الأحد  22 كانون الأول 2024

محمود درويش في حكايات شخصية (الحلقة الأخيرة)

الحلقة الثانية عشر

2020-08-10 12:13:55 AM
محمود درويش في حكايات شخصية (الحلقة الأخيرة)
غلاف كتاب محمود درويش في حكايات شخصية

الحدث الثقافي

تقوم الحدث، بنشر كتاب محمود درويش في حكايات شخصية، للكاتب والقيادي في حركة فتح، نبيل عمرو، على 12 حلقة. 

صدر الكتاب عام 2014 في 145 صفحة من القطع المتوسط وأنتجته مؤسسة محمود درويش في رام الله، وقدمه الشاعر والكاتب الراحل خيري منصور.

ويسلط الكتاب الضوء على خصائص شخصية وسلوك الشاعر الكبير، وفهمه للحياة، والأشخاص وعلاقته بالمدن والشعراء وكبار الكتاب العالميين، مع فصل خاص يتحدث فيه محمود درويش عن حياته من الطفولة حتى ما قبل وفاته بأربع سنوات.

كما يعرض الكتاب مسحاً لعلاقة الشاعر الكبير بالسياسة والسياسيين وهواياته وعلاقته بالمرأة والمال، وشؤون الحياة العادية. 

 

عقد قران

 

سئل محمود ذات مرة ، ما هو السبب الأهم للطلاق؟

اجاب... الزواج.

كما يعرف اصدقاؤه، فقد تزوج مرتين ، وكما كتب استقالته من الموقع القيادي الرسمي قبل ان يتسلمه، فقد كان ومنذ اليوم الاول للزواج يفتش عن ذريعة للطلاق، كان تفسيره لكرهه الزواج، بسيطا ونمطيا، ولا ينطوي عن فلسفة استثنائية، هو ذات التفسير الذي يقدمه الذين يتزوجون ثم يطلقون ، الحرية، عدم تحمل مسؤولية العناية بالاسرة والاطفال، اريد التحليق في فضاء الحياة الرحب بلا قيود، ثم من يطيق العيش مع امرأة تحت سقف واحد، ويؤدي الحب وطقوسه كاجراء وظيفي؟ إلا انه كان يحب المرأة ، شريطة ان لا تكون قدراً دائما في حياته، ومحمود درويش ، لا يقبل شريكة في الحياة تعترض حتى ادق تفاصيل خصوصيته المقدسة، ثم من هي تلك المخلوقة النادرة ، التي تستطيع التآلف مع طقوس حياته، فلم يكن متسامحا تجاه من يعترض هذه الطقوس الخاصة، او يقتحمهما ولو بالصدفة، فكيف له ان يقبل شريكة ليس لها من وظيفة غير قتل الحب، واعتراض الخصوصية.

وما ينطبق على المرأة في تفكيره وسلوكه، ينطبق في جوانب منه على الاطفال، كانت له نظرية خاصة في حب الاطفال او النفور منهم، كان يقول: الطفل هو المسؤول الاول عن حبي او نفوري، فاذا كان خفيف الظل ظاهر الذكاء ، فهذا ما يشدني اليه ، وهذا امر مختلف عن ان الطفل يجب ان يحب كيفما كان كواجب عائلي او اخلاقي، كان ينفر من تباهي الاسر باطفالها وادعاءاتهم النبوغ المبكر او المتفرد، ذلك ان انحياز الاهل لطفلهم والالحاح في فرض رؤيتهم له كنابغة او متميز يشبه قصيدة ساذجة في الفخر لا يحب سماعها، كان يقول دعونا نتعرف على المواهب دون توجيه، ان الذين يفعلون ذلك وهم يتلون وقائع عبقرية طفلهم كمن يتلو عليّ مقرراً في مادة مملة ، ومطلوب مني ان ابدي ابتهاجا بما اسمع وانا في غاية الضجر.

الرجل الذي يكره الزواج لأنه السبب الوحيد للطلاق كان يحب الاعراس، شريطة ان لا يكون هو العريس، وكان يبتهج بزواج سبقه قصة حب لصديق، الا ان له تحذيراً دائماً ، لقد تسرعت يا صديقي في اطفاء النار اللذيذة.

