أسرة الحدث
تُحيي "دولة الاستعمار-الاستيطاني" الصهيوني في كل عام ذكرى ما تصفه بخراب الهيكلين الأول والثاني، وذلك من خلال مجموعة من الطقوس الاستحضارية من قبيل ملاءمة بعض البرامج الإذاعية والتلفزيونية للذكرى، وقيام المستوطنين الإسرائيليين باقتحام المسجد الأقصى، ووقف العمل في المؤسسات الرسمية وبعض الأعمال التجارية.
ويُمكن قراءة هذه الطقوس باعتبارها تفسحُ مساحة من "الحزن الطقوسي الممتد" الذي يسير بتسلسل زمني غير منقطع ليشكل خطاباً عاماً رسميا داخل المؤسسة الاستعمارية يقوم على إعادة بناء ما تهدم أو ما ضاع من تاريخ مخترع تحتاجهُ لكي تتمكن من اختراع ذاكرتها الاستعمارية، والتي تشكل ذاكرة إحلالية لأنها تسعى إلى استعمار المكان وسرديته وإحلال مكان آخر بدلاً منه، من قبيل "الهيكل بدل الأقصى". ويشملُ الأمر أيضاً، محاولة استعمار التسلسل الزمني عبر إحلال زمن آخر فيه من خلال استجلاب الزمن التوراتي ليكون صائغ الزمن الحالي الذي ينفي زمن المُستعمَرين، وينفي وجودهم، ويعطي الأولوية لزمن التوراة جغرافياً.
ويمكن تتبع عملية اختراع الذاكرة الاستعمارية في الكتابات التأسيسية الأولى للفكر الصهيوني، والمبنية على عدة محاور:
يعتبر موسى هس منظرها الأبرز، أنه عبر وجوب جعل فكرة "التحرير" خطاباً مركزياً في خطاب الحركة الصهيونية، فقد أسس فرضية كتابه الأشهر "روما في القدس"، والذي صدر في عام 1862، القائمة على فكرة تحرير القدس على غرار تحرير روما في التاريخ القديم، وبما يعنيه ذلك من تشابك بين فكرة "بناء القومية اليهودية" وتحرير القدس، بحيث أنه في لحظة تحرير القدس سيكون "الشعب اليهودي" أمام "سبت التاريخ" الذي تتفوق فيه القدس الجديدة على روما القديمة في النفوذ والعظمة، ويلعب اليهود دورهم المميز في تشكيل التاريخ.
وهذا يستلزم، من وجهة نظر هس، تحرير اليهود أنفسهم من عقدة الإنكار الأوروبية ليهوديتهم وتبني اليهود في أوروبا لمقتضيات الضرورة القائمة على كبت اليهود ليهوديتهم ودلائلها الترميزية، لذلك فإن تحرير اليهودي من كبته الأوروبي، إنما يتم عبر إطلاق فكرة التمايز العرقي الذي يتمتع به اليهود باعتبارهم من العروق الرئيسية في الجنس البشري، ومن ثم إغلاق هذه الجنس بيولوجيا وأيديولوجيا على نفسه في دائرة محكمة لا يمكن اقتحامها. وعندما يتم الاعتراف باليهودي العصري الجديد يمكن إعادةُ إدخاله إلى المنظومة الأوروبية من باب المظلومية التاريخية والاضطهاد وما يقتضيه الأمر من رفع هذه المظلومية التاريخية، وتحريره منها، عبر إدخاله إلى زمان ومكان "لا أوروبيين" وبدعم أوروبي.
