الحدث الثقافي
تقوم الحدث، بنشر كتاب محمود درويش في حكايات شخصية، للكاتب والقيادي في حركة فتح، نبيل عمرو، على 11حلقة.
صدر الكتاب عام 2014 في 145 صفحة من القطع المتوسط وأنتجته مؤسسة محمود درويش في رام الله، وقدمه الشاعر والكاتب الراحل خيري منصور.
ويسلط الكتاب الضوء على خصائص شخصية وسلوك الشاعر الكبير، وفهمه للحياة، والأشخاص وعلاقته بالمدن والشعراء وكبار الكتاب العالميين، مع فصل خاص يتحدث فيه محمود درويش عن حياته من الطفولة حتى ما قبل وفاته بأربع سنوات.
كما يعرض الكتاب مسحاً لعلاقة الشاعر الكبير بالسياسة والسياسيين وهواياته وعلاقته بالمرأة والمال، وشؤون الحياة العادية.
كلامك مع مارسيل والياس أثار في داخلي رغبة السؤال عن المدن في حياتك، القدس، حيفا، وحياتك في بيروت وباريس والقاهرة، المدن التي رأيناها في قصائدك..
محمود: علاقتي مع أربع مدن رئيسة. علاقتي الأولى كانت مع مدينة حيفا. أنا ابن بيئة قروية، وحيفا كانت بالنسبة لي مدينة كبيرة بالمقارنة مع القرى. في حيفا تفتح وعيي الأوّل، السياسي والثقافي، وهناك اصطدمت بمعنى حياة المدينة، وشروط الحياة المدينية. وبالتالي، أنجزت الكثير من التحرر الشخصي، والتفتح على مظاهر الحياة الحديثة.
القاهرة، كانت المدينة الأكبر والأعظم، التي رأيتها لأوّل مرّة. رأيت فيها مدينة تتكلم العربية، وأسماء شوارعها بالعربية. وهذا ما فتنني. ورأيتُ، طبعاً، آثارها المعمارية والتاريخية وحيويتها، وفوق هذا بالنسبة لي الانخراط المبكّر ـ وأنا شاب صغير دون الثلاثين ـ في علاقة صداقة وزمالة مع كبار أدباء وكتّاب مصر، الذين قرأتهم في طفولتي، وجدتهم أمامي.
كنتُ في مبنى جريدة الأهرام في غرفة واحدة، مع العملاقين نجيب محفوظ ويوسف إدريس وابنة الشاطئ. كانت لدينا مكاتب في غرفة واحدة. وإلى يميننا، والباب مفتوح دائماً الأستاذ الكبير توفيق الحكيم، وفي طابق تحتنا لويس عوض، والعديد من الكتّاب المصريين.
القارئ الذي كنته وجد نفسه في حضرة كاتبه أو كتّابه المفضلين. وهذه التجربة أغنى تجربة ثقافية في حياتي. هذا كان يعني الكثير بالنسبة لي، أن أعيش مع هؤلاء الكبار، وأن أقيم صداقات معهم، وهذا أيضاً علمني أشياء كثيرة. كما تعرّفت إلى وربطتني صداقة عميقة مع مثلث الشعر المصري الحديث: صلاح عبد الصبور، أحمد عبد المعطي حجازي، وأمل دنقل، ومع شاعر العامية الأكبر عبد الرحمن الأبنودي.
سبحتُ في تجربة ومغامرة ثقافية كبرى. ولكن، كما قال لي لويس عوض: جئتنا في وقت الشقاء. كانت مصر في حينها خارجة من هزيمة العام 1967، والوضع ضبابي قبل حرب العام 1973، وبالتالي كانت القاهرة إلى حد ما مدينة حزينة ومتوترة، بيد أنني أحمل عنها أجمل الذكريات، وأحرص على زيارتها، على الأقل، مرّة في السنة، فهي عاصمة الثقافة العربية دون منازع، وفيها أيضا نشأت النهضة، وأشرق التنوير، في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
قربك من هؤلاء الكبار، وارتباطك معهم بعلاقات شخصية ساعدك في تقييم أكثر دقة لشخصياتهم وإبداعهم. باختصار، ماذا لو سألنا عن رأيك في مكانة نجيب محفوظ الروائية، وفي العالم بعد نوبل، أنت عرفته عن قرب..