الحادية عشرة صباح يوم صيفي في مدينة رام الله، وفي مكتبه قليل الاثاث بفيلا السكاكيني ، والذي لا تتجاوز مساحته العشرين مترا مربعا، الا انه كان مناسبا تماما لمزاجه، ويدير منه عملية انتاج مجلة الكرمل، وهذا اليوم بالذات سيدير منه بعد قليل عملية عقد قران.

- مسافة الطريق واكون بين يديك، هذا ما قلته لمحمود عبر الهاتف، بعد ان دعاني للحضور فورا، اذ تنتظرني مفاجأة.

قدرت ان احد الاصدقاء المشتركين قد وصل الى مكتبه، بحيث لا تكتمل النميمة الا بوجودي، وصلت الى الفيلا الانيقة المغمورة بظلال الشجر ورائحة الثقافة والشعر والفن، تسلقت السلم الصعب المفضي الى غرفته ، فاذا بي افاجأ بمشهد لا يمكن تخيله مع محمود درويش، رأيت شيخا بكامل هندامه الازهري ، العمامة الناصعة البياض التي ينبثق منها ما فاض عن القماش الابيض من الطربوش الاحمر ، وجبة سوداء من قماش لامع يبدو انه من الجوخ الموشى بخيوط الحرير، والى جواره فتاة اجنبية شقراء صغيرة وجميلة ، ترتدي قميصا وبنطلون جينز، والى جوار الشيخ والفتاة التي عرفت بعد دقائق من وصولي انها المانية ابا عن جد، كان حسن خضر، ساعد محمود درويش الايمن في انتاج الكرمل، وصديقه الشخصي.. تساءلت للوهلة الاولى ما هذه الخلطة العجيبة ، صافحت الجالسين مبتدأً بالشيخ، وانحنيت وانا اصافح الفتاة الالمانية ، مظهرا ان ابن الفلاحين الفلسطينين يفهم في اصول الاتيكيت. وبصورة عابرة صافحت حسن، وانتهت وصلة المصافحة بالضغط على يد محمود درويش، كما لو ان ضغطة اليد تُغني عن السؤال الصريح ... ما هذا؟

لمح محمود حيرتي ومفاجئتي، وسارع الى القول انا وانت شهود عقد قران حسن خضر على الانسة الجميلة " نينا".

سألت: لماذا اخترتموني لهذا الشرف الانيق.

التفت محمود نحو الشيخ الذي صار واضحا لي بعد الانتباه الى الدفتر الكبير الذي كان مستلقيا على ركبتيه بانه مأذون شرعي.

سيدنا الشيخ هو الذي اقترحك، فهو من بلدك " دورا" .

اتم الشيخ الاجراءات المتبعة لعقد قران شرعي مكتمل المواصفات والشروط، كان محمود الذي يكره الزواج الى حد عشق الطلاق في اليوم التالي، سعيدا بهذا الحفل الصغير الذي اداره في مكتبه ، سألته اراك فرحا لدخول حسن....

قال : اكره الزواج لنفسي، الا ان الامر هنا مختلف تماما، فانا مجرد شاهد، ثم لا يخلو الامر من تعاطف مع حسن الذي تبيّن لي انه في غالية السعادة لما اقترف من عمل.

بادر حسن مكملا الحكاية ... وارجو ان يكون محمود سعيدا حين نستقبل مولودنا الاول فقد قررنا ان نفعلها.

شربنا القهوة الحلوة ، وقرأنا على حسن سطورا من وصايا المتزوجين، والمفاجأة ان زواج حسن، الذي يعيش الآن بين برلين ورام الله، ظل صامدا، وان حبه ظل مستمراً، ولا يستطيع التفكير في الأشياء الأهم في حياته دون أن يضع ابنته في المقدمة.






 

الفيلا ثم الضريح

صديقي محمد الحوارني، الشاب الوسيم الذي ضل طريقه حين ابتعد عن الثقافة والفن، واختار السياسة، كان وما يزال من عشاق محمود درويش، يحبه شكلا وموضوعا، ويرى فيه ايقونة فلسطينية قلّما يجود الزمان بمثلها، زيتونة خالدة تضرب جذورها في عمق الارض، وتمتد اغصانها لتظلل العالم العربي كله.

محمد الحوراني، كان يعرف بعلاقتي الحميمة والدائمة مع محمود، لهذا اختارني للبوح باقتراح ذي مغزى، اذ قال لي:

  • افكر في تأسيس مشروع يخص محمود درويش، ينطوي على حب ووفاء واريدك ان تتعاون معي في انجازه.

