الجمعة  22 تشرين الثاني 2024

محمود درويش في حكايات شخصية (الحلقة العاشرة)

الخريف في الطريق إلى البيت

2020-07-27 12:20:42 AM
محمود درويش في حكايات شخصية (الحلقة العاشرة)
غلاف كتاب: محمود درويش في حكايات شخصية

الحدث الثقافي

تقوم الحدث، بنشر كتاب محمود درويش في حكايات شخصية، للكاتب والقيادي في حركة فتح، نبيل عمرو، على 12 حلقة. 

صدر الكتاب عام 2014 في 145 صفحة من القطع المتوسط وأنتجته مؤسسة محمود درويش في رام الله، وقدمه الشاعر والكاتب الراحل خيري منصور.

ويسلط الكتاب الضوء على خصائص شخصية وسلوك الشاعر الكبير، وفهمه للحياة، والأشخاص وعلاقته بالمدن والشعراء وكبار الكتاب العالميين، مع فصل خاص يتحدث فيه محمود درويش عن حياته من الطفولة حتى ما قبل وفاته بأربع سنوات.

كما يعرض الكتاب مسحاً لعلاقة الشاعر الكبير بالسياسة والسياسيين وهواياته وعلاقته بالمرأة والمال، وشؤون الحياة العادية. 

 

الخريف في الطريق إلى البيت

  • فصل الخريف ما يزال مستمراً، هل تخاف الشتاء؟

محمود: أنا أرجئ هذا التقويم، أريد أن أرى الخريف لكي أنتج أكثر، لأن الشتاء فصل الموت.. لا أريد أن أموت، مت بما يكفي. هذه إرادتي، ورغبتي، وحيلتي الشعرية، لا أريد لهذا الخريف أن ينقضي الآن، أريده أن يمتد لأن ما بدأته من كتابة لم يكمل حلقته بعد، فما يزال المشروع مفتوحاً على إضافات وتحسينات وتمنياتي في العام الجديد أن يطول الخريف أكثر، لكي آخذ وقتاً وأكتب ما لم أكتب حتى الآن. 

  • في مرحلة العودة كتبت الكثير والجميل. تفصلك عن مكانك الأوّل مسافات وحواجز، جميل أننا عدنا إلى الوطن، والموجع أننا محاصرون أيضاً. وأنت ترى كيف يحتفي بك الناس هنا. في الشوارع جداريات تحتفي بك وبأشعارك. كيف تنظر إلى هذه المرحلة؟

محمود: لا استطيع أن أقبل مصطلح العودة دون تحفظات. أعتقد أننا لم نعد، العائد هو الذي يعود إلى مكان خرج منه. صحيح أن الوطن وطن وكينونة الجميع، ولكن توجد أوطان شخصية أيضاً. بمعنى أن هذا الجزء من الوطن ليس وطني الشخصي. هذا وطن شعبي، ويسعدني أن أكون فيه، وبما أنه لم يكن وطني الشخصي لا توجد لدىّ ذكريات هنا. لذا، أعتبر إلى حد ما أنني موجود في غربة ما في جزء من الوطن. وطني الحقيقي هو حيث وُلدت، ونشأت، وتكوّنت الذاكرة.

ظروف عودتنا، إذا جازت هذه التسمية، محاطة بأسلاك شائكة كثيرة. لم تتح لنا فرصة الاحتفال بهذا الفرح. دخلنا في حالة حصار، وفي حرب جديدة. وحتى الذين اعترضوا على أوسلو، من أمثالي، وكانت لديهم تحفظات، كانت قلوبهم تصغي إلى وعد ما: ربما ينتج شيء عن هذا المشروع. وهذا ما جاء بي، ولكن خيبة الأمل كانت كبيرة، للأسف.

لخيبة الأسف عدة مستويات: كل طرف فهم أوسلو بطريقة مختلفة. فهم الإسرائيليون أوسلو كمشروع أمني يحوّل السلطة الفلسطينية إلى تابعة لإسرائيل. والفلسطينيون فهموا أن أوسلو يعد بدولة مستقلة، وينجز محطة في التحرير. أوصلنا هذا الفهم بين الطرفين إلى المأزق الحالي. 

