الحدث الثقافي
تقوم الحدث، بنشر كتاب محمود درويش في حكايات شخصية، للكاتب والقيادي في حركة فتح، نبيل عمرو، على 11حلقة.
صدر الكتاب عام 2014 في 145 صفحة من القطع المتوسط وأنتجته مؤسسة محمود درويش في رام الله، وقدمه الشاعر والكاتب الراحل خيري منصور.
ويسلط الكتاب الضوء على خصائص شخصية وسلوك الشاعر الكبير، وفهمه للحياة، والأشخاص وعلاقته بالمدن والشعراء وكبار الكتاب العالميين، مع فصل خاص يتحدث فيه محمود درويش عن حياته من الطفولة حتى ما قبل وفاته بأربع سنوات.
كما يعرض الكتاب مسحاً لعلاقة الشاعر الكبير بالسياسة والسياسيين وهواياته وعلاقته بالمرأة والمال، وشؤون الحياة العادية.
هل تسمح لي يا محمود بأن أتدخل في أشياء كثيرة قبل أن نبدأ المقابلة؟
أجاب: بالطبع، ولكن مثل ماذا؟
قلت: حاول ان ترتدي ملابس لم يسبق أن ظهرت بها على شاشة التلفزيون.
قال ضاحكا: هذا شرط تعجيزي، لأنني لا أضع على كل بدلة علامة، ولم أكتب عليها سيرة حياتها، فسامحني في هذه النقطة.
قلت: اذا اسمح لي ان نفتتح المقابلة معك، والتي ستكون بحضور عدد مختار من الجمهور، أن تتقدم إليك حفيدتي الكبرى "ريجان" بباقة ورد كي تساعد قريحتي على الأسئلة، وقد تكون مفيدة لك في الأجوبة.
قال: هذه لفتة جميلة أحببتها منك وسأحبها من حفيدتك.
تحت الأضواء الكاشفة، التي تضفي حرارة مزعجة على جو الاستوديو، أعلن محمود تذمره، قال وهو يمسح العرق عن وجهه:
لن أستطيع مواصلة هذا العذاب لأكثر من ساعة، إلا أنه وبعد اندماجه الكامل في الاسئلة والاجوبة ، تحمل أربع ساعات من الاضاءة الساطعة والحر الشديد والعرق المنهمر.
"لا تعتذر عمّا فعلت"، عنوان ديوانك الجديد، لا نريد استخدام كلمة الأخير، فنحن في انتظار دواوين أخرى. "لماذا لا تعتذر عمّا فعلت" هل جاء نتيجة حوار داخلي، هل فكّر محمود درويش في أشياء في حياته، وهل ندم عليها، ما هي فلسفة "لا تعتذر عمّا فعلت"؟
محمود: تفسيرك صحيح، وهو نتيجة تدقيق وتفكير وتأمل في مسيرة حياتي، كل إنسان في آخر الليل، أو في آخر طور معيّن في حياته، يعيد النظر في تجربته، ومسيرة حياته الشخصية، وعلاقتها بالموضوع العام. الإنسان يرتكب كثيراً من الخطأ، ويرتكب قليلاً من الصواب، إذا جاز القول: يرتكب صواباً. وفي المحصلة الإنسان نتاج تجربته وواقعه الاجتماعي والتاريخي. وبالتالي، النظر إلى الوراء بندم لا يفيد.
ضرورة الاستمرار بطاقة داخلية تسمح للإنسان أن يجد معنىً ما لوجوده على هذه الأرض. وبالتالي، فهذا كتاب بحث عن الأنا وتشظيها، وبحث عنها في داخل المكان، وتأمل في مسيرة اعترضتها الكثير من المشاكل والعقبات وعانت من الانقطاع.
ولكن في المحصلة، وبعنادي الشعري، قررت أن لا أعتذر عن أي شيء، وألا أندم على شيء فعلته، لأنني لا أستطيع أن أعيد النظر في الماضي. الماضي أكثر ثباتاً من الحاضر، ولا يمكن أن نعيد ونغيّر فيه.
لن يكون هذا الحوار مقتصراً على الشعر والإبداع والأدب، سنحاول الدخول إلى عالمك الشخصي، نحاول العودة إلى الذاكرة الأولى لنقرأ سطور البدايات، بداية محمود درويش، الذي اكتشف في نفسه شاعراً في لحظة ما، هل تستعيدها لنا بعد كل هذه السنوات الطويلة، في الرحلة الشاقة والممتعة في آن؟
محمود: من الصعب استعادة البدايات في حوار كهذا. يمثل كل عملي الشعري، منذ حوالي عشرين عاماً، محاولة لكتابة سيرة ذاتية تستعيد تلك البدايات. البدايات: لا يستطيع الإنسان التحرر منها، مهما تغيّر وتطوّر. فهي البذور التي خصّبت تجربته الشعرية والإنسانية. أتذكر من البدايات: طفولتي، وهي عبارة عن طفولة عادية. طفل قروي نشأ بين الحقول، وعناصر الطبيعة، والأشجار والأزهار، ووجد نفسه فجأة منقطعاً عن هذه الطفولة، وملقى به في عالم الكبار، وذلك بسبب نكبة 48.