محمود: نجيب محفوظ بسيط جداً، لكن بساطته محيّرة جداً. ففي داخله إنسان آلي منظم جداً، كل شيء بموعد محدد. عندما كنت أسأله أستاذ نجيب: "تشرب قهوة؟" أول ما يفعله ينظر إلى الساعة، قائلا لم يحن الوقت بعد، وعليه أن يغادر المكتب في الساعة الواحدة إلا الربع. يأتي إلى المكتب الساعة الثامنة والربع. مواعيده منظمة بشكل مدهش. وهذا التنظيم والنظام في حياة نجيب محفوظ صنع منه ذلك الكاتب العملاق. كان موظفاً حكومياً، وعليه ترتيب وقت للكتابة والعمل ولقاء الأصدقاء. كان وقته مرتباً، ويمكن أن أسميه عبقرية النمل، كان لديه دأب ومثابرة النملة.
وهذا عكس شخصية يوسف إدريس. إدريس فنّان مقبل على الحياة بطريقة عشوائية، لا يكتب بانتظام، ولا يأكل بانتظام، نظامه الفوضى المطلقة، ولكنه كان عبقرياً في كتابة القصة القصيرة. أهمية نجيب محفوظ أنه المؤسس الحقيقي للرواية العربية، والكاتب الذي أسهم في تطويرها أيضاً، حتى الآن. فهو المؤسس والمُطوّر. وهذا يعود إلى عمق تجربته، وإلى نظامه الدقيق في العمل. كان العمل المقدّس الأكبر في حياته.
وماذا عن زملائك الشعراء؟
محمود: تعرفت إلى كل شعراء مصر، كان المرحوم صلاح عبد الصبور مِنْ الذين ربطتني بهم علاقة يومية. وهو من شعراء الحداثة الأوائل في مصر، كان مشغولاً بهاجس الشكل الشعري دائما، وكيفية تطوير القصيدة العربية، والوصول بها إلى حد التقشف البلاغي. وأعتقد أن مسرحياته أسهمت في تحقيق انتشاره، وفيها زاوج بين الإبداع الشعري، والرؤية الفكرية والفلسفية للعالم. وهذا أمر يصعب تحقيقه في القصيدة الغنائية. وقد اتضح مشروعه الشعري عندما كتب المسرح الشعري.
الصديق الآخر هو أحمد عبد المعطي حجازي. وهو أجزل الشعراء العرب لغة. لغته العربية متينة جداً، وأكثر ارتباطاً من صلاح عبد الصبور بقضايا العالم العربي اليومية. حجازي مشغول بالقضايا القومية، وشعره محاولة للتفاعل معها والاستجابة لها. أمل دنقل كان الحل الوسط بين عبد الصبور وحجازي. ومن المؤسف أن مشروعه الشعري لم يكتمل بسبب وفاته المبكّرة، ولكنه كتب على سرير المرض أجمل ما كُتب في الشعر العربي الحديث.
الأبنودي شاعر محيّر. أنا لا أحب تسميته بشاعر العامية. طريقة بناء نصه الشعري حديثة جداً، ولا تختلف عن الفصحى. وهو شاعر حديث، من الظلم تسميته بشاعر العامية. الأبنودي شاعر معاصر وحديث، تشغله هموم الشكل وبنية القصيدة، وهذا ما يتحقق من خلال حساسية شعرية مفرطة تتجلى في العامية المصرية.
وماذا عن الفنانين، الأستاذ محمد عبد الوهاب، مثلاً، وعبد الحليم حافظ، هل نشأت علاقة شخصية معهم؟
محمود: أوّل فنان كبير قابلته كان الأستاذ محمد عبد الوهاب. بعد وصولي إلى القاهرة، وفي أقل من أسبوع، رُتبت لي زيارة إلى بيت الأستاذ عبد الوهاب. الكل يعرف أن الأستاذ عبد الوهاب هو الموسيقار الأكبر، والصوت الأجمل، ولكن ما لا يعرفه الكثير من الناس أنه يغني الكلام العادي، عندما يتكلّم يغني الكلام، وهو محدث بارع ملئ بالقصص والأساطير والمدن والعالم، وحكايات الملوك والرؤساء. وعندما يتكلّم تشعر وكأنك تسمع أغنية. تعرفتُ إلى عبد الحليم حافظ في بيت يوسف إدريس. في الصراع بين عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش كنّا منحازين إلى عبد الحليم حافظ، نحن من هذا الجيل. وقد كان لطيفاً، دمثاً، وكريماً، وكانت صحبته جميلة جداً.
