الحدث الثقافي
تقوم الحدث، بنشر كتاب محمود درويش في حكايات شخصية، للكاتب والقيادي في حركة فتح، نبيل عمرو، على 11حلقة.
صدر الكتاب عام 2014 في 145 صفحة من القطع المتوسط وأنتجته مؤسسة محمود درويش في رام الله، وقدمه الشاعر والكاتب الراحل خيري منصور.
ويسلط الكتاب الضوء على خصائص شخصية وسلوك الشاعر الكبير، وفهمه للحياة، والأشخاص وعلاقته بالمدن والشعراء وكبار الكتاب العالميين، مع فصل خاص يتحدث فيه محمود درويش عن حياته من الطفولة حتى ما قبل وفاته بأربع سنوات.
كما يعرض الكتاب مسحاً لعلاقة الشاعر الكبير بالسياسة والسياسيين وهواياته وعلاقته بالمرأة والمال، وشؤون الحياة العادية.
تكرس محمود درويش كواحد من أهم شعراء القرن، بدأ الصعود وفق المعادلة البسيطة والبليغة، العالمية جذرها محلي، والمحلي هو الحالة الفلسطينية المعجونة بالمأساة، والمتداخلة مع محيطها العربي حيث الانتماء القومي واللغة الأساس، قبل أن يتطلع الى أن يعرفه العالم ويقرأه، فقد ثبت أقدامه في التربة الفلسطينية والعربية، صار مميزاً في بيئته ومتفوقا في لغته ومشهورا في محيطة، هنا لا يسعى محمود درويش الى العالمية، بل هي من تسعى إليه، ولن تسعَ إلا إلى مبدع صار رمزاً أو معلماً في مجتمعه ومحيطه، غير المقالات، والمقابلات الإذاعية والتلفزيونية والصحافية التي لا تحصى، أصدر محمود درويش ستة وعشرين ديواناً يحتسب منها بعض الكتب النثرية – وتُرجم الى جميع اللغات الحية في العالم، وفي مسيرته الطويلة، تعرف على أهم كتاب زمنه في العالم العربي والعالم الأوسع، كانوا جميعاً يقرأون ترجمات شعره، ويبدون اعجاباً وانبهاراً ليس بالشعر فقط وإنما بالشاعر، الذي كان واسع الاطلاع ويعرف الكثير عن تطور الحركة الثقافية والابداعية في العالم، لقد نظم زيارة للحائزين على جائزة نوبل للآداب لفلسطين، كان يتردد اسمه كلما جرى حديث حول من سيحصل على نوبل في الأدب لهذا العام، إلا أنه كان متأكداً من استحالة حصوله عليها ليس لقصور في ابداعه وإنما لأسباب سياسية.
لم يكن محمود درويش مجرد شاعر يعرفه نظراؤه من المبدعين في العالم، بل صار نجماً ساطعاً، يسعى الى تكريمه زعماء العالم، ويدعى الى أماكن كانت عصية على غيره من الزعماء السياسيين، لقد دعي لعشاء في القصر الملكي بهولندا، وصادف ان توفيت والدة الملك في ذات الوقت، إلا أن رجال البلاط وبايعاز من الملك، أجلوا اعلان الوفاة الى حين انتهاء حفل العشاء التكريمي لمحمود درويش، ما كان امراً كهذا ليحدث لولا سمو مكانة الشاعر في بلده وفي العالم.
لو أحصينا جوائز التكريم التي حصل عليها محمود، وعناوين هذه الجوائز لكان هذا وحده كافٍ لتتويجه على عرش الشعر العربي، وكصاحب مقعد راسخ ومميز في بلاط الشعر العالمي بكل لغاته وعصوره.
كان محمود معافى تماماً من الغيرة، ومبعداً نفسه عن منافسة أي شاعر أو أديب عربياً كان أم أجنبياً، كان واثقاً تماماً من رسوخ موقعه على القمة، الثقة منحته قوة معنوية، أهلته لتقويم الأدباء والشعراء بصورة موضوعية، فلا يتورع عن ابداء اعجابه بقصيدة اطلع عليها، أو مقالة قرأها، أو بموهبة واعدة، كان يعشق اللغة الجميلة، ولا يتردد في التعبير عن انبهاره بها وبصاحبها.
