الأحد  22 كانون الأول 2024

التّخييل الذّاتيّ وراوية "من يتذكّر تاي"/ فراس حج محمد

2020-10-28 04:35:03 PM
التّخييل الذّاتيّ وراوية
ياسين رفاعية

الحدث الثقافي

"من يتذكّر تاي" رواية للكاتب السّوريّ ياسين رفاعيّة، صدرت عام 2011 عن دار الخيال في بيروت، وتتألّف من (22) فصلا في (220) صفحة من القطع المتوسّط. يعالج فيها الكاتب سرديّا تداعيات النّكسة والهزيمة العربيّة المدوّية عام 1967، وما أحدثته من أثر نفسيّ مقيت في الشّعوب العربيّة، والمثقّفين والكتّاب على وجه الخصوص، فأنْ تهزم مرّتين كأمّة من عدوٍّ فتيٍّ غريب عن المنطقة ودخيل عليها، يترك آلاف علامات الاستفهام، فهل كانت الدّول العربيّة الّتي اشتركت في تلك اللّعبة ضعيفة إلى هذا الحدّ، بحيث تهزم مرّتين في غضون تسعة عشر عاما؟ ولماذا بقيت تلك الأنظمة نائمة كلّ هذه المدّة؟ وأين تلك الخطابات والجعجعات الإعلاميّة الّتي كانت تصدح بأجراس العودة، وأنّ فلسطين عربيّة من البحر إلى النّهر، وإذا كلّها من البحر إلى النّهر يستولي عليها الغول الصّهيونيّ الّذي لم يكن ليتغوّل لولا التّواطؤ الّذي انكشف مع الأيّام انكشاف عوراتٍ وسوءات مقزّزة ومقرفة. عورات أضاعت فلسطين وأجزاء من الأردنّ ولبنان ومصر وسوريا، ولم ينفع الأمّة؛ لا المدّ القوميّ، ولا الرّؤى الإسلاميّة، ولا النّظريّات الشّيوعيّة الماركسيّة، كلّها صارت صِفرا أمام هذا السّقوط الصّارخ الّذي شبعت فيه الأمّة لطما وتأنيبَ ضميرٍ وشتائمَ وسبّاً، ولكنْ، "أشبعتهم سبّا وأودوا بالأبل"، وبأرض الإبل، وبتاريخ عربيّ يتهاوي إلى قعر الجحيم.

هذه هي الأجواء الّتي تضع الرّواية قارئها فيها، ولذلك فهي مرهقة موجعة جارحة، في كل فصل من فصولها تغرس في الأعصاب مسلّات نار حامية، لا تستطيع قراءتها دون أن تبكي أو تثور وتصيح: لماذا حدث كل ذلك؟ لماذا؟

يُثْبت الكاتب في نهاية الرّواية هذه الملاحظة: "جرت أحداث هذه الرّواية الواقعيّة بين عامي 1967 و1973، الأسماء والأمكنة كلّها حقيقيّة"، إذن نحن أمام رواية واقعيّة الأحداث، ومصائر الشّخصيّات كانت واقعيّة، تحيل إلى الواقع، فهل كانت الرّواية رواية سيرة، ذاتية، أو غيريّة؟ وهل كانت رواية تسجيليّة؟ إنّها كلّ ذلك وأكثر، إنّها شكل من أشكال كتابة الذّات وعنها ولها، رواية تنتمي فنّيّا إلى ذلك النّوع من الرّوايات المعروفة ضمن فنّ "التّخييل الذّاتيّ"؛ فكلّ ما فيها ذو مرجعيّات واقعيّة حقيقيّة، والسّارد فيها كان ساردا مشاركا في الأحداث، وغلب على فصولها السّرد بضمير أنا، مع ملاحظة أنّ السّارد/ الرّوائيّ تجنّب أنْ يذكر اسمه صراحة في الرّواية، يصف نفسه في مواضع متعدّدة من الرّواية بـ "أستاذ"، وكان يترك علامة الحذف (...) وراء الوصف أحيانا، متجنّبا عن عمد ذكر اسمه، مع أنّ السّياق يستدعيه، استدعاء منطقيّا دون إقحام أو تبجّح أو شعور بالنّرجسيّة، ويبيّن المتن كذلك مهنة السّارد، فهو روائيّ وقاصّ وصحافيّ، ويفصح عن بلده أنّه من دمشق، يقول: "ثمّ قدّمتني له: الأستاذ روائيّ وصحافيّ دون أن تلفظ اسمي". (ص34).