الملف الفلسطيني فُتح مجدداً على هاوية جديدة، وعلى مخاطر جديدة، وليس على احتمال الوعد. ومع ذلك، لا نملك من خيارات سوى تكريس جهودنا في هذا الجزء من الوطن، لعل قوّة الأشياء فينا، أو معجزة ما، أو تحوّلات في الوضع الإقليمي والدولي تغيّر المعادلة لتحقيق هدف شديد التواضع: إقامة ما يشبه الدولة على ما يشبه الوطن، على ما يشبه الجغرافيا، على ما يشبه الحلم، ونحن قبلنا بذلك.

أتكلّم الآن كشاعر، لا كسياسي، فاسمح لي أن أخطئ، لأن أخطاء الشعراء مغفورة. أنا أرى دولة، ولا أرى الأمل في دولة فلسطينية فقط، بل أرى الدولة وراء الأمل، وأرى خيبة الأمل. فلنفترض بأننا أقمنا دولة هنا، ما معنى هذا؟ أين المُبدع، وأين دورنا في العالم؟ انشغلنا حتى الآن بتكريس طقوس الدولة: العلم، والنشيد الوطني، والسجّاد الأحمر، والسجون، والشرطة، والضرائب، والفساد الإداري، وفساد الديمقراطية.

كل مظاهر الدولة متحققة عندنا، ولكن ينقصنا أن نسأل: إلى أي حد يتمتع الإنسان بالحرية، ويتمكن من ممارسة حياته دون قمع سواء من داخله أو خارجه. سؤال الدولة سؤال شعري ووجودي، وليس مجرد سؤال في السياسة. ما هو مشروعنا الحضاري، ماذا نريد أن نبني، وإذا واصلنا الشكل الإداري الحالي، فلن نندم على أننا أقمنا دولة وحسب، ولكن سنصاب إلى حد ما بخيبة الأمل. وقد أعددتُ نفسي لخيبة الأمل من الآن.

  • تختلف الصورة، دائماً، ما بين وجودها في الخيال، ووجودها في الواقع..

محمود: كما يحدث لكل الأحلام المتحققة. وعلى الشاعر الرائي أن يرى ما بعد تحقق الأحلام، هل عندنا قدرة أن نخلق حُلماً جديداً، هذا هو السؤال، وأن نعمل على صياغة إنسان جديد، بعقلية وثقافة جديدتين، وهل نقيم حواراً مع العالم بشكل نوعي ومختلف أم لا. لا يجب تأجيل هذه الأسئلة، وتركها للمستقبل، المستقبل قريب.

  • فجّرت هذه الأسئلة شعراً غزيراً، وأنت لم تثرها مؤخراً بل منذ سنوات عندما لاحت في الأفق إمكانية العودة إلى جزء من الوطن، أو العودة الجزئية كما وصفتها..

محمود: ما أكبر الفكرة ما أصغر الدولة..

  • هذا في ..

محمود: العام 1986

  • كما قلت فجّرت هذه الأسئلة شعراً غزيراً، هل إلحاح هذه الأسئلة ما فعل ذلك، أم ثمة عوامل أخرى؟

محمود: عندنا أزمة من نوعين: سياسية تاريخية، ووجودية. أجلنا طرح الأسئلة الوجودية لأننا كنا مشغولين بالطريق أكثر من البيت. الطريق أكثر إلهاماً لأنه يكدس الوعود، وينتج صوراً وأحلاماً ومخيلة، وعندما تقترب من البيت قد لا تجد البيت بهذه الجمالية. كنّا، إذاً، مشغولين في وصف الطريق، وعندما وصلنا إلى البيت، ما كان يجب أن نقول وصلنا إلى البيت، وصلنا إلى ساحة خلفية للبيت، ومن الطبيعي ألا نجد البيت. هذا مجاز أدبي تاريخي: رحلة أودسيوس إلى إثاكا، وعودته ليجد بنيلوب العجوز، وهي وجدته عجوزاً أيضاً. هل تستحق الرحلة هذا كله؟ ولكن لا بد من الرحلة، ولا بد أن يكون هدف الرحلة هو الوصول، وإلا تصبح رحلة عبثية.