يعني القاهرة أغنت تجربتك، وكانت الحضن الدافئ لإبداع شاعر جاء إليها ووجد نفسه في القمة..
محمود: كان هذا يشكل خطراً عليّ. المغامرة الكبرى في حياتي هي رحيلي عن حيفا. كنتُ طائراً بجناحين ضعيفين، وريشي لم يكن قوياً، وإذا بي أدفع نفسي نحو المجهول، وجدت نفسي وسط الكبار والعمالقة، وهذا كان يمكن أن يصيبني بالغرور، لولا التماسك الداخلي الذي لا أعرف سرّه أو مصدره، ولولا موهبة في التمييز بين الأشياء، وعدم الانخداع بالضوء. عندي حصانة داخلية ضد الضوء. وهذا ما حماني.
أود تقديم مداخلة قصيرة في هذا الصدد، أنت لست متطلباً، وتهتم بالأشياء البسيطة والمتع الصغيرة، وربما هذا ما حماك. أعرف هذا بحكم الجيرة على الأقل، ورؤية عالمك اليومي عن كثب. وأنت، أيضاً، تضع شروطاً صارمة لحماية شخصيتك، وشخصية الشاعر والمبدع، وربما احتاج الأمر إلى بعض الوقت للوصول إلى هذا التوازن في عالم لا يعرف طريقة التعامل مع المبدعين والنجوم الكبار، الذين يحاولون الخروج من أسر النجومية. ثمة، أيضاً، مسألة الحرص على المستوى. ربما يبدو السؤال بسيطاً: البعض يفكر أن الإلهام يهبط على الشاعر فيمسك الورقة ويكتب، هل تخطط للقصيدة، وهل ثمة من طقوس خاصة في الكتابة، ما هي حدود المصنوع والتلقائي في شعر محمود درويش، المستمر معنا بهذا القدر من المستوى الصاعد دائماً؟
محمود: من الضروري أن يعرف القرّاء، والشعراء أيضاً، خاصة الشباب، أن الشعر رهان لا ضمانة له. أنت لا تستطيع أن تتأكد بأنك ستكتب قصيدة أخرى، لا توجد ضمانة. وبالتالي، هذا السر الشيطاني الذي اسمه الشعر، لا أحد يعرفه، يستعصي على التعريف، لا نعرف حتى الآن ما هو، كما لا نعرف ما هو الحب. ولكن الشعر موجود، والحب موجود. أنا الآن غير متأكد بأنني سأكتب مرّة أخرى.
ولكن، عندما أشعر بنداء داخلي، أو بدبابيس في الدم، تحرضني على الكتابة، عليّ أولاً استكشاف الحالة، حالتي أنا، أبدأ عادة ـ وليست قاعدة عامة ـ باستكشاف حالة، أو فكرة، أجد موضوعاً يضغط عليّ: يناديني موضوع، تناديني عاطفة، يناديني غياب ما، شيء ما ينادي. وهذا لا يتحوّل إلى شعر إلا إذا أخذ شكله صورة، بمعنى أن الفكرة أو الشعور يجب أن يتحوّل إلى صورة شعرية. الصورة الشعرية بدورها لا تعد بالكتابة، إذ ينقصها الإيقاع. وعندما أعثر على الإيقاع أعرف أنني أستطيع الكتابة. دون توفر إيقاع المعنى، أو إيقاع الفكرة، تصبح الكتابة مستحيلة. هذا، إذاً مفتاحي الأوّل لكتابة قصيدتي. وهذه ليست قاعدة عامة. لكل إنسان خبرة جمالية مختلفة، وتجربة خاصة.
للكتابة عندي عدة مستويات. أكتب أولاً تاركا اللاوعي والوعي يتجاذبان المعنى. تصبح التجربة في حالتها الخام على الورق، ثم تبدأ الكتابة الثانية، وهي كتابة المدرِك لما يريد، الذي لا يريد أن يشبه ما كان عليه، بمعنى أن الناقد أو المفكر الشعري يبدأ في مراقبة القصيدة. أحياناً أكتب القصيدة ثلاث مرّات، ولكن كما قلت: لا أبدأ قبل العثور على الإيقاع.