ولأن بيني وبين الحوراني عشرات المشاريع الحالمة، التي نتلذذ بنقاشها دون ان ندقق في امكانية تحقيقها، فقد نهض في داخلي فضول معرفة ما الذي يدور في رأس صديقي.

  • مثلا...

  • نبني فيلا جميلة لمحمود، على رابية عالية من روابي الوطن، نأتي بحجارتها من القدس ، وورود حديقتها من تلك الورود التي تنبت في الوطن، ونزرع فيها العنب الخليلي والزيتون النابلسي .

واطنب في عرض مشروعه كما لو انه يبني بيت احلام في خياله

  • وكيف نوفر الارض والمال؟

  • هذه هي الابسط في المشروع كله، فالارض نحصل عليها بالمجان او حتى نشتريها، اما باقي التكاليف فيتولى الفقراء من عشاق محمود توفيرها.

  • فكرة جميلة ولكن ، لا تبح بها لاحد، قبل ان نحصل على موافقة محمود عليها، فشاعرنا مصاب بعزة نفس حادة، فان وافق نشرع على الفور في الترتيبات.

 كنا متأكدين من ان باستطاعتنا انجاز المشروع خلال سنة ، اذ لا يليق بفلسطين ان تكون ايقونتها الاغلى والاعز تعيش في شقة مستأجرة.

في واحدة من جلسات النرد.. وبعد تفكير طويل في الطريقة التي اعرض بها الفكرة عليه.. قلت:

  • هنالك فكرة نموذجية .. نادرة وذات دلالات راقية، اود ان اعرضها عليك .. وقبل ذلك احب ان تعرف بانني متحمس لهذه الفكرة ومقتنع بها.

امسك عن اللعب وقال..

  • تفضل..

  • التقى بي عدد من عشاقك -ولم اقل واحدا فقط-. واقترحوا ان يبنوا لك بيتا على اعلى رابية في فلسطين وان يسموه دار الثقافة وان يزرعوا في فنائه كل الازهار التي تنبت في تربة الوطن وكل الاشجار المثمرة ، وشرطهم ان يتكفل محبوك وخصوصا من غير الاثرياء، بتغطية تكاليف البناء، واضفت من عندي ، انها فكرة جميلة ان يكرم المبدع في حياته ليسعد بمكانته في قلوب الناس العاديين.

فاجأني محمود بترحيبه بالفكرة، واستغلالا للموقف طلبت منه تحديد موعد للقاء اصحابها الذين هم شخص واحد هو محمد الحوراني.

حين تحدثنا تفصيلا في المشروع، توصلنا الى خلاصة مشجعة أي ان بوسعنا انجاز الامر كله في اقل من سنة ، فمن يتأخر عن تقديم اسهام في امر كهذا.


 

الضريح

بعد عودة محمود سليماً معافى، سوف نقوم بجولة على الاماكن الجميلة في رام الله، ليختار المكان الذي سوف نبني بيته عليه..

الا ان محمود مات.. وعاد الى بعض الوطن، ملفوفا بالعلم.. دفن في تراب رابية من روابي رام الله، وبنى الفلسطينيون له ضريحا احتضنته حديقة جميلة ومهيبة، اسموها " البروة" ... القرية التي ولد فيها محمود وابادها الاسرائيليون، الاقدار لم تسمح بعودة محمود اليها.. الا ان الفلسطينيين اعادوها اليه.

 

وثيقة الاستقلال

طلبت القيادة الفلسطينية من محمود درويش، ان يضع الصيغة النهائية لاعلان الاستقلال.

وفي الوقت ذاته، طُلب مني ان اكتب نص خطاب الرئيس ياسر عرفات الذي سيلقيه في المجلس الوطني الدورة 19 في نوفمبر 1988 في الجزائر.

اجتمعت بمحمود درويش، وناقشنا مضمون الخطابين، كان الاسهل هو ما كلفت بكتابته، أي الخطاب السياسي، الا اننني كنت شديد الحذر واما اكتب... فقد تصورت ان العالم كله يراقب الكلمات والمضامين، ذلك ان الخطاب كان منتظرا من جميع دوائر صنع القرار في العالم، فهو ما سيحدد وبالضبط الموقف الفلسطيني من عملية السلام التي كانت قيد الاعداد.