أكثر ما أذكره، من هذه المرحلة، كيف انتقلت من الطفولة إلى عالم الكبار في مسيرة قسرية، عندما وجدت نفسي مع أهل قريتي ذاهبين في اتجاه المجهول، في اتجاه الوديان والجبال، حتى وصلنا إلى بلد، سمعت اسمه للمرّة الأولى: لبنان، وبقينا هناك حوالي سنة.
وكم كان عمرك آنذاك؟
محمود: كان عمري ست سنوات.
هل كنت تعي ما حدث؟
محمود: لا يستطيع الإنسان في هذا العمر أن ينسى شيئاً، خاصة التجربة القاسية. السيئ يدوم في الذاكرة أكثر من الحسن. بقينا في لبنان حوالي سنة في انتظار أن تنتهي الحرب، ويحرر جيش الإنقاذ فلسطين. كنّا نعيش ما يشبه سياحة مؤقتة. هكذا كان الوعي الشعبي في تلك المرحلة، حتى أدرك أهلي الحقيقة، وعادوا متسللين إلى فلسطين، لم يجدوا أثراً أو مَعلماً للمشهد الطبيعي الأوّل: قريتهم الأولى، التي دُمّرت تماماً في الحرب، وهكذا وجدت نفسي أحمل اسماً جديداً: اسم اللاجئ، أو الحاضر ـ الغائب في بلادي.
تصبح الطفولة، التي تكلمت عنها، أغنى وأصعب وأعقد في حياة إنسان يجد نفسه في مواجهة عاصفة عاتية، اسمها مأساة شعب بأكمله، والعاصفة مستمرة حتى الآن. الجيل الذي تنتمي إليه فتح عينيه على شيء استثنائي قليلاً ما يحدث لآخرين. هل هذا هو الأساس، وما هي المؤثرات الأخرى؟
محمود: أنا ابن بيئتي، وتجربتي الشخصية، وابن لحظتي التاريخية. ولو لم أكن هناك، لو كنت ابن بيئة أخرى سأكون شخصاً آخر، بالتأكيد. الإنسان لا يستطيع أن يطرح على نفسه أسئلة كهذه، ما دام هو نتاج تلك المؤثرات.
أكثر ما أثّر علىّ في تلك المرحلة الانقطاع الذي حصل في تاريخ العائلة، في تاريخ العلاقة بالأرض، وفي تاريخ الوعي الفلسطيني: صحونا وإذا بنا بلا وطن، أصبحنا لاجئين، وبلا مصدر رزق أيضاً، صودرت كل الأراضي والممتلكات الخاصة بالعائلة. غمرت حياتي مأساة يستحيل نسيانها. وكثير مما أفعله محاولة للثأر من تلك المرحلة القاسية.
وأذكر، أيضاً، أنني وجدت عزائي وتعويضي عن كل هذا التيه في القراءة. التهمت الكثير من الكتب في سن مبكرّة جداً، دون استيعاب ما أقرأ. كانت القراءة تنقلني إلى عالم آخر مضاد للعالم الذي أعيش فيه، وتعوّضني عن الخسائر الكبرى التي لحقت بنا. قرأت في البداية قصص الأطفال، ثم تأثرت كثيراً بحكايات "ألف ليلة وليلة"، وما فيها من شعر، وبأشعار الفروسية، وقصص الفرسان.
حلمت في ذلك الوقت أن أكون فارساً بالكلمة، أي أن أكون شاعراً، وكان هذا الطموح المبكّر طائشاً. كانت شخصية الشاعر بمثابة التعويض عن كل الهزائم والخسائر، التي لحقت بي. لذلك، التهمت الشعر، وبعد التقدم قليلاً في السن أثرت علىّ، وما تزال، وهي من مصادري الشعرية: التراجيديات الإغريقية. وكذلك دون كيخوت لسرفانتيس. أحببت القراءة عن الشخصيات والأبطال، والسير الذاتية التي يكتبونها. وأذكرُ: كان حلمي الصغير أن أكتب شعراً.
كيف تلمست القدرة على أن تكون شاعراً، ليس فقط لأنك تريد ذلك، هل قرأت في سيرة شخص ما كيف أصبح شاعراً، كيف كانت البدايات؟
محمود: لستُ متيقناً حتى الآن بأنني حققت طموحي..
هذا تواضع..!!
محمود: لا ليس كذلك. لكي أكون شاعراً، بالمعنى الأعمق للكلمة، لا يعني مجرد كتابة الشعر، بل أن يكون شعري مؤثراً في الواقع، لا مجرّد أغنيات، أو قصائد يقرأها بعض الطلاّب، وينتهي مفعولها. ما زلت مقتنعاً بأن للشعر فاعلية لم يحققها بعد. وهذا الطموح دافعي دائماً إلى التطوّر، وإلى البحث عن أشكال وفعاليات جمالية جديدة.
