الحدث الثقافي
تقوم الحدث، بنشر كتاب محمود درويش في حكايات شخصية، للكاتب والقيادي في حركة فتح، نبيل عمرو، على 11حلقة.
صدر الكتاب عام 2014 في 145 صفحة من القطع المتوسط وأنتجته مؤسسة محمود درويش في رام الله، وقدمه الشاعر والكاتب الراحل خيري منصور.
ويسلط الكتاب الضوء على خصائص شخصية وسلوك الشاعر الكبير، وفهمه للحياة، والأشخاص وعلاقته بالمدن والشعراء وكبار الكتاب العالميين، مع فصل خاص يتحدث فيه محمود درويش عن حياته من الطفولة حتى ما قبل وفاته بأربع سنوات.
كما يعرض الكتاب مسحاً لعلاقة الشاعر الكبير بالسياسة والسياسيين وهواياته وعلاقته بالمرأة والمال، وشؤون الحياة العادية.
تكلمنا كثيراً عن الشعر، ولكنني أود الكلام الآن عن المرأة في حياة محمود درويش منذ الحب الأوّل، أنت لا تحب هذه المفردة، وسأترك لك تصحيحها..!!
محمود: أولاً دعني أعترف بأنني خجول، ولستُ جريئاً إلا عندما أكتب عن الحب، ولكن عندما أتكلّم عنه في مقابلة فهذا يسبب لي حرجاً شديداً..
وماذا لو حاولنا كسر هذا الحرج؟
محمود: نحاول!!
التمادي في بعض الأسئلة، مثلاً..!!
محمود: كما قلت: الحب الأوّل من أسخف المصطلحات التي اخترعها البشر. عندما يتذكّر الإنسان حبه الأوّل يضحك في نفسه، وعندما تتذكّر المرأة حبها الأوّل تضحك في نفسها أيضاً. لا نريد أن نضع الخيبة على عاتق الرجل فقط.
هذا عن التجربة بشكل عام ولكن لا تبتعد عن السؤال
محمود: أنا أقرأ الكتب، يعني عندي ثقافة حب من خلال القراءة، أنا أفضّل تعبير أوّل الحب..
آه، نعم هذه هي الكلمة.
محمود: اختلفت مرّة مع مترجمي الفرنسي السابق، لن أسميه، حول هذه الكلمة. عندي قصيدة أمجّد فيها ما يُمجّد في الحياة، من هذه الأشياء أوّل الحب. فترجمها الحب الأوّل. قلتُ له: هذا المعنى عكس أوّل الحب.
تقصد أوّل الحب أشهى؟
محمود: لا. أول الحب: أنت ذاهب إلى أوّل مغامرة، وإلى مجهول، تتفتح كل حواسك، كل إشعاعك الداخلي يتفتح من أجل سفر لملاقاة شخص آخر، لقاء عالمين مجهولين وجها لوجه. وبالتالي، هذه الفكرة، أو هذا الاستدعاء النفسي والروحي هو أجمل ما في الحب. عندما يتطوّر الحب، وتنكشف المرأة، وينكشف الرجل، كل واحد منهما أمام الثاني، أعتقد أن درجة الكلام تخف بشدّة. طبعاً، أنا لا أقدّم درساً في الحب.
هذه وجهة نظرك، طبعاً
محمود: هذه وجهة نظري. وأنا ملزم بالجواب. أما أن تسألني عن مكانة المرأة: أعترف بعدم وجود قصة حب كبيرة في حياتي. يعني عندي حب كثير، عندي أوّل حب كبير، ولكن ليس عندي قصة حب كبيرة أتحدث عنها، وأرجو أن نكف عن الكلام في هذا الموضوع.
سأحاول الالتزام، بصعوبة بالغة، فكرتُ قبل أن تمنعني عن السؤال في القول: من هي، ودون ذكر أسماء، التي أشعلت وأضرمت ما في داخلك، ذلك المزيج السحري من الرغبة والشوق، هناك حكاية من نوع ما..
