الحدث الثقافي
يكتب معين بسيسو في مذكراته "دفاتر فلسطينية" مستعيدًا أيام وليالي السجن في غزة، منتصف الخمسينيات من القرن الماضي: على حائط كل زنزانة يرسم السجين سفينة أو طائرا.. لن يتمكنوا من قتلك ما دمت تسافر.
لا يتحدّث بسيسو عن السفر الذي قال فيه محمود درويش ذات يوم:
وأبي قال مرةً
الذي ما له وطنْ
ما له في الثرى ضريحْ
ونهاني عن السفر!
بل يتحدث بسيسو عن الحلم بالانعتاق، الحلم بالحرية.
زمن طويل مرّ، أكثر من نصف قرن على ذلك الحلم، تغيّرت أحوال غزة، احتلَّت غزة عام 1956 ثم تحررت، واحتلَّت ثانية عام 1967.
بعد سنوات من المقاومة، قَسَّمت غزةُ اليومَ بينها وبين المحتل، فهي في النهار أسيرة، وفي الليل حرّة لا يجرؤ الاحتلال على المبيت فيها. في الليل تحلم غزة، ومثل بسيسو ترسم سفينة تعرف أنها لا تستطيع الوصول إلى الشاطئ، وطائراً لا يستطيع الهبوط على البرّ بأمان. لكن الإسرائيليين اكتشفوا أنهم سجناء غزة في غزة، حين رأوا أهلها المساجين هم الذين يغنون، وليس للجنود سوى الخوف.
لم يجد الجندي الذي اكتشف فجأة أن غزة استعادت يومها كله، نهاره وليله، لم يجد الجندي وسيلة تساعده على أن يقلب المعادلة، سوى أن يغادر غزة ويقيم خلف سور السجن الكبير، لكنه رغم ذلك ظل سجانا، وفيه ما في السجان من السجن، فهناك باستطاعته أن يقتل كما يشاء، ويجوّع البشر كما يشاء، دون أن يكون مضطرا لمشاهدة عيون الضحية وهي تموت.
استطاع الإسرائيلي الوصول أخيرا إلى هدنة مع الضمير، ولا ضمير لاحتلال؛ استطاع أن يقتل عن بُعد، يقصف يدمِّر، يغلق البحر، ويقنن الهواء والماء والنور.
لكن غزة ظلت حية وصامدة.
و "إذا كانت أعين الشعراء على القمر، ويدهم على الرغيف"، كما يقول بسيسو، فقد عاشت غزة الحصار وعينها على الطائر ويدها على الرغيف.
***
لم تكن غزة بعيدة في أي يوم من الأيام عن الرياح التي تهب من كل الجهات، تلك المدينة التي وصفها الرحالة والباحثون، بالأرض الخصبة ذات المياه العذبة، وسماها اليونان "المدينة العظيمة"؛ فهي ذروة الجنوب الفلسطيني خضرةً، ونهاية بر سيناء القاسي. وفيها يستريح القادم من الرمل، قبل دخوله الخضرة، كما يستريح القادم من الخضرة ليتسلح ما استطاع بالحياة لعبور الامتدادات الشاقة التي تنتظره.
تلك المدينة الكنعانية الفاتنة، كانت محط القلوب ومحط الأطماع، كما لو أن كل جمال يوقظ غريزة التملك.
قاومت سرجون الأكادي، الملك البابلي؛ وقاومت قمبيز في عهد الفرس؛ وصمدت عاما في وجه واحد من أعظم محاربي التاريخ: الاسكندر المقدوني؛ ووقفت في وجه نابليون لتعيق وصوله إلى عكا. وبين حصار وحصار كانت غزة تنهض، ويعمّها الرخاء من جديد، إلى ذلك الحدّ الذي التجأ قنصل فرنسا في بلاد الشام، ذات يوم، إلى واليها: حسين باشا، واقترض منه، ليسد العجز الذي هزّ ميزانية بلدية باريس، كما جاء في فيلم وثائقي بثته محطة الجزيرة عن غزة. لكن الدكتور عصام سالم سيذهب إلى ما هو أكثر اتساعا من ذلك حين يقول: في الوقت الذي كان فيه السان جرمان يغلق ليلا، وكانت أضواؤه تطفأ، كانت أنوار غزة في ثمانينيات القرن السادس عشر لا تطفأ أبدا!
***
تكتب عن غزة. فتستعيد تلك القصيدة الطويلة: الحوار الأخير قبل مقتل العصفور بدقائق، المكرسة لأربعة من شهدائها كانوا يغنّون:
.. وأغنيتي تعرف الدرب للحبّ.. تعجب؟!
لا بأس!
لكنني أعرف البحر منذ صباه.
لا أقول لك الآن إني سأمضي إلى الموت
لا أعشق الموتَ لكنه سُلّمي للحياة.