وهنا، نبدأ في تلمس هذا "الاختراع الممنهج للذاكرة الاستعمارية"، والتي تؤكد على أهمية ربط المتخيل بالمادي، لذلك يقول هس في كتابه المشار إليه، إن من أبرز وظائف اليهودية في الشتات هو ربط الأخلاق التوراتية بالحياة المعاشة في الشتات، ليتحول اليهود إلى ضرورة استعمارية وصناعية وتجارية لا غنى لأوروبا عنها. وقد تم في نطاق هذه الممارسة استدعاء فكرة الربط بين "القومية اليهودية" و "المنفعة الأوروبية"، فبحسب هس، لا يمكن تحقيق هذه الغاية دون تأسيس أمة منظمة سياسياً قادرة على تجسيد أهدافها في مؤسساتها الاجتماعية ضمن نموذج "الانبعاث السياسي" الذي يمكن من خلاله استظهار واستجلاب هذه المنفعة. والأهم من ذلك، هو الترويج لفكرة "عمومية الأخلاق اليهودية"، لتكون مصدر المشروعية للثقافة والفكر والتاريخ التأسيسي في أوروبا. وعن ذلك يقول هس تحديداً: "لو نظرنا في التعاليم الخلقية المسيحية، أو في فلسفة العصور الوسطى العلمانية أو في الحركة الإنسانية الحديثة- حتى إذا أضفنا حركات اليهودية الحديثة وفلسفة سبينوزا؛ لوجدنا أن كل هذه الحركات تنبع من اليهودية، حتى الفلسفة الحديثة". بحيث يصبح "تاريخ الإنسانية مقدساً من خلال اليهودية، باعتبارها قوة توحد الإنسانية من منطلق انعدام وجود شعب غير اليهود له دين يربط العناصر القومية والعالمية والتاريخية معا. بحيث يصبح هذا الاختراع المبتذل لتاريخ اليهود وإسقاطه على تاريخ أوروبا سردية تجد مصوغاتها في تلاقي الاستعمار الأوروبي مع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني عبر استدعاء التقليد الديني للتضحية إلى القدس الجديدة كذبيحة فداء للمسيحية على مذبح كنيسة القيامة، كما يقول هس.
يمكن تتبع أصول هذه الفكرة في كتابات أليعاز بن يهوذا، الذي قام بعبرنة اسمه كبداية لإطلاق مجادلته الأساسية عن ضرورة إحياء اللغة العبرية لتكون لغة اليهودي الوحيدة، بحيث لا يمكن إحياؤها إلا في بلد "يفوق فيه عدد السكان اليهود عدد الغرباء". وقد عبر عن فكرته تلك في مقالة نشرها في مجلة "هاشاحار"، أي الفجر، وهي مجلة عبرية شهرية كانت تصدر في فيينا في منتصف القرن التاسع عشر. فكي يتم تأصيل اليهود في المكان يجب تأصيلُ لغتهم، وإعطاؤها مكانة توازي مكانة الدين اليهودي، باعتبار اللغة هي الناقلة للسردية الاستعمارية والمحققة للأهداف القومية الصهيونية، وباعتبارها في نفس الوقت أداة مهمة من أدوات السيطرة والضبط وإعادة صياغة المكان، واختلاق فضاء جغرافي وبنائه، دون الاهتمام بحقيقة الجغرافيا أو قاطنيها، لأن اختراع الذاكرة الاستعمارية يقتضي أن يكون هنالك نوع من الاختلاق المتفاعل مع الجغرافيا والذاكرة بما يجعل منها استعمارية.
تأسيسا على ذلك، نجد أن "الذاكرة الاستعمارية" الصهيونية تخلو من الناحية الخطابية اللغوية من الفلسطيني بتجريده من فلسطينيته، وسحب كلمة "العربي"، على فلسطيني عام 1948، كذلك الأمر بالنسبة لفلسطين الخارطة، فحتى المناطق المقزمة في الضفة الغربية وقطاع غزة كتعبير عن جغرافيا الفلسطيني الجديد، يُطلق عليها "يهودا والسامرة".