الا ان الاشد صعوبة ، هو اعلان الاستقلال، الذي اسند الى محمود درويش، حيث حتمية المزج بين المحتوى الثقافي والسياسي بلغة راقية يفهمها العالم ويعجب بها.

كان محمود يعتبر اعلان الاستقلال اكثر من نص يجسد حق شعب في تقرير مصيره، وهو الشعب الوحيد على وجه الكوكب لا يتمتع بهذا الحق، انه اضافة الى ذلك بمثابة شهادة جدارة بهذا الحق، كان محمود يدرك بوعي ان كبار ادباء العالم سيقرأونه ويقوّمونه من حيث اللغة والافكار والمضمامين ، وكذلك سوف يُقرأ في جميع اجهزة مخابرات الكون، للوقوف على حقيقة كيف يفكر الفلسطينيون، وماذا سيفعلون بهذا الذي يسعون اليه أي الاستقلال، ثم هل يسعون للحصول على دولة كي يقفوا على ارضها وينطلقوا منها لتصفية حسابات شديدة القسوة مع من تحملوا مسؤولية معاناتهم القاسية والطويلة ، ام انهم سينطلقون منها الى عهد جديد فيه من التسامح والسمو وتوجيه الطاقات لبناء حياة جديدة.

كان محمود يدرك ان من سيصفقون للنص الذي سيكتبه من الفلسطينيين ليسوا هم من سيختبر الجدارة بل الكون كله.

لهذا حرصت واتنا اكتب هذه المخطوطة ان يكون مسك الختاك هو نص اعلان الاستقلال الذي صاغه محمود درويش ودخل الفلسطينيون به مرحلة جديدة من مراحل كفاحهم يوم الخامس عشر من نوفمبر العام 1988.


 

نص إعلان الاستقلال

بسم الله الرحمن الرحيم

 على أرض الرسالات السماوية إلى البشر، على أرض فلسطين ولد الشعب العربي الفلسطيني، نما وتطور، وأبدع وجوده الإنساني والوطني عبر علاقة عضوية، التي لا انفصام فيها ولا انقطاع بين الشعب والأرض والتاريخ.

بالثبات الملحمي في المكان والزمان، صاغ شعب فلسطين هويته الوطنية، وارتقى بصموده في الدفاع عنها إلى مستوى المعجزة؛ فعلى الرغم مما أثاره سحر هذه الأرض القديمة وموقعها الحيوي على حدود التشابك بين القوى والحضارات، من مطامح ومطامع وغزوات كانت تؤدي إلى حرمان شعبها من إمكانية تحقيق استقلاله السياسي، إلا أن ديمومة التصاق الشعب بالأرض هي التي منحت الأرض هويتها، ونفخت في الشعب روح الوطن، مطعماً بسلالات الحضارة، وتعدد الثقافات، مستلهماً نصوص تراثه الروحي والزمني، واصل الشعب العربي الفلسطيني عبر التاريخ تطوير ذاته في التوحد الكلي بين الأرض والإنسان، وعلى خطى الأنبياء المتواصلة على هذه الأرض المباركة، أَعْلَى على كل مئذنة صلاة الحمد للخالق، ودق مع جرس كل كنيسة ومعبد ترنيمة الرحمة والسلام.

ومن جيل إلى جيل، لم يتوقف الشعب العربي الفلسطيني عن الدفاع الباسل عن وطنه، ولقد كانت ثورات شعبنا المتلاحقة تجسيداً بطولياً لإرادة الاستقلال الوطني.

ففي الوقت الذي كان فيه العالم المعاصر يصوغ نظام قيمة الجديدة، كانت موازين القوى المحلية والعالمية تستثني المصير الفلسطيني من المصير العام، فاتضح مرة أخرى أن العدل وحده لا يسير عجلات التاريخ.

وهكذا انفتح الجرح الفلسطيني الكبير على مفارقة جارحة، فالشعب الذي حرم من الاستقلال وتعرض وطنه لاحتلال من نوع جديد، قد تعرض لمحاولة تعميم الأكذوبة القائلة "إن فلسطين هي أرض بلا شعب" وعلى الرغم من هذا التزييف التاريخي؛ فإن المجتمع الدولي في المادة 22 من ميثاق عصبة الأمم لعام 1919، وفي معاهدة لوزان لعام 1923 قد اعترف بأن الشعب العربي الفلسطيني -شأنه شأن الشعوب العربية الأخرى، التي انسلخت عن الدولة العثمانية- هو شعب حر مستقل.