أما ما دفعني في البدايات فكان تشجيع الأهل، فعندما كنت "أخربش" أبياتاً شعرية، كان أهلي يرون فيّ موهبة قد تتفتح إذا رُعيت جيداً، وإذا نمّت نفسها. ربما البذرة الأولى، أو الموهبة الأولى الخام، كانت موجودة، ولكنها كانت تحتاج إلى تثقيف ورعاية وتطوير.
القصيدة الأولى، ثم الديوان الأوّل، بماذا شعرت عندما استلمت الديوان مطبوعاً، رائحة الديوان عندما يخرج من المطبعة، وتجد اسمك على صفحة الغلاف؟
محمود: من المؤكد أنني فرحت، ولكنني شعرت بالخوف. واضحٌ لماذا فرحت، فقد تمكنت من التعبير عن نفسي بطريقة ما. أما مصدر الخوف فكان السؤال: أهذا شعر، حقاً، يستحق أن يُبنى عليه، هل يملك قابلية للتطوّر. تراودني كل هذه الأسئلة، وتؤرقني حتى الآن.
بمعنى أن الناقد استيقظ معك عندما بدأت الكتابة، وظل حارساً لطريقة تقييمك لكل ما فعلته حتى الآن؟
محمود: النقد الذاتي مفيد، ونقد الآخرين مفيد، لكن النقد الذاتي الأعمق أن تكون ناقداً لنفسك، وألا تكتفي بإنجازك، وألا تفرح بما فعلت، وأن تكون قادراً على رؤية الجانب السلبي والناقص. لذا، الناقد فيّ يقظ جداً، وشديد الصراحة.
فلنعد مرّة أخرى إلى الطفولة، إلى العائلة، ومَنْ شجعك على الاستمرار
محمود: كان جدي صاحب التأثير الأكبر، فهو الذي رعاني. كان يأخذني معه في نزهاته وسفره، ويعلمني قراءة الجريدة: يأخذني إلى مجالس الكبار فخوراً بطفل يتمكن من قراءة الجريدة. وكنتُ أجلس في سهراتهم، واستمع إلى قصص عنترة وعبلة، و"ألف ليلة وليلة"، وغيرها من القصص الشعبية، التي نقلتني من عالم الطفولة إلى عالم التأمل في إمكانية صياغة أحلام قابلة للتحقيق. جدي، في الحقيقة، كان أبي من ناحية عملية. أبي، رحمه الله، كان خجولاً، لم يوبخنا قط، ولم يسألنا عن دروسنا وامتحاناتنا، ولا عن أي شيء آخر، كان رجلاً مسالماً وخجولاً. لذا، جدي هو صاحب التأثير الأكبر. ومن الأساتذة معلّم اللغة العربية في الأساس.
وأشعر بالامتنان لأنني في تجربتي الأولى كنت بلا مُعلّم بالمعنى الأدبي، ولم يرشدني مرجع ثقافي أو أدبي إلى ما أقرأ، أو كيف أكتب. كانت القراءة عشوائية في البداية، قرأت كل ما توّفر في كافة الأجناس الأدبية وغير الأدبية، واعتمدت، لعدم وجود مُعلّم، على نفسي، وعوّضت ما فاتني بقراءة منهجية فيما بعد.
اللافت ما قلته عن الجد الذي كان مزهواً بك وأنت تقرأ الجريدة. ساقتك الأقدار إلى الكتابة في جريدة "الاتحاد"، والعمل في الحركة الوطنية الفلسطينية، وتعرّضت للسجن والاعتقال. لم تكن مجرّد شخص يقول الشعر. كيف تستعيد ذلك كله؟
محمود: استعيد تلك الفترة بكثير من الامتنان للإطار السياسي الذي عملت فيه، وللفرص التي وفّرت الدخول في عالم القضايا الثقافية والصحافية في سن مبكرة. أتيحت لي رئاسة تحرير مجلة "الجديد"، وهي مجلة أدبية، وأنا في العشرين من العمر. وفي هذا العمر كنت محرراً في جريدة "الاتحاد" أيضاً.
وبالتالي، أنا مدين في وعيي الأوّل لذلك الإطار. كان الحزب الشيوعي الإسرائيلي المعبّر عن مطالب العرب تحت حكم الدولة الإسرائيلية. مطالبهم القومية من جهة، والاجتماعية وحقهم في المواطنة من جهة أخرى، على أساس توازن بين المطلب القومي، أي نيل الحقوق كأقلية قومية، ووعي الهوية على اعتبار أننا جزء من الشعب الفلسطيني، وأن الشعب الفلسطيني جزء من أمة عربية كبيرة. ولم تكن ثمة من وسيلة أخرى لنضال يجب أن يُخاض داخل المؤسسات الإسرائيلية للحصول على حقوق متساوية كمواطنين.