  • من خلال متابعتك التفصيلية لشعر محمود درويش، كيف تقرأ ما لديه من نفاذ بصيرة سياسية، وكيف يتجلى هذا في شعره؟ [سؤال موجه إلى حسن خضر]

حسن خضر: أود، أولاً، التعقيب على العلاقة بين الشعر والسياسة. أعتقد أن محمود درويش يمارس دوره كشاعر، هذه نقطة أولى. وثانياً، وهذا أمر مختلف تماماً، يمارس دور ما أسماه إدوارد سعيد بالمثقف العام. الشاعر ليس مثقفاً بالضرورة، لكن الموقف والممارسة السياسية يضفيان عليه هذه الصفة، ومحمود درويش يجمع بين الصفتين.

ثمة مسألة أخرى أنه شاعر دائم التجاوز والمفارقة، لا يقف عند حد ما، بمعنى أن الديوان الأخير ليس العمل المُشتهى، بل الذي لم يُكتب أو يصدر بعد، وهذا يفسر حالة من التجاوز من عمل إلى آخر، أعتقد أنها غير مسبوقة في الثقافة العربية. محاولة التجاوز هذه لا تقتصر على المضمون الشعري، بل وتتجاوزه إلى الشكل، أيضاً. ربما نال هذا الجانب قدراً أقل من الاهتمام، لكن محمود درويش يجرّب في طريقة القول الشعري، في شكل القصيدة العربية.

 هذا الجانب لا يثير انتباه القارئ العادي، ومع ذلك يحظى التجريب بإعجابه بدليل أنه يلاحق هذه المغامرة. وإذا تكلمنا بمفردات النقد الأدبي فلنقل إن ثمة محاولة للتجديد في القول الشعري، وفي أدواته أيضاً.

  • ولكن كيف نفسّر نفاذ البصيرة السياسية وتجلياتها في الشعر، وما دلالة هذا البعد في شعر محمود درويش؟

حسن خضر: هذا البعد يصدر عن خصوصية. وهذه الخصوصية تتجلى في إمكانية الجميع بين الصوتين الفردي والجمعي. وهذه الإمكانية غير متوّفرة للجميع، بل هي من سمات محمود درويش: لماذا يحبه الفلسطينيون، ليس لأنه فلسطيني وحسب، ولكن لأنه يشكل أحلامهم وأفكارهم، ويُسهم في صياغة هذه الأحلام، أيضاً.

 لا أريد الكلام بطريقة شاعت قبل عشرين عاماً، ومفادها أن الشاعر هو الرائي الذي يضع برنامجاً لما يجب أن يكون عليه المستقبل. هذا الكلام إشكالي وغير دقيق. محمود لا يرى المستقبل، بل يهجس به، ثمة هواجس وأسئلة دائمة، ولا يمكن القول إنها أسئلة مُنجزة، بمعنى أن المستقبل أمامنا ناجز وعلينا اللحاق به. هذا غير موجود لدى محمود درويش، هناك أسئلة تتعلّق بالمستقبل وتصدر عن هموم تجد ما يبررها في الحاضر، فإذا كان الحاضر بما هو عليه، يمكن التفكير في صور محتملة للمستقبل.

  • لقصيدتك أبعاد متعددة، هل ينتج ذلك عن طريقة تركيبها، أم عن اتصالك بالناس، ونجاح القصيدة في الوصول إليهم، ما يؤدي إلى تعددية في فهمها؟

محمود: من خصائص العمل الشعري أن يكون متعدد المستويات: مستويات القراءة والتأويل. شكوت دائما من القراءة السياسية لقصائدي، الآن خفت هذه النـزعة إلى حد ما، وأصبح النص يقرأ كنص أدبي، بصرف النظر عن هوية كاتبه. النص، طبعاً، لا يتخلى عن تاريخه الشخصي، تاريخ كاتبه، وخلفيته الثقافية والقومية. ومع ذلك يتمتع بنوع من الاستقلال الذاتي، وهو نتاج واقع منفصل. لذا، عندما يكون النص ابن واقع ما، ويكون منفصلاً عنه أيضاً يملك حياة جديدة، في مكان آخر، وفي زمان آخر.