وتغني لهم أمهم:
أوصيك يا ولدي دائما:
حين تمتدّ أرض السواحل عاريةً
أو يكثر الجند حولكَ
كن في امتداد السهول جبلْ
وكن أنت دولتكَ العاليةْ
حين تسقط خلفك كلُّ الدّولْ.
تكتب عن غزة فتتذكر "أعراس آمنة"، حيث الأمور أشد حزنا، والحصار أشد فتكا، والعالم ينظر إلى غزة ولا يرى فيها سوى صمودها، وكان علينا أن نعيش لنرى أن الفلسطيني زجَّ به في معادلة غريبة، لأن عليه أن يعضّ على جرحه، حتى لا يشمّت فيه عدو أو صديق، لكن قلب الأم كان غير ذلك وهي تبوح: الذي يجبرنا على أن نـزغرد في جنازات شهدائنا هو ذلك الذي قتلَهم. نزغرد حتى لا نجعله يحسّ لحظة أنه هزمنا. وإنْ عشنا، سأذكِّرُكِ أننا سنبكيهم كثيرًا بعد أن نتحرّر.
يحتاج الفلسطيني للحرية لا لكي يفرح إذن، بل لكي يبكي أيضا!
***
.. وفجأة، يهزّنا استشهاد محمد الدُّرة على الهواء مباشرة! كما يهزنا استشهاد الصغيرة إيمان حجو، ابنة الشهور الأربعة، كما لو أننا لم نر الأطفال يقتلون من قبل، وإذا بجسديهما الصغيرين يحتضنان كل أسئلة البشر حول العدالة والموت والمصير والقدر و..
كان لا بد للملائكة أن تقول في ليالي الحصار:
الليالي الطويلةُ، دونَ كلامٍ،
ظلامٌ يسيلُ وأنـهُرُ مَعْدنْ
ملائكةُ الله تسهرُ في هذه الأرضِ
أكثرَ من أيِّ أرضٍ.. وتحزن!
لكن ذلك كله لم يكن كافيا، لكي يتذكر العالم أن ثمة حصارا، وأن ثمة بشرا يموتون، نساء ينجبن على الحواجز، وجنودا يتتبعون حبال السّرة، وليس هذا مجازا، لكي يتأكدوا من أنه لا ينتهي بقنبلة! وأصبح على المريض أن يواجه مرضه، ويصارعه وحيدا، دون أن تمتد له يد واحدة تساعده؛ وأصبح على العريس أن يتسلل إلى عروسه بتابوت، باعتباره شهيدا، تحمله سيارة إسعاف! أصبح عليه أن يحتمل النصال الطويلة لخناجر جنود الحواجز التي تخترق النعش لتتأكد من خلوه من الحياة!
كان العالم بحاجة لمجزرة، لاجتياح، لمحرقة، لإبادة، وإبادة جديدة، كي يرى ذلك كله؛ ولم يكن أمام غزة سوى أن تصمد وحيدة بأحيائها وشهدائها، وسجنائها، لكي ينسى أطفالها أيضا، ولو لأسابيع قليلة، تلك اللعبة التي زجّهم الانقسام فيها مشوّها كل شيء فيهم، أطفالها الذين باتوا، يلعبون ببنادقهم البلاستيكية، لعبة "فتح.. وحماس" بعد أن كانوا يلعبون طوال عمرهم لعبة (عرب.. ويهود!) وكان على الأم في "أعراس آمنة"، الأم نفسها أن تصرخ في وجه ولديها اللذين ظلاّ يتشاجران طول الوقت، كل منهما يدافع عن تنظيمه: مش عارفة على إيش بتتقاتلوا، ماهوِّ إذا كُنت مع "حماس" إسرائيل بتقتلك، وإذا كنت مع "الجِهاد" إسرائيل بتقتلك، وإذا كنت مع "فتح" أو مع "الشّعبية" أو "الدّيمقراطية" إسرائيل بتقتلك، وإذا كنت مع المقاومة إسرائيل بتقتلك، وإذا كنت مع الاستسلام إسرائيل بتقتلك، وإذا كنت مع أبو عمّار إسرائيل بتقتلك، وإذا كنت ضده، إسرائيل بتقتلك، ، وإذا كنت بتفتح الشِّباك على شان تشوف شو صاير، بيجي قناص وبُقتلك. وإذا كنت ماشي في الشارع أو نايم في بيتك وبس في حالك، بيجي صاروخ من السّما وبقتلك!!! وعلى إيش إنتو بتتقاتلوا والله ما اني فاهمة؟!
كان قلب الأم صادقا، لكن ذلك لم يكن كافيا لكي تلمّ تلك الأم الطيبة بكل ظلال الصورة!