أشرت آنفا إلى ما تدور حوله الرّواية من فكرة مؤلمة، تمحورت حولها الأحداث، وتحرُّك الشّخوص في فضائها ضمن هذا السّياق في الأعمّ الأغلب، مع أنّها لم تسلم من الحكايات الشّخصيّة المؤلمة، فحكاية تاي (عائشة الإسكندراني) بنت الباشا كانت حكاية ألم وصراع مرير منذ أن اغتصبها أحد أفراد المافيا الإيطاليّة أمام أعين والديها، ثمّ مقتل والدها في إيطاليا عندما ذهب ليقتصّ لابنته، وضياع ثروتهم إذ كانت أغلب العقارات مرهونة للبنوك، ذهب ذلك المجد الفاره، وتبدّل الحال، وظلّت المافيا تلاحقها، لتضطر للهجرة إلى لبنان وتغيّر اسمها إلى "تاي" وتشتغل في بار، ساقية، وصولا إلى إصابتها بمرض السّرطان ومن ثَمّ موتها، وكانت فقدت أملها في الإنجاب قبل ذلك.

حكاية تاي هذه هي عصب الرّواية، هل كانت تاي رمزا تمثّل فلسطين؟ وهل تدخّل الرّوائيّ ليمنح هذه الشّخصيّة بعدا رمزيّا؟ إنّ المتأمّل في الأحداث وسيرها يستطيع بجرأة وقوّة أن يمنح تاي بعدا رمزيّا، فكلّ مرحلة من مراحل حياة تاي يمكن أن يمثّل مرحلة من فلسطين وتاريخها، فهل التقت المحنة الشّخصيّة مع المحنة القوميّة لتشكّل هذا البعد الرّمزيّ؟ فرحلة تاي من مصر إلى لبنان، وصداقتها للفلسطينيّين كتّابا وشعراء، وزواجها من رجل سعوديّ، وقبل ذلك اغتصابها من عصابات المافيا، ومحاولتها الارتباط بشاب مغربيّ، كلّ ذلك يمنح هذه الشّخصيّة بعدا قوميّا ذا دلالة على قضيّة العرب الّتي تشعرهم بانهيار صروح المجد والكرامة، قضيّة فلسطين.

لم تكن حكاية تاي هي الحكاية الوحيدة البارزة في الرّواية، فثمّة حكاية متوازية معها، وتسيران جنبا إلى جنب، حكاية السّارد/ الكاتب وحبّه لشيرين، تلك الفتاة الدّرزيّة فائقة الجمال الّتي وقعت تحت ضغط الطّائفيّة، هذا المرض الّذي دمّر الحبّ أو كاد. وعلى الرّغم من أنّ الحكاية شخصيّة، وقد تكون حقيقيّة لحبّ حقيقيّ وقع فيه الكاتب مع هذه الفتاة، نظرا للملاحظة الّتي أشرت إليها أعلاه، ونظرا لما جاء في صفحة الإهداء كما سأبيّن لاحقا، غير أنّ في هذه الحكاية بعدا رمزيّا كذلك، فإذا وجدنا الفشل القوميّ في حكاية تاي، فإنّ القارئ سيجد الفشل الوطنيّ المصاب بداء الطائفيّة في حكاية شيرين، ولكن، هل انتصرت الحكاية على الطّائفيّة عندما عادت شيرين إلى الأستاذ؟ إنّها عودة ذات دلالة مهمّة، ولا بدّ من الوقوف حيالها، ولا يصحّ أن يتجاوزها القارئ دون تأمّل، حتّى وإن كبَّلَنا الكاتب بملاحظته السّابقة، لكنّه أعطانا الحقّ في التّفسير والتّأويل عندما تعاقد معنا على أنّ هذا العمل هو "رواية"، وكأنّه يطلب من القارئ أن يأخذ أجزاء من هذا المتن إلى أبعاد من التّفسير والتّأويل بناء على قاعدة التّخييل الرّوائيّ وشروطه غير المغلقة على الحكاية الواقعيّة.

مع تينك الحكايتين، حكايات مفتّتة لحبّ ضائع كذلك، حبّ غسّان كنفاني للكاتبة الكبيرة الّتي لم تسمِّها الرّواية، حكاية غسّان وغادة السّمان الّتي منيت بالهزيمة أيضا، فهذه العلاقة كما يقول غسّان كنفاني في الرّواية: "كلّكم تعرفون قصّتي مع الكاتبة الّتي دمّرتني". (ص141)، وكذلك حكاية كمال ناصر وحبّه لابنة خاله ريما ناصر الّتي تزوّجت من غيره، وحكاية الشّاعر أمين نخلة وحبّه لتلك الفتاة المذكورة في الرّواية "فريال"، وحبّ معين بسيسو للفتاة ريتا المغدورة بسيف التّسلُّط الأمنيّ، ليتمّ القضاء عليها وانتحارها وحكاية عصام محفوظ الّذي وصف في الرّواية بـ "المخدوع". حكايات حبّ كلّها حكايات هزيمة، فهل كانت تلك الحكايات معادلا موضوعيّا لحالة الهزيمة العربيّة الشّاملة؟ يغلب على ظنّي أنّها كذلك فعلا، وإن كانت حكايات عاديّة لأشخاص حقيقيّين، ويمكن أن تتكرّر في حياة أيّ عربيّ وغير عربيّ، في أيّ مكان وزمان، غير متخلّصة من بعدها الرّمزيّ كذلك.