ومع الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب العربي الفلسطيني بتشريده وبحرمانه من حق تقرير المصير، أثر قرار الجمعية العامة رقم 181 عام 1947م، الذي قسم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، فإن هذا القرار ما زال يوفر شروطاً للشرعية الدولية تضمن حق الشعب العربي الفلسطيني في السيادة والاستقلال الوطني.

إن احتلال القوات الإسرائيلية الأرض الفلسطينية، وأجزاء من الأرض العربية، واقتلاع غالبية الفلسطينيين وتشريدهم عن ديارهم، بقوة الإرهاب المنظم، وإخضاع الباقين منهم للاحتلال والاضطهاد ولعمليات تدمير معالم حياتهم الوطنية، هو انتهاك صارخ لمبادئ الشرعية ولميثاق الأمم المتحدة ولقراراتها التي تعترف بحقوق الشعب العربي الفلسطيني الوطنية، بما فيها حق العودة، وحق تقرير المصير والاستقلال والسيادة على أرض وطنه.

وفي قلب الوطن وعلى سياجه، في المنافي القريبة والبعيدة، لم يفقد الشعب العربي الفلسطيني إيمانه الراسخ بحقه في العودة، ولا إيمانه الصلب بحقه في الاستقلال. ولم يتمكن الاحتلال والمجازر والتشريد

 من طرد الفلسطيني من وعيه ومن ذاته؛ فلقد واصل نضاله الملحمي، وتابع بلورة شخصيته الوطنية من خلال التراكم النضالي المتنامي، وصاغت الإرادة الوطنية إطارها السياسي، منظمة التحرير الفلسطينية، ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، باعتراف المجتمع الدولي، متمثلاً بهيئة الأمم المتحدة ومؤسساتها والمنظمات الإقليمية والدولية الأخرى. وعلى قاعدة الإيمان بالحقوق الثابتة، وعلى قاعدة الإجماع القومي العربي، وعلى قاعدة الشرعية الدولية، قادت منظمة التحرير الفلسطينية معارك شعبها العظيم، المنصهر في وحدته الوطنية المثلى، وصموده الأسطوري أمام المجازر والحصار في الوطن وخارج الوطن.

 وتجلت ملحمة المقاومة الفلسطينية في الوعي العربي وفي الوعي العالمي، بصفتها واحدة من أبرز حركات التحرر الوطني في هذا العصر.

 إن الانتفاضة الشعبية الكبرى، المتصاعدة في الأرض المحتلة مع الصمود الأسطوري في المخيمات داخل وخارج الوطن، قد رفع الإدراك الإنساني بالحقيقة الفلسطينية وبالحقوق الوطنية الفلسطينية إلى مستوى أعلى من الاستيعاب والنضج، وأَسدلت ستار الختام على مرحلة كاملة من التزييف ومن خمول الضمير، وحاصرت العقلية الإسرائيلية الرسمية التي أدمنت الاحتكام إلى الخرافة والإرهاب في نفيها الوجود الفلسطيني.

 مع الانتفاضة، وبالتراكم الثوري النضالي لكل مواقع الثورة يبلغ الزمن الفلسطيني إحدى لحظات الانعطاف التاريخي الحادة وليؤكد الشعب العربي الفلسطيني مرة أخرى حقوقه الثابتة وممارستها فوق أرضه الفلسطينية.

واستناداً إلى الحق الطبيعي والتاريخي والقانوني للشعب العربي الفلسطيني في وطنه فلسطين، وتضحيات أجياله المتعاقبة دفاعاً عن حرية وطنهم واستقلاله، وانطلاقاً من قرارات القمم العربية، ومن قوة الشرعية الدولية التي تجسدها قرارات الأمم المتحدة منذ عام 1947، وممارسة من الشعب العربي الفلسطيني لحقه في تقرير المصير والاستقلال السياسي والسيادة فوق أرضه؛

فإن المجلس الوطني يعلن، باسم الله، وباسم الشعب العربي الفلسطيني، قيام دولة فلسطين فوق أرضنا الفلسطينية، وعاصمتها القدس الشريف.