ذات ليلة في بيروت، وكان محمود آنذاك رئيساً لتحرير مجلة "شؤون فلسطينية" وهي المجلة الأهم في زمنها، اتصل بي وسألني:
سمعتك تقرأ مادة في الاذاعة، هل أنت من كتبها؟
أي مادة؟.. في أي وقت؟.. فأنا أقرأ كثيراً.
حوالي الثامنة مساءً.
ماذا تذكر منها؟
لقد أثرت بي كثيراً- لغتها في منتهى الرقي "ووصفها بلغة المستقبل" فيها كلام عن الطفل الفلسطيني الذي يدهنونه منذ ولادته بزيت الزيتون، ويخلص النص الى جملة أبهرتني.. هيهات هيهات أن يخلعوا فلسطين عن جلودنا.
نعم، هذه حلقة من برنامج كلمات إلى فلسطين، وهي بقلم الشاعر محمد حسيب القاضي.
سمعت عنه، أليس هو مؤلف أهم الأناشيد الفلسطينية، وقائل ناقش اسمك يا يما على كعب البارودة؟
هو بالضبط وله أغانٍ أكثر بلاغة وجمالاً.
لم ألتقيه من قبل، أحب أن تعرفني عليه، فإما أزوره في مكتبه أو يزورني.
سأحضره غداً إلى مكتبك.
حين وصلنا الى مكتبه بادره محمود قائلا:
ما هذا يا حسيب، انك تكتب لغة المستقبل، لا هي بالقصيدة ولا هي بالتعليق السياسي.
دهش حسيب من مدى اعجاب الشاعر الأكبر بلغته وأغنياته، ومنذ ذلك اللقاء، حرص محمود على أن لا يضيع حلقة من برنامج كلمات الى فلسطين، فأعجب كثيراً بما كتب يحيى رباح ومريد البرغوثي، ومن قبيل العرفان لمحمود وتشجيعه لنا، أذعنا من نثره الشيق الجميل أكثر من حلقة، وكأننا نقول له: أنت من زرع لغة المستقبل في حقل الإبداع الفلسطيني، كان نثر محمود متآلفا تماماً مع لغة الثلة الابداعية التي أعجبته من اسرة الاذاعة.
إلا أن محمود كان شغوفاً بالشعر الشعبي المسمى "شعر العامية"، وكان وطيد الصلة بأربابها المصريين واللبنانيين، كان يعتبرهم شعراء مهمين متميزي الابداع، صلاح جاهين وفؤاد حداد وعبد الرحمن الابنودي، وكان صديقاً شخصياً له ولأسرته ولا يحل في القاهرة إلا ويأخذ بيت الأبنودي الجزء الاكبر من وقته، ولو قيض لك زيارة شقة الشاعر المصري الكبير لرأيت على الجدار صوراً متعددة لمحمود كما لو أنه شقيق عبد الرحمن وزوجته وعم ابنته الجميلة.
كان محمود في أمسياته مبهراً على الدوام، إلا أنه في تلك الليلة، كان مبهوراً، واكراماً للشعر الشعبي اعتذر عن إلقاء شعره بعد صلاح الحسيني أبو الصادق صاحب قصيدة غزة يا غزتنا يا مكوفلة بالنار، ولهذه الليلة حكاية.
كان القائمون على احدى دورات المجلس الوطني في الجزائر قد نظموا أمسية شعرية، جزؤها الأول لصلاح الحسيني ابو الصادق، والثاني لمعين بسيسو والثالث أي مسك الختام كما يقال لمحمود درويش.
اعتلى ابو الصادق المنصة وشرع في قراءة قصائده ومن ضمنها طل سلاحي، وغزة يا غزتنا، ويا زريف الطول، كان صوت أبو الصادق والقاءه المتميز، وشعره السلس السهل والمستحيل على غيره، قد استنطق الأكف والحناجر، وبدت القاعة الضخمة الممتلئة عن آخرها بالفلسطينيين والجزائريين والعرب، كما لو انها تهتز بفعل زلزال، كان محمود ومعين يجلسان في الصف الأول، انتظاراً لدورهما، همس محمود في أذن معين كما لو أنه يتشاور وإياه في أمر، وأخرج قلمه من جيبه وكتبعلى ورقة صغيرة رسالة الى عريف الحفل.