أثر الفراشة

  • إذا استعرضنا بعض الأسماء بطريقة برقية سريعة فماذا تقول، بابلو نيرودا؟

محمود: من أعظم شعراء القرن العشرين، وعنده وحشية وثراء في الصورة الشعرية والإيقاع. صوره مدهشة، وإيقاعه مدهش. عُرف عندنا نحن العرب كمناضل، وهذه ميزة حميدة أن يكون الشاعر مناضلاً، ولكن أهم أشعاره ذلك النشيد الكوني من التأملات لتاريخ أميركا اللاتينية، وأهم من ذلك أشعار الحب. عُرف في طوره الأوّل "بعشرين قصيدة وحب وأغنية يائسة واحدة"، و"بمائة سونيتة حب". هو من كبار الشعراء ليس في اللغة الأسبانية وحسب، ولكن في العالم أيضاً.

  • ناظم حكمت؟

محمود: من أعذب الشعراء الإنسانيين، ومن أكثر الشعراء بساطة. ناظم حكمت، وعلى الرغم من إنسانيته وعذوبته، إلا أنه قاتل لمقلديه. فهو شاعر ما نسميه، نحن العرب، بالسهل الممتنع. وهو أيضاً من الشعراء الكبار في القرن العشرين. وقد طغت عليه في الثقافة العربية صورة الشاعر المناضل على حساب الشاعر المُبدع.

  • لوركا؟

محمود: من أحب الشعراء إلى قلبي: الشاب الساحر الراقص. شعره كله رقص، ومسرحه مهم أيضاً، مسرحياته الشعرية لا تقل أهمية عن شعره الغنائي. وهو من أكبر الشعراء الغنائيين في القرن العشرين. 

  • أعرف أن لديك علاقات شخصية مع كثير من الشعراء والكتاب، الذين عاصرتهم، ماذا عن رسول حمزاتوف؟

محمود: صديق حميم. هو من بلد صغير اسمه داغستان، ويكتب بلغة محلية، ولكنه كان من أكبر شعراء الاتحاد السوفياتي، ومن أعظم شعراء اللغة الروسية، صحيح أنه كتب بلغته، لكن أشعاره كلها تُرجمت. وهو أحد صنّاع الشخصية الداغستانية، عندما تريد أن تعرف ما هي داغستان تقول: بلد رسول حمزاتوف. يعني أصبح اسم الشاعر أكبر من اسم بلده. شعره غنائي وساحر، وله كتاب مذكرات جميل جداً اسمه "داغستان بلدي". وهو رجل كريم، لطيف المعشر، يسحب المزاح والسخرية. آخر مرة رأيته فيها كانت في أيام البيروسترويكا، كان محبطاً جداً وخائفاً من هذه التجربة.

  • تربطك صلة شخصية، أيضاً، بماركيز، أحد عمالقة الرواية في العالم، وتلتقي به من وقت إلى آخر..

محمود: من الأشياء التي أفخر بها أنني تعرفت إلى أسطورة أميركا اللاتينية الروائية، أي ماركيز. التقينا في أواخر السبعينات في المكسيك. كنت هناك، وزرته في بيته، وتعرفت على عائلته. وكان شديد الحماسة للموضوع الفلسطيني. يومها حضر ذلك اللقاء مندوب منظمة التحرير الفلسطينية في المكسيك فقرّعه ماركيز لتقصيره في الاتصال به وبالكتاب الآخرين، لخلق حالة ثقافية حول المسألة الفلسطينية. تكلمنا بعد فوزه بجائزة نوبل للآداب. وآخر مرّة التقينا كانت في باريس في اليونسكو.

  • ننتقل إلى شخصيات فلسطينية، ونحن ما نزال في أجواء رحيل فدوى طوقان، وقبلها إدوارد سعيد، ومحمد القيسي. في هذا العام رحل مبدعون وأصدقاء كنت على صلة بهم وكتبت عن بعضهم مثل سليمان النجّاب. ماذا يتبادر إلى ذهنك، مثلاً، عندما نقول أبو سلمى؟

محمود: التقيت أبي سلمى في وقت مبكّر جداً، في موسكو أعتقد في العام 1970. وهو رجل يشبه شعره. شاعر غنائي تقليدي إلى حد ما: شاعر الحنين الفلسطيني الأوّل. أعتبره شاعر الحنين في مجموعة الشعراء الثلاثة، التي تتكون منه ومن عبد الرحيم محمود، وإبراهيم طوقان. وبعد اللقاء الأوّل توالت اللقاءات في القاهرة ودمشق وأماكن أخرى.