محمود: ربما هناك حكايات. ولكن ليس لدىّ مرجعية عاطفية. أراغون كتب عن إلسا، وليس لدىّ ليلى قيس. أعتقد تلك أساطير اخترعها قيس. الحرمان يعني عدم تحقق الحب في علاقة جدية. لو تم ذلك لتغيّر الشعر العذري أصلاً. المرأة التي تترك أعظم الأثر هي المرأة غير المتحققة، نبحث عنها وإذا عثرنا عليها سرعان ما تختفي. يبدو لي أن عدم تحقيق الرغبة، وبلغة أبسط، الحرمان، أو الظمأ هو حافز أكبر للكتابة الشعرية عن الحب. وكل كلامنا عن الشعر الآن، وكل مبرر كلامنا عن الحب هو الشعر.
ولكن قبل الكف عن السؤال..
محمود: أما عندما يتحقق الحب، ويعيش في مؤسسة ـ ولا توجد لدىّ تجربة كاملة في هذا الموضوع، عندي تجارب ناقصة ـ فقد يتخذ أشكالاً أخرى: بناء الأسرة، والحب ينتقل من شبق وحنين جارف إلى صداقة ومشاركة في بناء أسرة، وينتقل إلى الأطفال. الحب يتحوّل ولكنه لا يختفي. لم أصل إلى مرحلة أرى فيها حبي وقد تحوّل إلى أسرة وأطفال.
مفهوم، أنت تفلت أيضاً من أسطورة الحب التي فُرضت عليك..!!
محمود: "أسطورة حلوة"
وقد نستمتع بها، نجد عندما نقرأ شعرك ذلك الالتباس بين حالات الحب الكثيرة في هذا الشعر، كما ونرى نساءً عاديات في ثنايا القصائد، كما يُقال. على أية حال، سنترك هذا الموضوع.
محمود: هذا التباس فظيع. كأن الإنسان يعانق شجرة. جميل أن نقبّل شجرة، ولكن ليس بهذا الشبق. المشكلة أن كل امرأة تظهر [في القصائد] تُسقط عليها كلمات خارج كينونتها النسائية، وتُحوّل إلى مُعادل للوطن.
نحن في انتظار ضيوف سيلتحقون بنا عمّا قريب. ولكن أريد العودة إلى المراحل الشعرية المختلفة، الفصول الأربعة، في حياة محمود درويش، لا أريد الخوض في النقد الأدبي، باختصار كيف تصف هذه المراحل؟
محمود: أنت تقترح علىّ أن أكتب كتاباً عن الفصول الأربعة، ولكن يمكن أن نضع عناوين لهذا الكتاب
نعم، عناوين، ولا أعرف ما إذا كان أصدقاؤك ومحبوك يسمعوننا الآن، نكتفي بالعناوين وننتقل إليهم..
محمود: أستطيع تحديد المرحلة الأولى، وهي كتابتي في حيفا. مرحلة الشعر البسيط، الذي يتكلّم عن الأم والأب والجد والأرض وأوّل الحب..الخ في هذه المرحلة عدّة تيارات، يعني ليست متجانسة، وفيها أيضاً "سجّل أنا عربي"، فيها حيرة العثور على خيار، ولكن الطابع العام كان البساطة. قصائد ربيعية، وهذا فصل الربيع.
المرحلة الثانية: اصطدامي بواقع العالم العربي، عندما دخلت التجربة العربية في القاهرة، وفي بيروت. كانت أوّل احتكاك لي بالحداثة الشعرية والعربية عموما في صخبها ونقاشها ومعاركها وتعدد خيارتها. وقد تحوّل شعري، أو أخذ طابع الدخول في معمعة هذا السؤال الحداثي، واخترقت الحرب هذه المرحلة، أيضاً.. الحرب في لبنان والاجتياح الإسرائيلي. وبالتالي، هذه الحرب أخرجتني من مشروعي الشعري، من بلورة وتطوير الحداثة الشعرية إلى متطلبات نداء الدم المسفوك، مراثي الكثير من أصدقائي، والكتابة عن تل الزعتر، وغيرها من القصائد الكبيرة، التي لا أعرف مدى انسجامها مع بدايات ما كتبته في بيروت، وخاصة عندما سبقتها نقطة انعطافي في الكتابة الشعرية، في قصيدة "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا"، التي كتبتها في القاهرة. وهذا، أيضاً، ربيع.
