب والقيادي في حركة فتح، نبيل عمرو، على 11حلقة. 

صدر الكتاب عام 2014 في 145 صفحة من القطع المتوسط وأنتجته مؤسسة محمود درويش في رام الله، وقدمه الشاعر والكاتب الراحل خيري منصور.

ويسلط الكتاب الضوء على خصائص شخصية وسلوك الشاعر الكبير، وفهمه للحياة، والأشخاص وعلاقته بالمدن والشعراء وكبار الكتاب العالميين، مع فصل خاص يتحدث فيه محمود درويش عن حياته من الطفولة حتى ما قبل وفاته بأربع سنوات.

كما يعرض الكتاب مسحاً لعلاقة الشاعر الكبير بالسياسة والسياسيين وهواياته وعلاقته بالمرأة والمال، وشؤون الحياة العادية.

 

بوابة مصر.. محمد حسنين هيكل

اسم أثر جوهرياً في حياة محمود الشخصية والإبداعية والسياسية، فهذا الرجل الذي احتفلنا لحظة كتابة هذه السطور بأعوامه التي تقترب من التسعين وهو لا يزال في حيوية الشباب، وتألق السياسي، وجدارة التربع على عرش الصحافة العربية، مع حضور قوي على مستوى العالم، هذا الرجل هو من فتح باب جمال عبد الناصر للشاعر الشاب الواعد، فهيكل صاحب موهبة التقاط الكفاءات النادرة وتوفير فرص إبداعها في مجال الأدب والثقافة والفن والسياسة، ناهيك عن الصحافة ، لقد رحب عبد الناصر بحضور محمود درويش الى مصر متجاوزاً حرج انه قادم من اسرائيل، كانت هزيمة حزيران ما تزال تلقي بظلالها الكئيبة على زعيم الامة وعلى بلده الكبير وشعبه المنهك، كانت ظاهرة عبد الناصر قد فتحت ذراعيها للطائر الذي افقدته الاعتقالات والاستدعاءات والإقامات الجبرية أجنحته وحرمته من الفضاء الرحب الذي لا حياة لشاعر من دونه، كان قرار محمود بمغادرة الجليل من أصعب القرارات التي اضطر لاتخاذها، كان دافع البحث عن الفضاء الرحب والأجنحة، قوياً ومنطقياً، الا ان مغادرة الوطن دون عودة ، أوجع روح الشاعر وفتح عليه باباً من النقد واللوم وحتى الادانة ما جعل الأمر بمثابة عقدة سوف يكابد آلامها وحرجها إلى أمد بعيد، كثيرون كتبوا عن اثم مغادرة الوطن، الا ان الشاب الذي احتضنه جمال عبد الناصر وفتحت له عاصمة العروبة أبوابها تجاوز العقدة، ونسي الأمر كله، حين ملأ الفضاء الرحب .. بأحلى القصائد وأعذب الأغنيات.

يقول محمود: بحثت عن الفضاء والأجنحة في موسكو، إلا أن أحلامي حول عاصمة المستقبل صدمت بمدينة متجهمة موحشة، وبحثت عن فضائي وأجنحتي في باريس، وقد اتعستني وكادت تقتلني نظرات رجل البوليس، وهو يقلب صفحات وثيقة السفر الاسرائيلية التي فيها كل البيانات عني الا ما يحتاجه الشرطي للسماح لي بدخول المدينة الساحرة، لقد وجد فراغاً بجانب كلمة الجنسية اذاً ما هي جنسية حامل الوثيقة هذا؟ هل الذي ما بين يدي الشرطي جواز مزور؟ أم انه لسفرة واحدة أم أنه يمنح لحالات اضطرارية .. 

ولكي لا يجهد الشرطي نفسه في الاجابة عن الاسئلة التي أثارها خلو الجواز من ذكر الجنسية آثر اعادة الشاب من حيث أتى أي على نفس الطائرة، كان محمود آنذاك مصنفاً من ذلك النوع من البشر في اسرائيل الذي يوصف بساكن الأمر الواقع، وليس بالمواطن الذي يحمل جنسية بلد.