إن دولة فلسطين هي للفلسطينيين أينما كانوا؛ فيها يطورون هويتهم الوطنية والثقافية، ويتمتعون بالمساواة الكاملة في الحقوق، وتصان فيها معتقداتهم الدينية والسياسية وكرامتهم الإنسانية، في ظل نظام ديمقراطي برلماني، يقوم على أساس حرية الرأي وحرية تكوين الأحزاب ورعاية الأغلبية حقوق الأقلية واحترام الأقلية قرارات الأغلبية، وعلى العدل الاجتماعي والمساواة وعدم التمييز في الحقوق العامة على أساس العرق أو الدين أو اللون أو بين المرأة والرجل، في ظل دستور يؤمن سيادة القانون والقضاء المستقل وعلى أساس الوفاء الكامل لتراث فلسطين الروحي والحضاري في التسامح والتعايش السمح بين الأديان عبر القرون.

إن دولة فلسطين دولة عربية، هي جزء لا يتجزأ من الأمة العربية؛ من تراثها وحضارتها، ومن طموحها الحاضر إلى تحقيق أهدافها في التحرر والتطور والديمقراطية والوحدة. وهي إذ تؤكد التزامها بميثاق جامعة الدول العربية، وإصرارها على تعزيز العمل العربي المشترك؛ تناشد أبناء أمتها مساعدتها على اكتمال ولادتها العملية، بحشد الطاقات وتكثيف الجهود لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي.

 وتعلن دولة فلسطين التزامها بمبادئ الأمم المتحدة وأهدافها، وبالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتزامها كذلك بمبادئ عدم الانحياز وسياسته.

 وإذ تعلن دولة فلسطين أنها دولة محبة للسلام؛ ملتزمة بمبادئ التعايش السلمي؛ فإنها ستعمل مع جميع الدول والشعوب من أجل تحقيق سلام دائم قائم على العدل واحترام الحقوق، تتفتح في ظله طاقات البشر على البناء، ويجري فيه التنافس على إبداع الحياة وعدم الخوف من الغد، فالغد لا يحمل غير الأمان لمن عدلوا أو ثابوا إلى العدل.

 وفي سياق نضالها من أجل إحلال السلام على أرض المحبة والسلام، تهيب دولة فلسطين بالأمم المتحدة التي تتحمل مسؤولية خاصة تجاه الشعب العربي الفلسطيني ووطنه، وتهيب بشعوب العالم ودوله المحبة للسلام والحرية أن تعينها على تحقيق أهدافها، ووضع حد لمأساة شعبها، بتوفير الأمن له، وبالعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.

 كما تعلم في هذا المجال، أنها تؤمن بتسوية المشاكل الدولية والإقليمية بالطرق السلمية؛ وفقاً لميثاق الأمم المتحدة وقراراتها، وأنها ترفض التهديد بالقوة أو العنف أو الإرهاب، أو باستعمالها ضد سلامة أراضيها واستقلالها السياسي، أو سلامة أراضي أي دولة أخرى، وذلك دون المساس بحقها الطبيعي في الدفاع عن أراضيها واستقلالها.

 وفي هذا اليوم الخالد، في الخامس عشر من نوفمبر 1988، ونحن نقف على عتبة عهد جديد؛ ننحني إجلالاً وخشوعاً أمام أرواح شهدائنا وشهداء الأمة العربية الذين أضاءوا بدمائهم الطاهرة شعلة هذا الفجر العنيد، واستشهدوا من أجل أن يحيا الوطن، ونرفع قلوبنا على أيدينا لنملأها بالنور القادم من وهج الانتفاضة المباركة، ومن ملحمة الصامدين في المخيمات وفي الشتات وفي المهاجر، ومن حملة لواء الحرية: أطفالنا وشيوخنا وشبابنا، أسرانا ومعتقلينا وجرحانا المرابطين على التراب المقدس، وفي كل مخيم وفي كل قرية وفي كل مدينة. والمرأة الفلسطينية الشجاعة حارسة بقائنا وحياتنا، وحارسة نارنا الدائمة، ونعاهد أرواح شهدائنا الأبرار، وجماهير شعبنا العربي الفلسطيني، وأمتنا العربية، وكل الأحرار والشرفاء في العالم، على مواصلة النضال من أجل جلاء الاحتلال، وترسيخ السيادة والاستقلال. إننا ندعو شعبنا العظيم إلى الالتفاف حول علمه الفلسطيني والاعتزاز به والدفاع عنه؛ ليظل أبداً رمزاً لحريتنا وكرامتنا في وطن سيبقي دائماً وطنناً حراً لشعب من الأحرار.