أما ارتباط اللغة بالسردية بالمكان باختلاق الذاكرة، فهو ضرورة لا بد منها، في عملية "الغياب والحضور"، فالفلسطيني الغائب، هو فلسطيني غير موجود في تاريخ المكان، ولا في سرديته، لذلك نجد في كتابات تؤرخ لفلسطين القديمة أن "الفلسطينيين" شعبٌ متلاشٍ ذو منزلة أدنى فقد حضوره المكاني بفقدان قدرته على أن يكون شعباً قادراً على الاستمرارية في المكان؛ في حين نجد إثباتات مختلقة، ومحاولات مستمرة حتى يومنا هذا -ممثلة في الحفريات الأركيولوجية التي لا تنتهي في الأقصى- لإثبات أن اليهود شعبٌ ذو إمكانات أعلى من الناحية الحضارية والأخلاقية ما يحيل إلى كونه أكثر استحقاقية للمكان. من هنا جاءت خطابات "الأرض الخالية"، و"جعل الصحراء تزهر" وشعار "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، بما يسهم في إضفاء البعد الأخلاقي على مسألة لا أخلاقية لأهداف استعمارية تحمل نفس شعارات المنظومة الاستعمارية الأوروبية المبنية على إيصال الحضارة وجلب المنفعة إلى منطقة خالية أقل تطوراً.
وتنسحبُ ذات الفكرة، على عملية إعادة تسمية المكان، والتي بدأت ما قبل نكبة 1948 من خلال لجان التسميات التي شكلتها مؤسسات صهيونية خلال فترة الانتداب البريطاني لترسيخ مقولة أن الكثير من أسماء القرى العربية ما هي إلا أسماء مشوشة لتسميات يهودية، كما يقول ذلك مصطفى كبها في دراسة معمقة تحمل عنوان "التسميات الفلسطينية وعلاقتها بالحيز المكاني- منطقة اللجون مثالا". ليصبح استدخال الأسماء التوراتية لعبرنة المكان جغرافياً، ما هو إلا مسألة تصحيحية في إطار تركيب "الذاكرة الاستعمارية" لتصبح فلسطين إسرائيل، والأقصى الهيكل، ونهر العوجا ليُعرَف بـ"اليركون" وجبل فقوعة أصبحت تسميته العبرية هي "الجلبوع" والضفة الغربية يهودا والسامرة، بحيث يدخل مجمل الأمر في نفس مضمار علاقة "الحضور والمحو"، القائمة على مفاعيل القوة التي يمتلكها الصهيوني بفعل عنف المستعمِر.
لذلك يكون إحياء اللغة إحياء للأمة اليهودية وإحياء للجغرافيا المتخيلة وتعبئة لفراغات "الذاكرة الاستعمارية"، على أساس فراغية الفضاء، وعلى هذا يمكن أن نفهم الدعوات الصهيونية اليوم باقتحام المسجد الأقصى لأنه فارغ رغم الحضور الكثيف للمرابطين والمصلين والمدافعين عنه. فعلى سبيل المثال، كتبت سبير بالوخ زوجة المستوطن افراهام بالوخ للمستوطنين دعوة لاستجلاب المزيد منهم لاقتحام الأقصى قالت فيها: "جبل الهيكل فارغ من المسلمين والشرطة أغلقت كل المساجد والآن اليهود هم فقط على سطح جبل الهيكل". وبتحليل مضمون خطابها اللغوي، نجد كلمة "فارغ" كلمة أساسية فيه، كما نجد حضور العنف الاستعماري متجلياً في كلمة "الشرطة" وفعل "إغلاق كل المساجد"، أما اليهود فوق سطح الجبل وحدهم، فهي إحالة إلى الحضور في المكان بأعلى نقاطه الوجودية المتفردة وبطريقة السمو والتعالي والاحتفاء بالتحرير أو النصر.