هل ثمة خطة، بمعنى تقول سأكتب البداية بهذه الصورة أم أن هذه الأشياء تأتي في السياق؟
محمود: الخطة موجودة مسبقاً، فأنت تكتب قصيدة. ولكن إذا فكرّنا في القصيدة الملحمية، مثلاً، ثمة ضرورة للتحضير، وتصوّر شكل القصيدة، ولكن في سياق الكتابة يخضع التصوّر لتحوّلات كثيرة وتبدلات مفاجئة.
المفاجأة، الليلة، أن ممدوح عدوان سيطل علينا من دمشق. [يظهر ممدوح عدون عبر نظام الفيديو كونفرانس] نرحب بك من رام الله ويسعدنا أن تكون معنا، ولعل أوّل ما يتبادر إلى الذهن سؤال: متى تعرفت إلى محمود درويش، وكيف نمت العلاقة بينكما؟
ممدوح عدوان: كنّا في دمشق. عرفناه عندما نشر دواوينه الأولى، وأطلقنا عليهم شعراء الأرض المحتلة هو وتوفيق زيّاد وسميح القاسم. عرفته تقريباً من ديوانه الأوّل، وأعدنا طباعة الديوان في جريدة الثورة، وقتها كنت اشتغل في الجريدة. أما اللقاء بالمعنى الشخصي فحصل عندما جاء إلى بيروت. أنا أقدّره كثيراً، وهو لا يستخف بجهودي في الكتابة، سواء في الشعر، أو الترجمة، أو المسرح. لدىّ اهتمامات متعددة.
محمود: تجمعني وممدوح الحروف، اسمي واسمه يتكونان من الحروف نفسها.
وأشياء أخرى..؟
محمود: صداقتي مع ممدوح بدأت، فعلاً، منذ اللقاء الأوّل. وأنا معجب به ليس كشاعر فقط، فممدوح من الشخصيات الثقافية النادرة: متعدد المجالات والأجناس الأدبية، هو شاعر وكاتب مسرح وروائي وناقد ومترجم وكاتب سيناريو، وربما سيمثل بعد قليل..
ممدوح عدوان: لم يكتشفني أحد بعد يا محمود..
محمود: وهو صديق رائع، رحب جداً، وموسوعة في الإنتاج الأدبي..
أعتقد أن ممدوح عدوان رفع مستوى الدراما العربية على شاشة التلفزيون. التلفزيون أصبح وسيلة العصر في التأثير والاتصال، وإسهام الأستاذ ممدوح متميّز وأثره واضح تماماً. وما نود أن نسأل عنه ما تراه أنت في شعر محمود درويش في هذا الوقت بالذات، فترة المآسي والحصار والعواصف التي تجتاح فلسطين..؟
ممدوح عدوان: عندما وصلتنا أشعاره الأولى وجدنا فيه صوتاً متميزاً عن زملائه الذين كنّا نسميهم شعراء الأرض المحتلة. كانت عنده غنائية عالية وعذوبة في تناول الموضوعات، التي اتفق على أنها جافة في الأصل. اشتهر محمود بقصيدته، وبالفني في هذه القصيدة، لكنه لم يستسلم للشهرة التي حازها، ولا لغزارة الإنتاج التي امتاز بها، بل بدأ في مطالبة النقاد العرب، عندما كتب "أنقذونا من هذا الحب القاسي"، عدم مجاملة شعراء الأرض المحتلة، كما ظل مهموما ومهتماً بتطوير قصيدته، والشغل عليها فنياً، ولم أشعر مرّة واحدة أنه استسلم لتيارات عاصفة حوله، سياسية كانت أم فنية، وظل مصراً على متابعة خطاه في اتجاه واحد.
وهو الذي أنقذ سمعة الشعر العربي، وسمعة الشعر المهتم بالقضايا. يمكن أن يكون في شعره مهتماً بالقضايا، ويحمل عمقاً إنسانياً. هذا ما مكّن محمود من احتلال مكانة خاصة بين الشعراء العرب، وشعراء القضايا. من يشبهونه قلة قليلة، رغم عدد الذين حاولوا تقليده. وله جاذبية خاصة شخصية، وكذلك طريقته في إلقاء الشعر لها جاذبية. ولا تضيع الجاذبية عندما نقرأ النص بمعزل عن الإلقاء، وعن تجلي صاحبه على المنصة. الشعر نفسه هو الذي يحمل القيمة، وهذه القيمة تصل بسهولة إلى القارئ.