إدوارد سعيد الشخصية الأهم في تاريخ الثقافة الفلسطينية. إدوارد سعيد ليس ابن الثقافة الفلسطينية، ولكنه ابن فلسطين. وتتجلى عبقريته في كونه من أكبر نقّاد الثقافة الغربية من داخل الثقافة نفسها. فهو ابن الثقافة الغربية وليس دخيلاً عليها. وعلاقته بفلسطين، والقضية العربية، وقضايا العالم الثالث، أخلاقية ومرفوعة على قيم الدفاع عن الحرية والعدالة، ورفض المركزية الثقافية للغرب، لأن الثقافة العالمية تتكوّن من ثقافات. أعتقد أن التاريخ الفلسطيني لم يُنجب عبقرية ثقافية ونقدية في حجم إدوارد سعيد، ومن حقنا كفلسطينيين أن نفخر به، فهو صورتنا وصوتنا، وقوّته أنه ابن الثقافة العالمية وليس العربية فقط.

  • قلت في وقت سابق إن المرحومة فدوى طوقان، وإن كانت شقيقة إبراهيم طوقان، إلا أنها لم تتأثر به بل كوّنت شخصية مستقلة..

محمود: فدوى طوقان إنسانة عذبة وجميلة جداً. لا أحد يشبه شعره مثلما تشبه فدوى شعرها، بعذوبتها، وتقشفها. فهي متقشفة في الحياة، وفي الشعر. وهي، أيضاً، صوت الذات النسائية المتوّحدة السجينة الممنوعة من التعبير عمّا تريد، عن الحب في مجتمع ذكوري. 

والمفارقة في شعر فدوى طوقان أنها عاصرت جيل النكبة لكنها لم تكن منه، وعاصرت جيل الروّاد في الحداثة العربية، ولم تكن واحدة منهم. عاصرت جيل شعراء المقاومة ولم تكن واحدة منهم. حافظت، دائماً، على غرفتها الشعرية الخاصة، الغرفة البسيطة، الرومانتيكية، التي تقدس الحب، وترى في الحب جواباً على مشاكل العالم، وسؤال الوجود. ولم تتأثر، أيضاً، بشعر أخيها إبراهيم، على الرغم من تأثيره البالغ عليها بالمعنى الشخصي.

  • لا يمكن أن ننسى معين بسيسو

محمود: معين بسيسو صديق العمر الشقي. كان ظاهرة، لا تعرف أين يبدأ الشعر فيه، وأين يبدأ الصعلوك. فهو مزيج من صعلكة وشعر وجموح. وقد برزت شعريته بشكل أكبر في مسرحه، لا في شعره الغنائي.

  • وهناك الجانب النضالي المباشر في حياته، أيضاً..

محمود: كان مشغولاً بالعواصف، وكان جزءاً من مظاهر حياتنا في بيروت بشكل خاص، ومن المؤسف أنه رحل مبكراً.

 

جائني النبأ.... بدا لي من مراقبتي لرد فعلي، انني لم اتفاجأ، كنت اتوقع موته، كانت كلمات طبيبه الفرنسي قد حفرت عميقا في ذاكرتي، " قنبلة موقوتة" إما الموت وإما الشلل .. يقول اكرم هنية الذي رافق محمود في رحلته الاخيرة، توقفت كل اعضاء جسمه عن العمل الا القلب الذي ظل ينبض الى ان يئس، وتوقف.

اخال محمود ، فكر في بحر الموت الذي احاط بجزيرته الصغيرة وابتلع في حياته اقرب احبابه واصدقاءه، لم يكن محمود يخاف الموت، فقد كان واعيا بما يكفي لأن الموت ان تقدم او تأخر الا انه لابد وان يأتي اخيرا، الا انه كان يخاف من الطريقة التي يمكن ان يموت فيها، ..