يُشكل الجنون والنزعات الانتحارية خطاباً مركزياً في "اختراع الذاكرة الاستعمارية"، نبدأها بملاحظة الحوارات التي جرت بين ثيودور هرتزل وصديقه ماكس نوردو، الطبيب النفسي، الذي حاول هرتزل استمالته للانضمام إلى وتأييد الحركة الصهيونية، والتي أثمرت نتيجتها بأن مد نوردو يده إلى هرتزل قائلا له: "إن كنت أنت مجنوناً، فأنا كذلك أيضا". وتحيلُ هذه العبارة إلى مطلق فكرة الجنون في الفكر الصهيوني، باعتبار أيديولوجيته فكرة جنونية بحد ذاتها خارجة عن حدود المنطق العقلاني والإنساني السليمين، والذي لا يقوم على ربط النظرية بحقيقتها العملية كما هي وإنما بفرض حقيقة متخلية لتحل محل الواقع الحقيقي. وهذا الجنون يستمر في تجسيد نفسه حتى يصل إلى عملية التجسيد المتسم بالنزعات الانتحارية في حدها الأقصى كما أشار إلى ذلك جيل أنجار، في مقالة بعنوان "الدولة الانتحارية"، بحيث عندما تصل الدولة إلى أقصى حدود محاولات الحفاظ على نفسها من خلال اتباع نهج عسكرتها تكون لديها ميولٌ انتحارية في أعلى درجاتها. ويستحضر إدوارد سعيد، هذه الميول الانتحارية في مقالته الفذة بعنوان "الاختلاق، الذاكرة والمكان" عبر كتاب المؤرخة الإسرائيلية -الأمريكية بيل زير بافل، ومن خلال الإشارة إلى قيام الدولة الصهيونية الحديثة باستعادة الأسطورة وتركيزها داخل السردية الاستعمارية الصهيونية بما يؤصل لفكرة الانتحارية كفكرة مركزية لتسويق البطولة الصهيونية فضلاً عن هدفيها المركزيين الآخرين المتعلقين باعتبارها رسالة قومية ومجازاً سياسياً معاصراً. فكما يقول سعيد، أصبحت المسادا، في الوقت المناسب، إحياء لذكرى بطولة اليهود، وموقعاً لاحتفالات الجيش، والتزاماً بالمهارة العسكرية ووعدا حاضرا ومستقبليا بها، وبالتالي أعيدت عن عمد صياغة حادثة مبهمة مجهولة نسبياً يمثل الانتحار مركزيتها الأساسية لتكون واقعة بارزة في برنامج قومي لدولة حديثة؛ وأضحت المسادا رمزا فعالاً لسرد إسرائيلي قومي عن الكفاح والبقاء.
بحيث يصبح الجنون والانتحار عاملاً أساسيا، بل أحد أعمدة الاختلاق في الذاكرة الاستعمارية، إذ نجد أنه يتم استخدامه بطريقتين الأولى: اعتباره مبرراً للحفاظ على الذات، والثانية: ذريعة للمظلومية. ونلحظُ ذلك في خطاب ماكس نوردو في المؤتمر الصهيوني الأول في عام (1879)، إذ يقول إن العقل الإنساني متعود من الناحية النفسية على اختراع الأسباب للتعصب العاطفي، ووفق هذا القول يكون التعصب لليهودية مبررا في صيغته النفسية، أما المظلومية فتتضح في استطراد نوردو وفي المثال الذي أشار فيه إلى أنك: "إذا أردت إغراق كلب فيجب أن تعلن أولاً بأنه مسعور". لذلك، يشكل الجنون والسعار اليهودي مبررا للآخرين لاضطهاد اليهود.
مثلما يخترعُ الاستعمار جغرافيا متخيلة، وخطاباً حولها، فإنه أيضا يخترعُ "ذاكرة استعمارية" تظل تجدد نفسها مثلما يجدد الاستعمار أدوات عنفه الاستعماري، بحيث يجري التطابق والتفاعل ما بين الذاكرة الاستعمارية كمبرر للعنف الاستعماري، وفق منطق الجنون والانتحار، والغياب والحضور.
ويظل السؤال الأبرز هنا، ماذا عن ذاكرة المستعمَرين وسرديتها وهل يمكن الوقوف عند معالم "ذاكرة ما بعد استعمارية" يوماً ما؟