***
ما الذي يمكن أن تكتبه عن ولمدينة كغزة؟!
هل تكتب عن البحر الذي يُحظر عليه الوصول إلى البرّ! أم البر الذي لا يستطيع بلوغ البحر إلا إذا دفع ذلك الثمن الباهظ الذي دفعته الطفلة هدى غالية التي قتل أهلها جميعهم، أم عن قتل 4 أطفال على الشاطئ بقذائف البوارج الصهيونية لأن البارجة لم تحتمل وجودهم فوق رمل مدينتهم وعلى ساحلها قبالة الزوارق البحرية الإسرائيلية؟
هل تكتب عن البحر الذي حوّله الصهاينة إلى مقبرة لأسطول الحرية، أم عن أطفال غزة الذي وقفوا على الشاطئ وراحوا ينثرون الأزهار فوق ذلك القبر الأزرق الواسع!، لأن الشهداء لم يستطيعوا بلوغ الشاطئ؟
هل تكتب عن أزهار غزة نفسها، التي أُخرجتْ من البرّادات لتواجه الذبول حزينة ووحيدة، ليتمّ وضع الشهداء مكانها، بعد أن ضاقت ثلاجات المستشفيات بما رحبت، وغدت أعداد الشهداء فوق طاقتها الاستيعابية من جثث الأطفال والشيوخ والشباب والنساء؟ أم تكتب عن عيون أطفالها، التي تفنن الجنود في فقئها برصاصهم المطاطي؟ أم تكتب عن القناص نفسه الذي سألته الصحفية عميرة هيس ذات يوم، فكان هذا الحوار الغرائبي بعد أن اعترف بأن قيادته تسمح له بإطلاق النار على أيِّ طفل عمره أقلّ من اثني عشر عامًا:
- ولكن كيف تعرفون أن الطفل أكبر من ذلك أو أصغر، وأنتم هناك خلْف الحواجز أو فوق الأبراج؟! تسأل عميرة.
فيرد القناص: نحن لا نستطيع أن نطلب من كلِّ طفل إبراز شهادة ميلاده قبل أن نقتله!
هل تتحدث عن حديقة حيوان غزة، التي لم ينج من كائناتها لا الغزال ولا التمساح ولا الضبع بسبب القصف، والجوع، فوجدت الحيوانات نفسها مضطرة أن تأكل بعضها بعضا؟ أم عن ذلك الأسد الذي تم تهريبه، فاستيقظ في وسط النفق، لأن أثر التخدير في رحلته الطويلة إلى القفص الأكبر طالت أكثر مما يجب؟!
هل تتحدث عن كوميديا الأنفاق أم تراجيديتها؟! حين تقرأ فتوى وزير الأوقاف الفلسطيني، ذاك، في رام الله، الفتوى التي أباحت لنظام مبارك إقامة جدار عازل، لكي يحمي مصر من أسى غزة! أم تعود لتتحدث عن غزة التي عينها على الطائر ويدها على الرغيف؟ ولذلك يمضي أطفالها نحو الشاطئ ويطلقون 3200 طائرة ورقية في سمائها، وحين يكتشفون أنها لم تكن كافية لكي تحلّق غزة نفسها، يطلقون في العام التالي 7202 طائرة ورقية، محطمين بذلك الرقم القياسي العالمي! لكن كل تلك الطائرات الملوّنة المُحلّقة لم تكن كافية لكي يشعر طفل غزة بحريته.
***
في بداية الفيلم الوثائقي الجميل "عايشين" نفاجأ بمركبة فضائية في حديقة للأطفال بغزة! وحين ندقق، نكتشف أن المركبة صنعت من صهريج مياه كبير، طويل، ثم صنعت له مقدمة صاروخية مدببة تحاكي أفضل نماذج صواريخ الفضاء، وفي نهايته ما يشبه مسننات ومراوح محرك عملاق، وعليه كتب بخط واضح: (سفينة الفضاء).
لم يطلق أطفال غزة الطائرات الورقية ليبتعدوا عن أرض مدينتهم، ولم يصنعوا المركبة الفضائية لاستبدال غزة بكوكب آخر، بل ليحسّوا قليلا، كما كان يحسّ بسيسو، أنهم أعلى من الأسوار ومن الجدران العازلة، وليتذكروا أن العصافير كانت تطير في السماء: أولم يصرخ ذلك الرجل في فيلم وثائقي آخر: يا عمّي، بعد القصف، لم يعد هناك عصافير في غزة، يا عمي، ما فيش عصافير!
وبعـــد:
هناك مثل فلسطيني يقول، شارحًا سوء أحوال البشر: عايشين من قلَّة الموت! لكن عبقرية غزة تصوغ المثل من جديد، دون أن يختفي الأسى: عايشين رغم كثرة الموت!