كانت ذاكرته مزدحمة بصور الموت غير العادي، ذلك الموت الذي اجتاح اقرب الاقربين اليه، قليلون منهم ماتوا كما لو انهم ناموا، جده ووالده ربما، وهذا الموت جاء وذهب في زمن صار غابرا، اما موت راشد حسين، حبيبه وبطله، والوحيد الذي اثر فيه من شعراء عصره، فقد كان موتاً مخيفا، لم يتأكد ما اذا كان الرجل الذكي والوسيم والمتفوق وصاحب قصيدة "الله اصبح غائبا يا سيدي"، مات محترقا بنار سيجارته، ام انه احترق بعد ان مات ... لافرق، لقد محت هذه الطريقة في الموت، صورة الوسامة، لتحل محلها صورة الرماد الاسود هل تمر هذه الطريقة في الموت على روح محمود دون ان تترك اثراً..؟؟

من الاشخاص الذين زرعوا داخل روح محمود حزناً لا يزول، كان راشد حسين، لم يكن يحبه فقط، بل كان شديد الاعجاب به، شخصا وشاعراً وحالة مميزة، ذلك يبدو واضحا من خلال قصيدته في رثاء راشد، والتي حملت عنوان " كان ما سوف يكون".

في الشارع الخامس حيّاني . بكى . مال على السور

الزجاجي ، ولا صفصاف في نيويورك.

أبكاني . أعاد الماء للنهر . شربنا قهوه . ثم افترقنا في

الثواني .

منذ عشرين سنه

وأنا أعرفه في الأربعين

وطويلا كنشيد ساحليّ ، وحزين

كان يأتينا كسيف من نبيذ . كان يمضي كنهايات

صلاه

كان يرمي شعره في مطعم " خريستو"

وعكا كلها تصحو من النوم، وتمشي في المياه

كان أسبوعا من الأرض ، ويوما للغزاه

ولأمّي أن تقول الآن : آه!

 

كان يمكن ان يسجل موت راشد حسين كحادث مأساوي يتوارى وراء كثير من وقائع الحياة والموت الا ان ما رسخ في روحه خوفه من طريقة الموت ، واقعة صديقه الشخصي وتوأمه في حقبة بيروت .. معين بسيسو الذي انفجرت شرايينه واجهد قلبه حتى توقف، وهو نائم على سريره في الفندق بلندن، كانت جملة" Don’t Disturb"  التي علقها على باب الغرفة تبدو لمحمود كما لو انه يوحي بان يترك كي يموت بهدوء دون جلبة رجال الاسعاف وزعيق سيارة الطوارئ وارتعاش الممرضات وهن يحاولن اعادة النبض الى القلب المتوقف، لقد مات معين الا ان انتباه عمال الفندق والزبائن الى ان جثته تقبع في الغرفة منذ يومين كان يؤرق روح محمود ويعمق في داخله الخوف من طريقة الموت.

(( معين بسيسو))

"لقد صرخ ذات مرة في وجوه الكتّاب  الفلسطينيين: قبل ان تكتبوا لفلسطين بالدم تعلموا كيف تكتبون بالحبر. وهكذا كانت قصيدة معين بسيسو دائما بمثابة ذخيرة حية في معركة حية، متوترة، مباشرة، شرسة، وسباقة. وأنا لم أعرف شاعرا عربيا معاصرا في مثل هذه الشراسة. لا ينطقه غير التحدي، ولا يتوهج الا في المعارك. وهو محتاج دائما إلي.. يحتاج إلي للصداقة وللمبارزة. وأشعر أنه منذ التقينا وجدني.. وجدني طرفا للمحاورة المباشرة أو الملتوية، طرفا للاعتراف وللاختلاف. وكنا دائما على سفر دائم، على ظهر موجة. وكنت اراقب فيه شهية حياة مجنونة."

من رثاء محمود درويش لمعين بسيسو بعنوان "لايجلس على مقعد الغياب".