لقد وظّف الكاتب في متنه الرّوائيّ الواقعيّ الرّسالة، فثمّة رسائل متبادلة بين الشّخصيّات، وخاصّة في موضوع الحبّ، كتلك الرّسائل بين السّارد/ الكاتب وحبيبته شيرين، ورسالة أمين نخلة لمحبوبته فريال، كذلك وظفت الرّواية حيلا فنّيّة أخرى، فيخبر عن مأساة تاي وهو يقرأ قصّة حياتها في دفتر خاصّ "دفتر تاي السّرّيّ"، كانت ترفض إطلاعه عليه، وعندما جاءت اللّحظة المناسبة من وجهة نظرها دفعت بالدّفتر للسّارد، ليقرأه ويخبرنا عن تفاصيلها تلك الّتي كانت غائبة عن القارئ. بالإضافة إلى قراءته لما كانت تكتبه في دفتر آخر، وتبيّن فيه وجهة نظرها في الحياة والموت والحبّ، وقد كان هذا الدّفتر متاحا له ولغيره ليقرأ فيه، وما كتب فيه لا يخرج عمّا كانت تشارك به أصدقاءها من المثقّفين عندما يلتقون في البار، ولعلّ في هذا دلالة أيضا على وجود حكايتين لتاي، أحدهما واضحة معلنة، والأخرى مخفيّة، الأولى تتّشح بالفلسفة والتّصالح مع الحياة، والأخرى توثّق لهذه الحياة بكلّ ما فيها من ألم، الأولى قصيرة مكثّفة، والأخرى جامعة ومفسّرة وتعتني بالتّفاصيل، كأنّ أحدهما العتبات وخلاصة الأفكار والتّجربة، والثّانية هي المتن الموضِّح، ومع ذلك لا حكاية تفضُل الأخرى، بل هما على أهمّيّة واحدة.

وحضر الشّعر في الرّواية أيضا عن طريق الشّخصيّات الرّوائيّة المشاركة في الأحداث، فكان معين بسيسو وأمين نخلة وكمال ناصر وكمال طعمة وحسين حيدر، ومقطوعة نثريّة ذات لغة شعريّة لشيرين، ولعلّها هي نفسها شيرين محمود الّتي ذكرها الكاتب في الإهداء، ولا ننسى أيضا الكاتب نفسه، فهو شاعر أيضا، وغير ذلك، فقد ورد ذكر الشّعراء طلال حيدر وعصام عبد الله وعمر أبو ريشة ونزار قبّاني وخليل الخوري ومحمد الفيتوري، ومن الشّعراء القدماء ذكر الشّاعر الجاهلي عنترة ومقطوعتين من أشعاره في الغزل وبعض أشعار الشّعراء العذريّين، فاشتمل المتن الرّوائيّ على (16) مقطوعة شعريّة لشعراء يذكرهم أحيانا السّارد، وأحيانا يسكت عن أسمائهم، وكانت أغلب تلك المقطوعات غزليّة عدا مقطوعتين وطنيّتين لمعين بسيسو.

هذا الحضور الشّعريّ في سياق رواية عن البؤس العربيّ والهزيمة العربيّة، ربّما يغري المرء بالاحتفال بهذا الحضور، وكأنّ تلك المقطوعات هي الّتي كسرت حدّة الرّتابة وعنف الهزيمة، فثمّة ما يبهج الرّوح أيضا في هذا السّياق المؤلم، فتعاضد الشّعر والحبّ كردّ فعل مقاومة شخصيّة ذاتيّة تعالج بؤس الواقع وتحاول الانتصار عليه، يقول الكاتب عن معين بسيسو: "كنت أظنّ دائما أنّه لولا الشّعر لانتحر من زمان، فقد كانت فكرة الانتحار تراوده، ولكنّ كتابة قصيدة كانت كافية له للابتعاد عن هذه الفكرة فيشتعل الأمل من جديد". (ص64)

كأن الرواية في تمجيدها للشعر وتأكيد دوره في الحياة تعيد قول أندريه بروتون: "فليس من فائدة للشّعر إذا لم أتوقّع اقتراحه لبعض أصدقائي ولي حلّا خاصّا لمشكلة حياتنا". عدا أنّ في هذا الأمر من إدخال الشّعر في سياق الرّواية تصالحا بين الفنون المختلفة في طبيعتها اللّغويّة والتّكوينيّة، وكأنه نوع من احترام التّعدديّة الّتي هي فينا أوّلا قبل أن تكون في شخصيّات الرّواية أو في الفنون على نحو أعمّ.