أحاول، الآن، الوصول إلى نقطة تثير التساؤل: أنت تنتمي إلى شعب احتلت أرضه، وصودرت حريته، وجدت نفسك تعيش في ظل مجتمع آخر، أي المجتمع الإسرائيلي، هل تفاعلت مع الجانب الثقافي لهذا المجتمع، وكيف عالجت الأمر في سن مبكّرة؟
محمود: كان فضولي شديداً. أدركت، في سن مبكّرة، ضرورة الاطلاع على الثقافة الإسرائيلية والأدب. أي على نتاج الآخر لأتمكن من فهمه. وبالفعل، استفدت كثيراً من الاطلاع على أدبيات المشروع الصهيوني، الأمر الذي دفعني ـ وآخرين ـ إلى الانخراط في معركة فكرية مبكّرة للدفاع عن وجودنا.
يبدأ المنطق الصهيوني بفكرة "عودة اليهود إلى بلادهم" بعد شتات طويل. هذا يعني أن وجودي كعربي في فلسطين مشكوك فيه، وأني كنتُ محتلاً للمكان. وهذا المنطق أدخلنا ليس في معركة الدفاع عن هويتنا الثقافية وحسب، بل وفي معركة الدفاع عن ماضينا أيضاً.
انخرطنا في معركة ثقافية حول شرعية الماضي، لأنها كانت مهددة، طالما أن اليهود "عادوا إلى بلادهم" وليسوا محتلين، ولا أصحاب مشروع كولونيالي. دخلنا في نقاش حول الرموز والأساطير والدين والخرافات التاريخية، لا لكي ننفي الآخر، ولكن لتثبيت حقنا في الوجود: في الماضي والحاضر والمستقبل، أيضاً.
هل اطلع الإسرائيليون على ما كتبت في ذلك الوقت، هل تُرجمت قصائدك، وكيف تفاعلوا معها، وأنت الذي كتب: "عاشق من فلسطين" و"سجّل أنا عربي"؟
محمود: من الطريف ملاحظة أن الاهتمام الإسرائيلي بالثقافة والأدب الفلسطيني لم يكن أدبياً، بل كان اهتماماً أمنياً، بمعنى أن أجهزة المخابرات، والحكم العسكري، هي التي تتابع وتدقق في قراءة المزاج الفلسطيني، وقد أوكلت هذه المهمة ليس للمستشرقين، وإنما لرجال المخابرات.
في السنوات الأخيرة تطوّرت هذه القراءة، أصبح جانب منها قراءة أدبية خالصة. ولكن، بشكل عام، الاهتمام الإسرائيلي بالأدب العربي، حتى في الخارج، يندرج في باب "أعرف عدوّك"، وفي باب دراسة وتحسين شروط الصراع مع العدو.
وبالنسبة للعرب، أيضاً، قرأ العرب إسرائيل من هذا المنظور، من منظور الصراع. يُقرأ الإسرائيلي إما لكي تعرفه، أو تصالحه، أو تحاربه. وما تزال القراءة المتبادلة بين الثقافتين العربية والإسرائيلية خاضعة لمتطلبات الصراع والسياسة.
وأنت، أيضا، مارست العمل السياسي، في البداية من خلال الحزب الشيوعي (راكاح)، ومن خلال العمل في جريدة "الاتحاد"، وتعرضت للاعتقال كما يحدث للمناضلين في السياسة، كيف تمكنت من التوفيق بين شخصية السياسي وشخصية الشاعر في تلك الفترة وبعدها؟
محمود: من الترف اعتبار مشاركة الشاعر في السياسة، أو تدخّل السياسة في الشعر، مسألة اختيارية، أو مجرد خيار ثقافي، أو على سبيل التضامن مع مواقف سياسية عادلة. السياسة شرط يُفرض علينا في عالم يفتقر إلى ما يعالج مشاكله دون سياسة، أي في عالم يفتقر إلى قيم، وعدالة، ولا يعترف بحق الآخرين في الحرية.
لذلك، لم أر تناقضاً بين عملي السياسي وعملي الشعري. الإنسان كلٌ لا يتجزأ، فيه السياسي، وفيه الإبداعي. طبيعة كل نشاط هي التي تخلق الاختلاف. طبيعة النشاط السياسي تختلف عن النشاط الإبداعي، ولكل منها حقول تعبير مختلفة. وبالتالي، لا أنظر إلى تجربتي باعتبارها أضرت، أو أخذت من وقتي الإبداعي، ولا أقول إن وقتي الإبداعي تشوّش بفعل العمل السياسي. بالعكس. ما هي السياسة؟ في آخر الأمر: السياسة أن تكون جزءاً من مجتمع، وأن تصغي إلى مشاكل المجتمع، وأن تُسهم في طريقة حلها، بحثاً عن مستقبل أفضل.