الصيف: مرحلة إقامتي في باريس. أعتبر هذه المرحلة من أخصب مراحل تجاربي الشعرية، فالمسافة وفّرت لي فرصة للتأمل في ذاتي، وفي لغتي وموضوعي. مسافة التأمل هذه هدّأت إيقاعي الشعري، وخففت الحماسة التي سيطرت على الكثير من قصائدي، وجعلتني أتأمل أسئلة الوجود والحياة والشعر، التي يطرحها إنسان طبيعي في هذا العالم.
مرحلة الخريف: ما بعد تجربتي مع الموت، عندما كتبتُ "الجدارية"، و"لماذا تركت الحصان وحيداً" حين رويت سيرتي الذاتية بطريقة شعرية. أما مرحلة الشتاء فلم أصلها بعد. أريدُ أن أُطيل عمر الخريف، لأن الخريف أجمل فصولي. أحب الخريف أكثر من بقية الفصول، فهو فصل يلتقي فيه الشباب مع الحكمة، تلتقي فيه الطفولة مع التأمل الحكيم.
[في هذه اللحظة يظهر عبر نظام الفيديو كونفرس الفنان مارسيل خليفة]
أهلاً، بالفنان الكبير، الذي يحبه الفلسطينيون والعرب، نرحب بك من رام الله، ونرسل تحية إلى بيروت وأهلها. نحن، هنا، مع شاعرنا وصديقك محمود درويش، بين محمود ومارسيل خيط من الإبداع، تجلى في قصائد مغنّاة وتجربة موسيقية فريدة.
محمود: أهلاً مارسيل..
مارسيل خليفة: مساء الخير. بين رام الله وبيروت "فشخة" [مسافة قصيرة] ولكن ما العمل..!! في بداية العام 1970 كنت طالب موسيقى في المعهد الموسيقي في بيروت، واشتعلت الحرب، ولم يكن معي سوى دواوين محمود درويش. كانت عندي بعض التجارب الموسيقية، وفي فترة من الفترات سُجنت في قريتي بسبب الأحداث، وصعوبة الحركة. ولم يكن معي في هذا السجن، في بيتي، سوى دواوين محمود درويش.
كنتُ أستخرج المقاطع، وأبدأ في تلحين القصائد. القصيدة الأولى كانت "وعود من العاصفة"، ثم تتابعت القصائد: ريتا، أمي، جواز السفر. ولم أكن أعلم أن هذه القصائد ستتحوّل بعد فترة إلى قصائد مغنّاة على نطاق واسع.
كثير من الناس لا يجيدون القراءة والكتابة، لكنهم سمعوا هذه القصائد وحفظوها وغنّوها في كل مكان، من بيروت إلى طنجة، يعني من المحيط إلى الخليج. لم أقابل محمود إلا بعد سبع سنوات، كنّا نقيم في نفس المدينة (بيروت) ولكن دون أن نلتقي، وكنتُ ألحّن القصائد دون إذن، واعتبرها ملكية عامة، حتى التقينا، وبدأت صداقة جميلة، واستمرت حتى اليوم.
هل شدتك جماليات معيّنة في القصائد، حيث تبدو وكأنها مُلحّنة، أم كان التكامل بين المضمون والكلمة معيارك الأوّل؟ عندما غنيت قصائد لمحمود درويش، كنّا في بداية الحرب الأهلية، إلى أي حد طغى هذا الجانب على جوانب أخرى؟
مارسيل خليفة: في الحقيقة كانت القذائف تنهال على بيروت، وكنت أغني "أمي"، مثلاً، وهي خارج الإيقاع العسكري. وكذلك أغنية هادئة مثل "ريتا". شعرت في البداية وكأن هذا الشعر هبط علىّ لكي ألحنه أو أغنيه. أشياء كثيرة تتشابه: الأرض نفسها، والأم، أم محمود درويش تبدو وكأنها أمي، وعيون ريتا تشبه عيون التي أعرفها. تعاملت مع هذه القصائد، وكأنني أنا الذي كتبها.
المسألة لم تكن الحرب فقط. في قصائد محمود درويش موسيقى، وقد حاولت إخراجها، ووضعها في نوطات موسيقية، يعني على الورق. ساعدني شعر محمود على اكتشاف إيقاعات وجمل موسيقية جديدة.
حتى في القصائد الكبيرة التي اشتغلت عليها، قصيدة أحمد العربي، مثلاً، وفي القصيدة الأخيرة التي اشتغل عليها، ولم أسجلها بعد "يطير الحمام". لقصائد محمود موسيقى تخصها، وما أفعله أنني أكتب الموسيقى الموجودة في تلك القصائد.