لم يكتب محمود درويش للمسرح، نثره يوازي إلى حد كبير شعره من حيث القيمة الجمالية، هل نحاول إقناعه بالكتابة للمسرح، مثلاً، وهل من نصيحة في هذا الشأن؟
ممدوح عدوان: ليته يكتب، ولكنني لا أستطيع النصح، لم يأخذ بكل نصائح أمه، فما أدراك بنصيحتي. الطريق التي يسير فيها، طريق القصيدة، غنية وتحمل شاعراً كبيراً في وزنه. ستغتني التجربة أكثر لو كتب المسرحية الشعرية، ولكن وأنا شاعر أيضاً لا أكتب المسرح الشعري. [ينتهي اللقاء مع الشاعر ممدوح عدوان].
فلنعد إلى موضوع المدن، نجوت من القاهرة المدينة الكبيرة، ولم يصبك الغرور، ثم انتقلت إلى بيروت، المدينة الساحرة باختلافها وتعدديتها، كيف كانت تجربتك في بيروت؟
محمود: لا أخشى الاعتراف بأنني أرى في بيروت أجمل مدينة في العالم. ففي بيروت التقاء الشرق والغرب. تستطيع أن تكون غريباً في بيروت. ولكن تعددية بيروت لم تحمها من الحرب الأهلية. أنا أرى في بيروت ما أريد أن أرى: أرى فيها ثقافة الديمقراطية التي حمتها من الانهيار، أرى فيها الانسجام بين التعددية والحصرية، الحرية الصحافية وثراء الصحافي، وأجمل صناعة كتاب في العالم العربي، أرى فيها التقاء البحر بالجبل، والقدرة على الانبعاث من رماد الحرب والدمار، وتعايش الطوائف. يعني: أرى في بيروت ما أريد أن أراه في مستقبل العالم العربي. التعايش والتعددية ضمن إطار يتفق عليه دون استحواذ طرف على آخر.
دخلت بيروت في العام 1971، فتنتني هذه الخلطة بين أوروبا والعالم العربي. تستطيع أن تقرأ كل الصحف الأجنبية يوم صدورها، وأن تجد الكتب الأجنبية كلها في مكتبة أنطوان في شارع الحمرا، وفيها المسرح والسينما، وحرية المرأة، والتحرر الشخصي، الحرية الشخصية محمية، وإلى حد ما مقدسة. وأهم من هذا كله: الحيوية الثقافية والسياسية. كانت بيروت ورشة أفكار، وصراع أفكار. كل ما يحدث في العالم يتردد صداه في بيروت. بمعنى ما، تجد كل العالم في بيروت. وهناك الحداثة الشعرية، وورشتها الأساسية كانت في بيروت، كما كان فيها ملتقى لكل المثقفين العرب من المنفيين وغير المنفيين. كانت ساحة حوار مفتوح للعالم العربي. أظن أن بيروت لا تحب الكثير من المديح، ولا تحب الكثير من الهجاء، بل تحب أن تكون ذاتها، وأن يحبها العرب دون أن يقتربوا منها أكثر مما يجب، وتحب أن يُسمح لها أن تبني حياتها دون تمجيد السوّاح والزائرين.
بمعنى أن تُحب كما هي..
محمود: دون أن يسقطوا عليها رغباتهم.
رأينا إسقاط الرغبات والأوهام، وإلى أين أوصل هذه المدينة الساحرة الجميلة. أنت ذهبت إلى بيروت تسبقك شهرتك، وعشت هناك بين أشخاص تأنس إليهم، وتفاعلت مع أدباء وفنانين، ومع الناس العاديين، وعندما غادرنا على البواخر [1982] لم تغادر، وبقيت متشبثاً بالمكان، هل تحدثنا عن الناس الذين عشت معهم وبينهم؟
محمود: ربما تستغرب إذا قلت إن أوّل شخصية ثقافية ذات وزن التقيت بها في بيروت الشاعر سعيد عقل. التقيت به في بيت الرحابنة، وفتنني الرجل، يتكلّم كتمثال إغريقي، وعنده وسامة كبيرة، وطلاقة، وسباحة في الثقافات، والفلسفة. كان رجلاً ساحراً جداً، وقد كتب في النهاية مقالات تتناقض مع جوهر شعره، كتب ضد الفلسطينيين، ومع ذلك فهو أكبر شاعر أنجبه لبنان، ومن كبار الشعراء العرب في القرن العشرين. وعلى الرغم من كل الخلافات السياسية، ومواقفه ضد الفلسطينيين، إلا أن ذلك لم يلغ إعجابي غير المحدود بشعره.