السياسة، بالمعنى الرفيع، تصوّر لبناء مستقبل آخر للإنسان، وليست المماحكات الحزبية اليومية..الخ. ولكن هذا التطابق بين السياسي والشاعر يصل إلى مرحلة انفصام ما عند اليوم الأوّل لإعلان الاستقلال. حينها يحق للشاعر أن يعطي وقتاً أكبر لإبداعه، ومن حقه أن يختلف مع السياسي، الذي كان معه بالأمس، فالاستقلال ربما يؤدي إلى استبداد، وقمع، أو خيبة أمل لا يمكن تفاديها. بيد أن هذا الانفصال سياسي أيضاً. أنت انفصلت عن السياسي الذي كان فيك لمصلحة سياسي أفضل. لذا، أعتقد أن المماحكة بين شخصية الشاعر وشخصية السياسي غير ضرورية، وخاصة في عالمنا الثالث، حيث مشاكلنا الأساسية سياسية.
هذا مفهوم، ولا أتكلّم عن الاهتمام السياسي العام، فأنا عاصرتُ فترة مورست عليك خلالها ضغوط لتكون في الإطار القيادي، ولكي تكون عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وترددتَ في ذلك الوقت، وشعرتُ بأنك تواجه معضلة من نوع ما..
محمود: هذا شيء مختلف. ينبغي التمييز بين العمل السياسي والعمل الرسمي، بين أن أكون مواطناً صالحاً (أي أنتمي إلى شعب وقضيته الكبرى) وأن أكون ناطقاً رسمياً. عندما استمعت من الراديو إلى خبر تعييني في اللجنة التنفيذية، ولم أكن موجوداً في المجلس الوطني، بكيت وكتبت مقالاً نُشر في "اليوم السابع" عنوانه "قبل كتاب الاستقالة". ولكن هذه الاستقالة تأخرت خمس سنوات، لأنني لم أتمكن من الصمود أمام ضغط الرئيس ياسر عرفات، والقيادة الفلسطينية.
أنت تعرف: أنا رجل عندي الكثير من الخجل، ولا أحب أن أجرح مشاعر الآخرين، لذلك بقيت مُرغماً، وتحمّلت كل العذاب الداخلي، لا لأنني لا أريد الاشتغال بالسياسة، ولكن لأنني لا أريد أن يُصنّف كل ما أكتبه باعتباره موقفاً رسمياً لمنظمة التحرير. ذلك يضع قيداً على حريتي في التعبير عن رأيي الشخصي، ولا أريد توريط المنظمة بمواقف لا تقبلها.
وبالتالي، اعتبرت أن هذا الإطار الرسمي، وليس السياسي، هو ما يشكل قيداً عليّ، وعلى حرية جنوني الإبداعي، وما قد يحرج منظمة التحرير الفلسطينية. لذا، أميّزُ بين السياسي والرسمي، وما زلت مصراً على عدم تولي مناصب رسمية، مع احترامي لكل الرسميين في السلطة.
إذاً، أنت لا تعتذر عمّا فعلت؟
محمود: في هذا الجانب أعتذر لأنني خضعت.
تأثرت بمن سبقوك من الشعراء الفلسطينيين والعرب والعالميين، أيضاً، يقول البعض إن محمود درويش وصل بالشعر إلى سقف من الإبداع فأتعب الشعراء الفلسطينيين، الذين يجدون صعوبة في الوصول إليه. أنت سمعت كلاماً كهذا، كيف تعقّب على الموضوع؟
محمود: أجيب على القسم الأوّل: تأثري بالشعراء الفلسطينيين والعرب والعالميين. تأثرتُ كثيراً. ما من شاعر يحترم هذه المهنة، أو هذه الكتابة، كان نتاجاً لذاته. الشاعر لا يولد من نفسه، بل هو استمرار التراكم الشعري العميق والغني في التراث البشري كله. الشاعر الذي يزعم أنه لم يتأثر يدعي الإلوهية. تأثرت بالشعر الجاهلي كثيراً، ثم شاعري الأكبر، أو جدي الأكبر شعرياً هو المتنبي.
تأثرت، أيضاً، بالشعراء العالميين، أوّل شاعر علمني كيفية تغيير وظائف الحواس بالصورة الشعرية كان لوركا، الشاعر الأسباني، الذي فتنني فتنة كبرى. ثم تعرّفت على نيرودا، وت. س. إليوت، وسائر الشعراء العالميين الكبار، وأعتقد أن القرن العشرين، خاصة نصفه الأوّل، كان أغنى قرون الشعر الإنساني قاطبة.
صحيح، شكسبير لم يظهر في هذا القرن، ولا دانتي، أو هوميروس، ولكن النادي الشعري بكل لغاته العالمية، في النصف الأوّل من القرن العشرين، كان غنياً ومتنوعاً إلى حد يمكن وصفه بالعصر الذهبي للشعر.