في السنوات العشر الأخيرة، في شعر محمود درويش وبعد عودته إلى الوطن، تحوّلات، وكذلك غزارة في الإنتاج، هل تلاحظ الفرق، وأنت تتعامل مع هذه القصائد؟
مارسيل خليفة: أرى أنها سلسلة متصلة الحلقات منذ القصيدة الأولى وحتى آخر القصائد. كلما قرأت عملاً جديداً لمحمود درويش أشعر برغبة في تلحينه كله، لكن الوقت لا يتسع للكتابة الموسيقية. أنا أحببت هذا الشعر قبل أن التقي بصاحبه، وبعدما التقيت به أحببت الاثنين معاً.
[يلتحق بالمقابلة الياس خوري عبر نظام الفيديو كونفرنس]
أهلاً بك أخي الياس، نرحب بك من رام الله
الياس خوري: تحياتي لكم، ولكل أهل رام الله وفلسطين
علاقتك قديمة وحميمة مع محمود درويش، نريد الكلام عن جوانب شخصية ثم ننتقل إلى العمل الإبداعي، كيف تقرأ محمود درويش الآن، بعد كل هذه السنوات، وهذا الإنتاج الغزير؟
الياس خوري: هذا سؤال صعب، فنحن نتكلّم عن مسيرة شعرية طويلة وغنية ومتعددة المستويات والأوجه والمراحل. تكلّم محمود عن المراحل، وأعتقد أن تحوّلات كبيرة طرأت على شعره، من شاعر البدايات، عاشق من فلسطين، مرورا بالتجربة الجديدة، أي الخروج من فلسطين، والعيش في القاهرة، ثم في بيروت، وهنا أيضاً وقعت تحوّلات: أحمد الزعتر، ومحاولة رقم 7، وتلك صورتها. مرحلة الإقامة في فرنسا جديدة، أيضاً، "ورد أقل". كل هذه التحوّلات تكشف نقطتين أساسيتين.
الأولى هي فلسطين. فلسطين ليست في بدايات محمود درويش وحسب، ولكن في بدايات كل الشعراء أيضاً. وهي نقطة ثقيلة: نقطة تقاطع بين التراجيديا الفلسطينية وهذا التاريخ العالمي المتوّحش، وهي بهذا المعنى نقطة مركزية، فالصراع على فلسطين، وفي فلسطين، هو ما فتح الباب أمام الشعر العربي الحديث.
وأهمية محمود درويش تنبع من خلق إمكانية اللقاء بين أقصى التشدد بالمعنى الفني، وأقصى الإخلاص للمحلية والموضوعات الحميمة المرتبطة بالتجربة اليومية المُعاشة. وقد احتاج محمود إلى وقت للوصول بشعره إلى هذا المستوى، الذي أحب تسميته بكتابة الحاضر.
نحن، في الثقافة العربية، إما نحب النظر إلى الماضي، الماضي الذهبي للشعر العربي، ونتكلّم عن الشعر في العصر العباسي، مثلاً، أو النظر إلى المستقبل الذي يتجلى أحيانا في صورة النموذج الثقافي الغربي. ولكن، هذه هي المرّة الأولى التي تلتقي فيها العناصر الشعرية حول الحاضر لتكتبه، فيصير التجديد ليس رغبة في التجديد وحسب، ولكن محاولة لاكتشاف عوالم جديدة في الأدب والحياة أيضاً. وهذا جوهر التجربة الفلسطينية كما أعتقد. وفي المستقبل، في تاريخ الأدب العربي، سيؤرخ لفلسطين باعتبارها نقطة هذا اللقاء، وبوصفها منعطفاً أساسياً في الثقافة.
النقطة الثانية: تجربة محمود درويش كشاعر رفض البقاء في الإطار الذي وُضع فيه. كان محمود في الخامسة أو السادسة والعشرين من العمر عندما أصبح نجماً في العالم العربي. وهذا، في جانب منه يمثل مشكلة، وقد يحكم عليه بالجمود، إذ يضطر لإعادة نفسه لكي يبقى الناس مبسوطين منه. وأعتقد أنه مر بأربع مراحل كانت كل واحدة منها مغامرة، ولحظة خطر حقيقية، لأنه لم يبحث عن علاقته بالجمهور فقط، فالعلاقة قائمة استناداً إلى بنية القصيدة، وما يضبطها من إيقاع، بل بحث عن التعبير، عن الحقيقة الشعرية، وهذا ما يمنحه مكانة متميّزة ليس في التجربة الفلسطينية وحسب، ولكن في الشعرية العربية أيضاً.