"استمر مع أبو الصادق حتى نهاية الأمسية، وأعلن عن تأجيل أمسيتي ومعين الى ليلة الغد".
استغرب الحضور الاعلان عن تأجيل وصلة معين ومحمود، واستمرار وصلة أبو الصادق الا أن محمود وبعد الاعتذار واصل حضوره وتفاعله مع الشعر الشعبي، وحين انتهى أبو الصادق من أمسيته الصاخبة، نهض محمود من مكانه وعانقه بحرارة ورفع يده الى الأعلى اعجاباً ودعماً.
وفي الليلة التالية، قرأ معين قصائد جديدة أعدها فيما يبدو للمجلس الوطني، ثم اعتلى محمود المنصة، وقرأ مديح الظل العالي.
وللشعر- المكتوب باللغة العامية – تأثير كبير على مزاج محمود، كان يرى فيه فضاءً واسعاً ربما يكون أكثر اتساعاً من فضاء الشعر المكتوب بالفصحى، كان يلتقط مقاطع من الأغاني الشعبية، يحفظها ويرددها كانت الكلمات هي اهم ما يشده الى الاغنية، وتكون الاحلى حين تلحن بصورة متقنة ويؤديها صوت يملك قدرة تجسيد جمال النص بالأداء، كان يردد باعجاب شديد أغنية فيروز، ليلية بترجع يا ليل وبتسأل ع ناس وبتسقيهن ياهااليل .. كل واحد من كاس .. غبلك شي ليلة يا ليل وانسانا يا ليل.
كان يغني المقطع الذي يقول: أنا مش سودا بس الليل سودني بجناحو
مرقوا الخياله عالخيل .. تركوني وراحو..
ومن الشعر الشعبي المصري كان يدندن مقطع من رقصة الممبوطية
بحرين واسعين وأنا شاب حزين .. داب في عنيكي بفرح وبخاف.. وقع المجداف .. مدي ايديكي.. تايه يا ناس والشط بعيد .. بحرين واسعين والله عنيكي.
الا انه كان يشعر بحيرة شديدة، وهو يحاول معرفة سر النجومية الطاغية، لأحمد عدوية، المغني الشعبي المصري، كان يقول باستغراب:
تصوروا فأنا أحب الكثير من أغانيه مع أنها.................
واذا كان محمود قد نأى بنفسه عن منافسة أي شاعر آخر، الا أنه كان يشعر باحباط تجاه الرواية، أمّ الآداب، كان قارئاً نهماً للروايات العربية والعالمية وكان يتوق لخوض تجربة الرواية، الا انه لم يجرؤ على مجرد المحاولة.
كنت أتحدث معه كثيراً في هذا الأمر، وكنت أناقشه في الرواية والروائيين، كان يقر بدرايتي في هذا الأمر لكثرة ما قرأت ، ومع انني لم أكتب رواية ولا حتى قصة قصيرة، الا انه كان يمازحني بالقول: زميلك ماركيز وصديقك غراهام غرين .. الخ.
محمود جرِّب كتابة رواية، انك صاحب لغة في غاية الجمال والتفرد، وليس صعباً عليك أن تبدع في هذا المجال.
لم تكن لديه اجابة محددة ومقنعة حول سبب احجامه عن التجربة- أو انه لم يكن ليفصح عن سببه القوي الذي يحول بينه وبين المحاولة.
محمود، انك لا تريد كتابة الرواية، لأنك غير متأكد من تفوقك في هذا المجال، فإن كنت الشاعر رقم واحد، فلا بد أنك تخشى أن تكون كاتب رواية رقم...
ضحك..
قلت له: لكني أقترح عليك مخرجاً يوفر لك أن تكتب رواية ملحمية، ولا يصنفك في خانة الروائيين؟
كيف؟
أكتب سيرة حياتك.
فكرة ... سأفكر
كتب محمود نثراً .. اقترب من الرواية في كتابه ذاكرة للنسيان الا انه ظل طيلة حياته متهيباً منها.