بل إنّ أمر الكتابة ومفعولها لم يقتصر على كتابة القصيدة، فقد شملت فكرة الكتابة، وما يتّصل بها من أشكال ثقافيّة حضاريّة عموما، فـ "الكتابة منجاة من الوحشة والعزلة، الكتابة، الفنّ، الموسيقى، السّينما، المسرح، هذه أشياء جميلة، عندما تتعامل معها لا تتخلّى عنك ولا تغدر بك، إنّها بالفعل مبدّدة للعزلة". (ص131)، ولذلك تجد أنّ كثيرا من الشّخصيات تؤمن بفكرة الكتابة، وكتابة حكايتها برواية: "فسألتني إن كنت أريد أن أكتب عنها رواية، فأجبتها نعم. سأحاول، وهنا قالت (تاي) ساخرة: هل تصلح شخصيّتي لبطولة رواية". (ص14)، ثمّ تعيد تاي ذلك بقولها: "ربّما ذات يوم سأرويها لك إن كنت مصمّما على كتابة روايتي". (ص22)، وعندما تتباطأ تاي بإخبار الكاتب عن ماضيها، يخاطبها قائلا: "حتّى الآن لم أسمع منك شيئا عن ماضيك، ألم نتّفق أن أكتب رواية عنك". (ص54)، إنّ هذا الإصرار على كتابة الرّواية يعطي أهمّيّة مضاعفة، ليس للحكاية بحدّ ذاتها، ولكن ربّما هي محاولة للاستشفاء من الوجع والمرارة والتّخلص منهما بالكتابة، وهنا يتّفق الشّعر والرّواية في الهدف في أنّهما يحقّقان نوعا من التّوازن في الحياة، حياة الرّاوي والمروي عنه والمروي له على حدّ سواء.

وتعيد الرّواية تأكيد فعل كتابة الرّواية لأهمّية ذلك انسجاما مع ما بيّنت في المقتبس السّابق حول الكتابة: "حتّى أنّ شيرين تمنّت لو أنّها تملك موهبة الكتابة لكتبت قصّتها، ثمّ سألتني: لماذا لا تحاول أنت؟ قلت لها: ومن قال إنّني لا أحاول، فإن كتبت روايتها سأهديها لك، فحلّفتني أن أفعل". (ص207). وهكذا يحيل هذا المقتبس تأكيد فنّ التّخييل الذّاتي في الرّواية، فقد حقّق الكاتب أمنية شيرين وكتب الرّواية وأهداها إياها: "إلى نجمة الصّباح الّتي رفعت عنّي عبء الحزن. إلى شيرين محمود رواية منك وإليك ولذكرى تاي وريتا ومجدولين". (ص5).

لقد حضر الموت وشخصت الهزيمة بأنيابها الحادّة، ولكن ظهر معها ما يخفّف من وقع هذه الهزيمة، ويبقى العنوان حاضرا بصيغة الاستفهام "من يتذكّر تاي"؟ وإن كان المؤلّف أبقى العنوان مفتوحا على توجيه آخر مفتوحا على تأويل الشّرط، فكأنّه أراد أن يحفّز الذّاكرة، لنكمل القصّة فـ "من يتذكّر تاي" فإنّ عليه أن يعمل لإنقاذها، فإن ماتت تاي في الرّواية إلّا أنّ فلسطين حاضرة، وإن ما زالت تعاني من سرطان الاحتلال الّذي تفشّى في جسدها كلّه، إنْ سلّمنا بصحّة التّوجيه المزعوم في بداية هذا الحديث من أنّ تاي/ عائشة تحمل بعدا رمزيّا، فهل ستظلّ فلسطين/ عائشة/ حاضرة في وعي العرب بوصفها قضيّةَ سياسةٍ وكرامةٍ، على المستويين الشّخصيّ والجمعيّ؟ سؤال سيظلّ مفتوحا على جرح لن يبرأ بسهولة أو بسرعة، ولذلك فعلينا أن نتذكّر تاي حتّى لا ننسى فلسطين.