وهذا ما يجعل منه صوتاً متفرّدا، تمكّن من الربط ما بين الاستمرارية، بمعنى أن شعره استمرار للشعر العربي، وإيقاعات هذا الشعر استمرار لذاكرتنا الموسيقية والإبداعية، وفي الوقت نفسه هذه الاستمرارية انقطاع أيضاً، حيث أدخل عناصر جديدة تماماً ترتبط بتجربتنا، وكما نعيشها نحن.
محمود: شكراً، الياس، أنا أتعلّم منك
الياس خوري: لا. أنت أستاذنا يا محمود. وأرجو أن نراك في بيروت قريباً. أنا التقيت بمحمود درويش في مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت، كنّا في مطلع العمر في تلك الأيام، الآن شابت رؤوسنا. مارسيل لحيته شابت، وأنا شَعري شاب، إلا محمود ما شاء الله. كان اللقاء في مركز الأبحاث حول الأدب، وربما لعب محمود دوراً أساسياً في أنه كان أستاذاً دون أن يدري، أستاذ بمعنى أنه فتح لي آفاقاً جديدة للتفكير في التجربة الأدبية والفنية والثقافية، في قلب التجربة السياسية الكبرى التي عشناها، في الحرب الأهلية اللبنانية وما تلاها.
محمود: من مكونات ذاكرتي الثمينة أن بداية لقائي بك كانت في بداية السبعينات. عندما التقينا كنتُ محرراً في مجلة "شؤون فلسطينية"، وزارني شاب شقي وعصبي ومتوتر، ويحمل مقالة عن غسان كنفاني، رحمه الله..
تناقشنا،كان عصبياً، ولكنني توسمت فيه كاتباً مهماً، ودعوته فوراً للعمل معاً في مجلة "شؤون فلسطينية". ومن يومها نشأت صداقة شخصية وفكرية وثقافية، وسياسية أيضاً. وأسعدني كثيراً أن الياس كان من النقّاد الواعدين في دراسة القصيدة العربية الحديثة، التي كانت محرومة من مواكبة نقدية في مستواها، إذ كان الشعر يسبق النقد، وكان الشعر يمشي وحده دون رعاية نقدية. كان الياس من النقّاد الواعدين، ولكن لسوء حظنا، ولحسن حظنا أيضاً، أنه تفرّغ للرواية، وأصبح الآن أحد أهم الروائيين العرب، مما أهله، وكان لنا شرف أن نمنحه جائزة فلسطين للرواية.
مارسيل خليفة، أيضاً، حصل على جائزة فلسطين للموسيقى، وفي حيثيات قرار الجائزة أن مارسيل غنى لفلسطين كما غنى للبنان، وأنه يقرّب القصيدة العربية الحديثة إلى الذائقة العامة. ولحسن الحظ فإن مارسيل يتكلّم عن الشعر ببراعة متذوّق الشعر عالي المستوى، ويتكلّم عن الموسيقى بحكم المهنة.
ومن سوء الحظ أنني لا أستطيع أن أتكلّم عن الموسيقى كما تتكلّم أنت يا مارسيل عن الشعر، لذا مديحي لك سيكون ناقصاً، ولكن أنا فخور بك، وفخور أيضاً بالمرحلة الجديدة في عملك الموسيقي، صرت تعطي القصيدة موسيقاك، كنت في السابق تأخذ من موسيقى القصيدة، والآن أنت تعطيها من عندك. هذا التكامل بين الموسيقى الشعرية وموسيقى الفنان المُلحّن مارسيل خليفة ثبّت القصيدة العربية الحديثة في الذائقة العامة، وأثبت لنا أن الأغنية الشائعة ليست بالضرورة أغنية تافهة. شكراً لمارسيل والياس، سلّموا على بيروت، كل عام وأنتم بخير، ونرجو أن تكون السنة الجديدة أقل سوءاً من السنة السابقة.