وبالنسبة لتأثري بالشعراء الفلسطينيين: لا بد لنا، في بحثنا عن تأصيل هويتنا الثقافية، من البحث عن جذور لهذه الهوية، ولا بد أن ندعي أننا امتداد لما فات من تراث وطني وشعري. بيد أن اعترافي ربما يجرح النرجسية الوطنية الفلسطينية، لأنني لم أتأثر بشعراء فلسطينيين، ولم يسهموا في تكويني الشعري، ولا في همومي ومشاغلي التجديدية. قرأتهم باحترام، وأقرأهم كجزء من تراث، وكأشخاص أسهموا في تشكيل وبلورة الهوية الثقافية الفلسطينية، ولكن أثرهم الشعري فيّ محدود، أو ربما لا يوجد.
أذكرك بموضوع السقف الشعري؟
محمود: أنا سمعت هذه التهمة، والتي لا اعتبرها تهمة. أعتقد أن الشعر ليس له سقف. للشعر فضاء، فضاءات، والشعر ليس مثالاً واحداً. لا أستطيع أن أدعي أن لي هيمنة من نوع ما معنوية وشعرية في الشعر الفلسطيني، لا أنفي ذلك. ولكن هذا لا يعني أنني أحجب أصوات غيري من الشعراء، أو أن ما تقوله كبح تدفق الشعرية الفلسطينية لدى الشباب الفلسطينيين. هذا ليس صحيحاً، فالشعر كما قلنا فضاء، أو فضاءات، وليس نموذجاً واحداً، وهو مفتوح على اقتراحات ومشاريع لا تنتهي. الحركة الشعرية تتكوّن من أصوات مختلفة في الخيارات، وأشكال التعبير، وفي الأساليب الشعرية.
كل شاعر شاب يتأثر بشاعر في زمنه، ولكن هذا التأثر يجب أن يدفعه إلى الاختلاف معه. وأنا من دعاة الاختلاف. مثلاً، لا أحب القصائد التي تشبهني، وأسعى إلى، وأشجّع، وأنمي التجارب التي تختلف معي. الاختلاف شرط تطوري وتطوّر الشعراء الآخرين.
وبالتالي، لا أرى أنني أشكل سقفاً. الشعر ليس سباقاً، ولا أقبل مصطلح الشاعر الأوّل والثاني، الفضاء الشعري يتسع لمئات وآلاف الشعراء، وكل واحد يضيف صوته الخاص، وهذا ما يمنح الشعر التنوّع والتعددية، والفضاء اللا محدود للإبداع الإنساني. أدقق في كل الأصوات الشعرية التي أراها، وأشجع الأصوات التي تختلف عني. مثلاً، قبل أيام قرأت في جريدة "الأيام"، [ملحق "يراعات" الذي ينشر ما يكتبه الأطفال]، ولفت نظري اسم شاعرة، فبحثت عنها، عمرها 16 سنة، بحثت عنها لتشجيعها، إذ رأيت صوتاً خارج تقاليد الشعر الفلسطيني الذي كنت في السابق أحد ممثليه.
لم أتوقع أن يقر محمود بفكرة السقف، هل تعتقد أن من السهل الخروج من عالم محمود درويش في الشعر، أم أن ثمة استجابة إيجابية لطريقته الشعرية؟ [سؤال موجّه إلى غسان زقطان]
غسان زقطان: لا يمكن تفادي طغيان قصيدة محمود درويش شعرياً، وهذه المقولة نقدية، وليست مقولة محمود درويش، النقاد هم الذين حمّلوا الأزمة التي يواجهها العديد من الشعراء، حمّلوها على قوة النص الذي قدمه محمود درويش، وقوّة نصه لا تكمن في فرديته، بل في حقيقة أنه يقدّم الجديد دائماً، يقدّم محصلة لمنجز شعري، ويتجدد مع كل جيل، ويطرح أسئلة بشكل متتابع ومتصل. وهذا، بالتأكيد، مشروع يُفترض أن يخلق أزمة في الحالة الصحية. ومع ذلك، أرى أن هناك أزمة قراءة لمحمود درويش، لم يُقرأ بالشكل المُفترض أن يقرأ به شاعر بهذه القوّة.
لدى النقّاد أم الشعراء؟
لدى النقاد والشعراء. هناك أزمة قراءة لا تقتصر على شعر محمود درويش، بل أزمة قراءة للكثير من المُنجز الشعري العربي. ولكنها تتضح في حالة محمود درويش تحديداً لأنه يطرح مجموعة من الأسئلة والاقتراحات الكبيرة والبالغة الأهمية منذ 40 سنة تقريباً. هناك أزمة قراءة لا أزمة كتابة، ولا وجود لسقف يمكن أن يضعه شاعر حتى الشاعر محمود درويش، هناك اقتراحات جمالية وشعرية عالية جداً ومتعددة في مشروع الشعر العربي.
محمود: ماذا نفعل تجاه هذه الظاهرة. كيف نجرؤ نحن، وكل الشعراء العرب، أن نكتب بعد شكسبير، من يقرأ شكسبير لا يكتب شعراً، لكن الشعر استمر بعده لأنه تفادى المثال بتنويعات أخرى وحساسية جديدة. وبالتالي، إذا كانت هذه مصيبتي فأنا أصلح لأن أكون عامل تحريض لاختلاف الشعراء عن خياري الشعري، والخيارات مفتوحة إلى ما لا نهاية.