 

يدرك ان ما حدث لمعين كاد يحدث له لولا الصدفة المحضة ، كان يقضي اجازة غرامية مع خطيبته حياة في فندق هادئ من فنادق المدينة الهادئة فيينا، جاءته نوبة القلب التي غالبا ما تداهم المصاب بها فجأة ودون مقدمات، حملته الخطيبة الى المستشفى رن جرس الانذار هرع كل الممرضين والاطباء نحو المريض الذي قرع الجرس من اجله، فهكذا هي قوانين المستشفى النمساوي، ادخل الشاب الغارق في غيبوبته الى غرفة العمليات، الى الضريح المؤقت الانيق الذي وظيفته تأجيل الموت الى وقت اخر ، جرى انعاش القلب، وجرى الدم في الشرايين وعادت الحمرة الخفيفة الى الوجنات الشاحبة. وعاد محمود الى الحياة ليقول ممازحا اصدقاءه الذين جاؤا من اقاصي الدنيا لزيارته يبدو انني فقدت الروح الرابعة، وبقيت لي ثلاثة.

عقد محمود قرانه على حياة، كان ذلك نوعاً من اختراع بداية جديدة قبل موعد فقدان الروح الخامسة، وفي كل مرة يحمل الى غرفة العمليات او بعد ان يخرج منها حيا كان شريط وقائع الموت غير العادي يمر في ذاكرته.

 كم كان يحب ماجد ابو شرار، يحب سلاسته وذكاءه وسمرة بشرته التي تمنح وسامته جاذبية مميزة، كان مدمنا لقاءه في الدور السادس في مبنى الاعلام الموحد او في الدور الرابع حيث بيت ماجد المجاور للمكتب، كان يقرأ عليه اشعاره قبل ان يدفع بها الى دار النشر، ويهمس له بأدق خصوصياته ، وفي تلك الغرفة الحميمة حيث يتجمع اصدقاء ماجد. كان محمود يستمتع بالنمائم اللطيفة والذكية، كان يقول: ساعة في غرفة ماجد تعرف ما يحدث في البيت الفلسطيني واهله.

استقرت صورة ماجد في ذاكرة محمود، مثل صورة راشد حسين وسامة وايجابية وخفة ظل وقدرة فائقة على الحوار الشيق وجدارة بالصداقة والسهر وتبادل الاسرار، كان وعي محمود ومعايشته للاحداث لا يستبعد غياب ماجد بفعل موت سائد في ذلك الوقت، الاغتيال او تمزق الجسد بفعل قذيفة.

  • مالذي يجعلك يا ماجد تحتفظ بمكتبك في الطابق السادس والقذائف تملأ الأجواء

  • يضحك ماجد، وله ضحكة مميزة، اذ يبدو كما لو أنه يطلق الضحكة من كتفيه، هنا اكثر امنا وامانا، ويضيف يا سيدي لو قتلت هنا فالموت في الطابق الاعلى افضل من الموت في الاقبية.

مات ماجد، ولكن على بعد الاف الاميال من بيروت التي مات فيها النجم الساطع غسان كنفاني، مات ماجد في غرفة لا تشبه تلك التي لم يمت فيها حيث تمر القذائف من وراء زجاج نافذتها المشرعة على الحرب، كانت طريقة موت ماجد مفزعة لقد تمزق جسده الجميل ، كان ذلك بفعل انفجار لغم زرع تحت سريره وقد تم ضبط ساعة التوقيت على انطفاء النور في الغرفة التي كان على بابها ايضا " Don’t Disturb  " .

صديقي , أخي ’ يا حبيبي الأخيرا

أما كان من حقِّنا أن نسيرا

على شارعٍ من تراب تَفَرَّعَ من موجةٍ مُتْعَبَهْ

وسافَرَ شرقاً إلى الهند

سافر غرباً إلى قُرْطُبَهْ؟

أما كان من حَقَّنا أن ننام ككُلِّ القِطَطْ

على ظلِّ حائطْ؟

أما كان من حَقِّنا أن نطيرا

ككُلِّ الطيور إلى تينةٍ مُتْرَبَهْ....؟

 

صديقي , أخي ’ يا حبيبي الأخيرا

أما كان من حَقِّنا أن نُغَنِّي

لِعَيْنَيْنِ بُنِّيَّتينِ تُقيمان ما بيننا والإله

معاهدةً للسلام؟

أما كان من حقِّنا أن نحبَّ, ونلعنها أورشليم

إذا ما ادعى الكذبَ فيها نبيُّ الظلام؟

فقد يكذب الأنبياءُ

وقد يصدق الشعراء كثيرا....