في بيروت تعددت صداقاتي: أدونيس، وصداقة خاصة جداً مع نزار قباني، ومع أنسي الحاج، ومع الشعراء الذين أسموهم شعراء الجنوب، إضافة إلى صداقة دائمة مع إلياس خوري. هنالك الكثير من الفنانين والرسامين ورجال السياسية والصحافة، ويمكنني القول إن معظم صداقاتي هي تلك التي نشأت في بيروت.
تحضرك بالتأكيد أسماء لامعة في الصحافة اللبنانية..؟
محمود: كان من عادتنا كل مساء أن نلتقي في مكتب أنسي الحاج في جريدة النهار، كان مكتبه كالمنتدى وهناك يأتي دائما غسان كنفاني، وغيره من الكتّاب، كان المكتب ملتقى لأغلب المثقفين والصحفيين في لبنان، أو الذين يزورون بيروت. وهذه ذكرى جميلة جداً. أذكر، أيضاً، جريدة السفير، وصديقنا طلال سلمان، ومجموعته الصحفية المحترمة. يعني كانت بيروت تفتح ذراعيها لكل زائر، وهذا ما أعطاها مكانة خاصة في الثقافة العربية.
وفي النهاية اضطررت لمغادرة بيروت؟
محمود: بعد رحيلكم في السفن، ووطأة الحصار الطويل، لم يخطر في بالي بعد انسحاب القوات الفلسطينية من بيروت، أن يأتي الإسرائيليون. ربما تعبنا من التفكير والتوقعات، فارتأيت أن أرجئ رحيلي إلى وقت آخر. ولكن فوجئت بعد أسبوع على الرحيل، وكنت ذاهباً لشراء الخبز من فرن مجاور، بدبابة إسرائيلية في حجم بناية، وعليها كتابة باللغة العبرية. لم يكن قد أُعلن بعد عن دخول الإسرائيليين إلى بيروت. كانت الدبابات أسرع من الخبر.
ذهبت إلى شارع الكومودور فوجدته مليئاً بالدبابات، أينما ذهبت وجدت دبابات. لذلك، اضطررت لإيجاد ملجأ في مطعم لأحد أصدقائي، نمت هناك ليلتين، لأن الإسرائيليين كانوا يأتون إلى البناية التي أقيم فيها ويسألون عني. وقد اضطررت للاختفاء، ثم دبرت أمر المغادرة.
غادرت، إلى أين؟
محمود: إلى دمشق.
لدمشق، أيضاً، خصوصية لديك، أظن أنهم نظّموا لك ذات يوم أمسية شعرية في ملعب لكرة القدم لاستيعاب العدد الكبير من الناس. محبوك كثر في دمشق..
محمود: مع محبتي لكل القرّاء، وجمهور الشعر في المدن العربية، إلا أن العلاقة الخاصة جداً، الكيمياء المشتركة لم أجدها في مكان كما وجدتها في دمشق. سحر لقائي مع جمهور الشعر في دمشق. صحيح، قرأت في ملاعب هناك، ولكن ليس هذا هو المهم. عند الدمشقيين حساسية للشعر، وكأن الواحد منهم يحمل مفتاحاً لسر القصيدة. يلامسون العالم الداخلي للقصيدة بسرعة شديدة. مكثت أسبوعين في دمشق، ثم ذهبت إلى تونس لأزوركم، ورأيت الوضع المأساوي لمنظمة التحرير الفلسطينية.
تعني المنفى؟
محمود: ليس المنفى. ولكن لو كنت روائياً لكتبت رواية مأساوية عن فندق سلوى في تونس.
انتقلنا من العالم الرحب والنفوذ الواسع إلى فندق على شاطئ البحر..