ظل محمود عارفاً بجميل جمال عبد الناصر ومحمد حسنين هيكل مدى الحياة.

الحقبة القاهرية في حياة محمود حيث أمضى سنتين، كانت بمثابة المحطة الاولى في حياته الجديدة، أو في فضائه الجديد الذي صار بمساحة الكون كله، كان هيكل قد وضعه عضواً أساسياً في نادي الظواهر الخالدة، وهو لم يبلغ بعد الثلاثين من عمره.

لقد توغل آنذاك في عمق الحياة الأدبية، إلا أنه ظل على ضفاف الحياة السياسية، الا أن الاندماج في الاثنين معاً، كان في بيروت التي ما أن دخلها في العام 73 حتى وجد مدينة احلامه على شفير حرب أهلية طاحنة، اندلعت وهو لم يتعرف عليها بما يكفي.

كان تورط الفلسطينيين في الحرب الداخلية اللبنانية، دافعاً موضوعياً لأن يتورط هو فيها، رغما عنه لم يكن قادراً على النأي بنفسه عن حرب كان متأكداً من أنها من النوع الذي لا لزوم له، كان يراقب تنامي النفوذ الفلسطيني المسلح والسلطوي في لبنان، وكان يقرأ لوم أصدقائه اللبنانيين للظاهرة الفلسطينية على ما تفعل، في نظراتهم وتعليقاتهم، كان يشعر بحرج شديد، عندما يروي أحدهم واقعة تعرضه للتفتيش على حاجز فلسطيني مسلح، لقد رفض بشدة أن يؤسسوا تحت أي سبب دولة خاصة بهم داخل الدولة اللبنانية، بل انه كان متأكداً من أن هذه المجازفة ستؤدي الى خلاصات مأساوية، الا انه ابن فلسطين أولاً وأخيراً، وفي وضع مثل – الحرب المركبة – المحتدمة في لبنان كله. ماذا بوسع شاعر أو قصيدة أو كاتب أن يفعلوا؟، كان طوفان الحرب قد غمره وغمر كل المبدعين من أمثاله في كل المجالات، لم يخلُ أسبوع دون أن يفقد محمود واحداً من معارفه أو احبائه، في بيروت فقد ماجد أبو شرار الذي كان مُتَكَئاً معنويا وعاطفيا له، ورغم جمال وروعة ما كتب في بيروت أثناء الحرب، الا أن الواقع النازف في تلك المدينة الساحرة، جعله يعترف في سيرة حياته بأن أجمل مدينة أحبها، كانت المكان الذي لم يبدع فيه شعرياً بما يرضيه، رغم تل الزعتر وقصائد أخرى من بيروت وعنها، وبفعل الانغماس في الحياة السياسية الفلسطينية أوشك محمود أن يحترف السياسة، حين عين رئيساً لمركز الأبحاث الفلسطيني الذي كان إلى جانب تخصصه الأكاديمي في البحوث والدراسات، يشبه قاعدة كفاحية لمنظمة التحرير، ثم انتقل منه لرئاسة تحرير "شؤون فلسطينية" التي هي المجلة الأهم في تلك الحقبة، وتعمق أكثر في الحياة السياسية وسمي عضواً في المجلس الوطني – برلمان المنفى – وعضواً في المجلس المركزي ذي السمة السياسية الخالصة – وصاراً اسمه منذ ذلك الوقت يتردد كمرشح دائم لعضوية اللجنة التنفيذية، وكذلك كمعتذر دائم عن القبول بها الى أن تطور الأمر فيما بعد، ليجد محمود نفسه في قلب المطبخ السياسي بحكم الموقع والمكانة، وعلى مضض قبل عضوية اللجنة التنفيذية ولكنه أصر على أن يكون معه شفيق الحوت – وحين سئل لماذا كل هذا الاصرار على شفيق قال: كي أجد مثقفاً أتحدث معه!!!