الشعراء الفلسطينيون مظلومون في العالم العربي، كما أعتقد، لارتباطهم المسبق بمكان جغرافي وقضية محددة. وأستطيع تسمية 10 شعراء فلسطينيين هم الآن في طليعة الشعر العربي، لا يشبه أحد منهم الآخر، ولكل صوته المختلف. لذا، إذا كانت الهيمنة موجودة فهي هيمنة سابقة تم تجاوزها. كيف؟ ليس بالسباق، لسنا في ماراثون للرياضيين، من يركض أسرع، بل في حقل تعددت أزهاره، وتعددت التضاريس، وهذا ما يمنحه الشرعية ليكون مشهداً شعرياً واسعاً ومتعدد الصفات.
هذا التفسير مقبول، وإن كان الموضوع مثار جدل دائما، ولكن أريدُ تقييما لحركة ومكانة الشعر الفلسطيني، هل كون الشعراء الفلسطينيين أصحاب مأساة أغدق عليهم نوعاً أكبر من الاهتمام، أم أن قيمتهم الفنية والإبداعية هي التي فرضت مكانتهم؟
محمود: فلنعترف أن الاهتمام بما سمي بشعر المقاومة، الذي انفجر بعد العام 1967، نجم عن دوافع لدى القرّاء والنقاد على حد سواء، فقد رأوا فيه تعويضاً عن هزيمة حزيران، بينما لم يحمل ذلك الشعر جماليات تمكنه من تمثيل البديل الشعري، الذي أعتقد بعض النقّاد في ذلك الوقت أنه يحملها. ولكن، سرعان ما أرتد أولئك النقّاد على الشعر الفلسطيني فحاصروه في موضوعه ونمطيته.
ولنقل في معزل عن هذا السجال أننا انتقلنا من مرحلة التعاطف مع الشعر الفلسطيني لأسباب سياسية، ووطنية، وقومية، إلى قراءة هذا الشعر وإخضاعه لمعايير نقدية. وإذا أخضعناه لهذه المعايير أستطيع القول إن الشعر الفلسطيني يحتل الصف الأوّل، والمكانة الأولى في مشروع تطوير الحداثة الشعرية العربية، والشعر العربي المعاصر.
طرحتُ هذا السؤال انطلاقاً من قول لك مفادها أنك تحلم أو تأمل أو تحب أن ترى الشعب الفلسطيني وقد أصبح شعباً عادياً. وهذه جملة عميقة وجميلة. نُلاحظ دائما ما يشبه التحيّز إلى الخصوصية الفلسطينية، وكثيرا ما يتم التغاضي عن الشروط الفنية. الكثير من الأعمال والأفلام الفلسطينية حصدت الجوائز لأسباب سياسية..
محمود: هذا التحيّز خفّت حدته، بالعكس الموضة القومية الآن لا تنحاز إلى هذا التحيّز، بل تحاول تحجيم الأسطورة الفلسطينية بكل أبعادها سواء أكانت نضالية أم إبداعية، أو حتى قوّة الحياة لدى الفلسطينيين البسطاء. حُلمي أن نتحوّل إلى شعب عادي في ظروف غير عادية يمثّل محاولة للشكوى من ثقل الرموز والأساطير التي ننوء تحتها. نحن شعب مثقل بالأساطير والرموز.
ومصدر هذا ليس النرجسية، بل لأننا كنّا مضطرين للوقوف في وجه أساطير ورموز مضادة، بمعنى أننا كنّا نكسر الأسطورة الأخرى بمحاولة خلق أسطورتنا. بيد أن هذا الإرهاق قد يصيب النرجسية الفلسطينية بجرح عميق، فقد ننتبه إلى أنفسنا ونحن ننظر إلى مرآة ولا نجد فيها صورة وجوهنا الحقيقية. لذلك، محاكمة الذات، والنقد الذاتي، يحتاجان إلى حد أدنى من العادية في الحياة. البحث عن العادي في ظروف غير عادية شكل من أشكال اقتراح بطولة أخرى.
غير مُتاح لنا أن نكون طبيعيين وعاديين. أن نكون طبيعيين يعني أن نستقل، وأن ننتصر، وأن نقيم دولة ديمقراطية. هذا يبدو غير ممكن في الوقت الحاضر، ويحتاج إلى مزيد من البطولات. إذاً، نحن نقاوم فكرة البطولة الأسطورية باجتراح بطولة أبسط. الشعب الفلسطيني لا يريد أن يكون بطلاً، ولا يريد أن يكون قرباناً. يريد أن يعيش حياته الطبيعية كبقية الشعوب، خاصة وأن الشعوب تعيش متحررة من عبء التاريخ الثقيل، ومن عبء الأساطير، ومن عبء معبودات الذاكرة القديمة.