***

....وماذا بعد هذي الأرض , ماذا 

وزندُكَ شارعٌ’ وأنا رحيلُ

 

ثَقَبْتُ الأرضَ بحثاً عن سواها

فأسندني , لأسندها , الجليلُ

 

فضَاءُ ’ أنتَ صُرَّتُهُ ’ وحيداً

وحقلٌ , أنت طائرُهُ الجميلُ

 

ولو ’ لو أستطيع  حميتُ قلبي

من الآمال...لكني عليلُ

 

لنا جسدان من لُغَةٍ وخيلٍ

ولكن , ليس يحمينا صهِيلُ

 

وكان السجنُ في الدنيا مكاناً

فَحَرَّرنا , ليقُتلَنا , البديلُ

 

أَنا أرضُ الأغاني وهي ترمي

بِمَدحِكَ حنطةً ... وأنا القتيلُ

 

أنا أعلى من الشعراء شنقاً

وأدناهم إلى عشبٍ يميلُ

 

أُحبُّكَ ’ إذْ أُحبُّ طلاق روحي

من الألفاظ , والدنيا هديلُ

 

ولو ....لو أستطيع رفعتُ حيفا

كقنطرةٍ , لتبلغك الخليلُ

صباحُ الخير يا ماجدْ

صباح الخيرْ

قُمِ اقرأَ سُورَةَ العائدْ

وحُثَّ السَيْرْ

إلى بلدٍ فقدناهُ

بحادث سيرْ

 

صباحُ الورد يا ماجدْ

صباح الوردْ

قُمِ اقرأ سُورةَ العائدْ

وشُدَّ القَيْدْ

على بَلَدٍ حملناهُ

كوشم اليدْ

من بقي من اصدقاء الروح هو محمود وحده صاحب القلب المثقل بوجع فراق من يشيعهم واحدا وراء الآخر يتقبل العزاء فيهم، ثم يجلس وراء مكتبه المرتب في شقته الصغيرة بعاصمة الحرب كي يكتب مرثياتهم...

شريط الموت يمر في الذاكرة .. كان محمود قبل ان يقرر اجراء الجراحة ، أي وبالضبط قبل ان يقرر تفجير القنبلة او نزع  صاعقها وليكن ما يكون ، قد شهد موت عرفات الذي جاء بعد احتضار بطولي نادر  كان اثنان لا ثالث لهما من يعترف عرفات بكلمة عام وراء لقبيهما ... القائد العام ، والشاعر العام، والثانية صممت خصيصا لمحمود درويش، لم تمنح لاحد قبله ولن تمنح لأحد بعده، كانت الطريقة التي مات بها عرفات ذات خصائص ملحمية تشبه حياته.. قال لي.

غدا سأشارك في تأبين عرفات في يوم الاربعين، حتى الآن لم اكتب كلمتي، اعترف انني حاولت، كتبت كثيرا ومزقت.

كان يشعر بأزمة انتاج نص يليق بمكانة عرفات وحياته الملحمية وموته الاسطوري.

اعتذر عن لعبة النرد، واكتفينا بالحديث

ارتجل اذا قلت له.

لا احب الارتجال في مناسبات كبرى وجادة

اذا اكتب ما يخطر ببالك ولا تمزق هذه المرة

كنت متأكدا من أن الذي مزقه افضل بكثير من الكلمات البلاستيكية التي سيلقيها الساسة والقادة ووجوه القوم، كان يقارن ما يكتب بما انتجه نظرائه من المبدعين الكبار، كان يفكر في مرثية عرفات كما لو أنها الخلاصة التي لم تكتب في ملحمة " مديح الظل العالي" 

لم يكن وضعي الصحي يسمح بالمشاركة في حفل الأربعين، الا انني عرفت منه في الليلة التالية أنه كتب وقرأ، وان حديث الأربعين كان مرثية الشاعر العام، الواقف على خط الموت للقائد العام الذي أخذ صفته معه ومضى.