محمود: لم أتصوّر أن بوسع الفلسطينيين أن ينجزوا معجزة الانبعاث من هذه التجربة، ولكن..
ومع ذلك، وأنا من الذين عاشوا هذه التجربة، أرى أن أخوتنا في تونس خففوا الإحساس بالغربة، ونحن على مسافة ثلاثة آلاف ميل من المكان الذي نتطلع إليه، وقد أعطونا الكثير من حرية الحركة والاتصال، ونسجل لأهلنا في تونس أن تلك كانت فترة الإنجاز السياسي الناضج، واستبدال الجغرافيا المفقودة بالسياسة الممكنة، ربما نضجت هذه الأشياء في تونس..
محمود: قبل الكلام عن الفكر السياسي، لا شك أن كل فلسطيني شعر بامتنان تجاه كل مواطن تونسي. كتبتُ عن تونس وعن الشعب التونسي، الذي حمانا من الإحساس بالانهيار النفسي، والإحساس بالغربة. في نظرة التونسي إلى الفلسطينيين نوع من الأسطرة، كانوا ينظرون إلى الفلسطيني كأسطورة قادمة من البحر، بعدما أنجزت عملاً بطولياً، وبالتالي أحاطونا برعاية وحنان كبيرين.
في قلب كل فلسطيني تونس ما. وأنا، عندما ودّعت تونس في المسرح البلدي لا أعرف لماذا بكيت. فجأة الدموع سبقت كلماتي. إذا كان الإنسان خارجاً من تونس وفي الطريق إلى بلاده: لماذا يبكي؟ اختلطت المشاعر، وحتى الآن لا أعرف لماذا بكيت. ربما عمق الإحساس بالفقدان إزاء العائلة التونسية الكبيرة التي أعطتنا كل هذا الاحترام والحب. وعلينا أن نتذكّر أن تونس البلد الوحيد الذي لم نخرج مطرودين منه.
ربما لهذا السبب بكيت؟
محمود: ربما، لقد طردنا من عدة بلدان، لكن تونس هي التي ودعتنا حتى المطار، وحتى الميناء، بالزهور.
عودة إلى المدن، حضور باريس قوي في حياتك، وقد كوّنت علاقة مع الجمهور الفرنسي، لباريس سحرها الخاص لديك، ولحضورها ظلال في شعرك، وإليها تنتمي مرحلة نضج معيّنة في تطورك الشعري..
محمود: ثمة إجماع عالمي على أنها أجمل مدينة في العالم. قال عنها همنغواي إنها عيد متحرّك. ولها من المزايا أنها تجمع أكبر عدد من المثقفين المنفيين في العالم، وهي ملاذ الكتّاب المنفيين من أميركا اللاتينية، وأوروبا الشرقية. وهناك، يشكل المنفيون مجتمعاً يخفف عنهم وطأة المنفى، ويعطيهم أيضاً فرصة للتأمل في ذواتهم، وفي العلاقة الجدلية بين الوطن والمنفى.
باريس هي فصل الخريف في حياتي الشعرية. الفصل الذي استطعت فيه أن أجرى انقلاباً كاملاً على تجربتي الشعرية، وإحداث تحوّل في بنية القصيدة، وفي منظورها أيضاً، من ناحية ثقافية وفلسفية، ومن خلال التأمل في الذات الإنسانية بشكل عام، بحيث لا تبقى فلسطين مجرّد جغرافية، وإنما بوابة للالتحاق والحوار مع قضايا الإنسان الوجودية في كل مكان.
كما أعتقد أن باريس احتضنتني، وأعطتني الكثير، أكثر اللغات التي ترجم إليها شعري هي الفرنسية، أكثر من 21 كتاباً تُرجمت إلى الفرنسية، وتقول الإحصاءات إن كتبي هي الأعلى مبيعاً هناك. وبالتالي، أحمل كل هذه الذاكرة الجميلة عن باريس دون أن أكتبها، لم أكتب حتى الآن عن هذه التجربة، وربما أكتبها في ما بعد. وأنا حريص على زيارة باريس مرّة في العام على الأقل. باريس، أيضاً، تُرغمك على النطق، ينهمر الشعر هناك كأوراق الخريف. والخريف أحب الفصول إليّ، ومرحلتي الذهبية، إذا جازت التسمية، هي المرحلة الباريسية.