أنت عانيت، إلى حد ما، من الأساطير، وذلك عندما وُضعت في سجن شاعر الأرض المحتلة، ثم في سجن شاعر المقاومة، وربما في سجن ثالث، أعني بذلك شد وثاق الشاعر إلى معنى معيّن من معاني الحياة. أنت الآن الأكثر قراءة في العالم العربي، وكتبك المُترجمة تتصدّر قائمة أعلى المبيعات في بلد كفرنسا، وقد ترّسخ حضورك في المشهد الثقافي العالمي، لذا ربما جاز القول: لقد تحررت مما كان يبدو ذات يوم سجناً مجيداً..!!
محمود: كل سجن يكون مجيداً، إذ يمثل شهادة تثبت وطنيتك، وروحك النضالية، وانحيازك إلى أخلاقيات وقيم عالية، لكن السجن ليس هدفاً. يعني أستطيع أن أكون وطنياً خارج السجن، أستطيع أن أكون تقدمياً خارج الحصار، أستطيع أن أكون بطلاً في تمجيد الأشياء الصغيرة، غير البطولية.
هل أعاني من السجن، بأي معنى أعاني منه؟ يشرفني أنني كنت هكذا، يُشرفني أكثر من أي شيء آخر أنني وُلدت في أرض فلسطين المليئة بتعدد الثقافات والحضارات والرموز والأديان والأنبياء، إلى حد أنك عندما تمشي في القدس لا تجد موطئا لقدميك فالأنبياء يحتلون المكان.. المُقدّس مهيمن إلى حد يتعدى على بساطة الإنساني والدنيوي فيك.
أنا فخور بذلك كله، ولكن عندما نبحث موضوع الشعر لا أريد أن أُقرأ من هذا المنظار. أريد أن أُقرأ بمنظار النص الخاضع لمحاكمة نقدية عادية تنطبق على جميع الآداب. أريد أن يُقرأ شعري، أو فعلي النضالي، بصفته شعراً، لا بصفته شهادة وطنية. لذلك، الشعر الفلسطيني مظلوم مرتين: مرّة بتمجيده إلى حد يطمس جدارته، ومرّة بإهماله على فرض أن أهميته نجمت عن القضية. نُظلم في الحالتين: مرّة بالتمجيد ومرّة بالإنكار. وحتى الآن لا يتناول النقّاد الشعر الفلسطيني إلا في معرض تناول القضية الفلسطينية، على اعتبار أن الشعر الفلسطيني وثائق تفيد الباحث في القضية الفلسطينية. وهذا ظلم فادح لحق بشعر قدّم كل هذا الإنجاز، وله هذا الدور في تطوير القصيدة العربية الحديثة.
مقياس انتشار الشاعر يُقاس في جانب منه بعدد وحجم ما يُترجم من أشعاره، عندما تجد كل هذا الاستقبال والحضور في العالم، ألا تشعر بإمكانية عالية جداً لاختراق العالمية بشكّل فعّال؟
محمود: بصراحة: العالمية مصطلح فضفاض وغامض، ولا يعنيني كثيراً. قلت إن العالمية تبدأ من المحلية. لا يوجد إنسان لا تاريخي، ولا وجود لنص غير محمول على تاريخ وأرض. لا وجود لنص يأتي من اللامكان. وبالتالي، في العلاقة بين المحلية والعالمية البداية، دائما، من الجذور المحلية، وهي التي تمكّن هذا النص من الوصول، إذا توفرت فيه شروط جمالية، وتضمّن قضايا إنسانية تخاطب الإنسان أينما كان.
عندما تتحوّل فلسطين، أو تكون صالحة، شعرياً، كأرضية لمعالجة قضايا وجودية، وميتافيزيقية، وإنسانية عميقة، لا وجود لسجن، ولا لعقبة تعترض طريق الشاعر الفلسطيني في احتلال مكانة يستحقها في صفحة الشعر العالمي. المسألة هي: كيف نكتب فلسطين؟ هل إذا تحررنا من فكرة فلسطين، إذا محونا فلسطين من الكتابة، نصبح عالميين؟ وإذا كتبنا فلسطين نصبح محليين؟ السؤال هو الشعر ليس بما يقوله بل بطريقة تعبيره.
قد يجد القرّاء الأجانب في شعري عدة مستويات، فهم يهتمون بالمستوى الجمالي، وبقصة الشعب الفلسطيني، أيضاً، وربما معاناته، كما ويهتمون بمدى التقاء ثقافة هذا الشاعر بثقافاتهم. وبهذا المعنى يصبح الشعر منبراً مفتوحاً للحوار العالمي، وفي هذا الحوار لا يكون الشعر وطنياً بالمعنى الضيق للكلمة، فالشعر في العمق سفر ورحيل بين ثقافات وحضارات ولغات وأزمنة وأمكنة، وفي هذه الرحلة يلتقي الشعر الصيني مع الشعر الباكستاني والفرنسي والأميركي والفلسطيني.