الحدث الثقافي
هي شاعرة وباحثة ومترجمة بولندية ولدت في 2 يوليو 1923. حصلت على نوبل للأدب عام 1996. توفيت في 1 فبراير 2012. تناولت أعمال شيبمورسكا موضوعين أساسيين هما الحرب والإرهاب ونافست مبيعات أعمالها في بولندا أهم الأدباء رغم أنها صرحت في قصيدة لها تدعي " شيء مثل الشعر" أن إثنين من كل ألف شخص يهتمان فعلياً بالفنون. حصلت شيموبرسكا علي جائزة نوبل في الآداب عام 1996 لأن أشعارها استطاعت بدقة متناهية أن تجسد الحقائق الذاتية والتاريخية في صورة تشرذمات بشرية.
وفيما يلي كلمة الشاعرة بمناسبة حصولها على جائزة نوبل للآداب 1996
يُقال إن الجملةَ الأولى في الكلمة هي دائما أكثر صعوبة. إذن فهي الآن ورائي.. لكنني أشعر أن الجُملَ التالية ستكون صعبة: الثالثة، فالسادسة، فالعاشرة حتى الأخيرة، لأن عليّ أن أتكلم عن الشعر. قلما تكلّمتُ حول هذا الموضوع - تقريبا لا شيء. لكنه دائما كان يرافقني اعتقاد بأنني لا أعمل ذلك على الوجه الأكمل. لهذا فمحاضرتي لن تكون طويلة. كلّ نقص هو أخفّ على التحمّل فيما لو قُدّمَ بجرعات صغيرة. الشاعر اليوم شكاك ومرتاب - بل ربما قبل كلّ شيء- حتى إزاءَ نفسه.
فهو، بدون رغبة، يعلن على الملأ أنه شاعر- كما لو أنه يخجل من ذلك قليلا. لكنْ في عصرنا الصاخب، من السهل جدا، أن يُعتَرَفَ بالعيوب الخاصة حينما تُعْرَضُ بإثارة، على أن يُعْتَرفَ بالمزايا الدفينة التي لا يؤمن المرءُ بها حتى النهاية.. حينما يكون ضروريا للشاعر أن يفصحَ عن طبيعة عمله، في استطلاعات أو أحاديث مختلفة مع أناس عرَضِيّين، تراه يعلن بعمومية" أديب" أو يذكر اسم العمل المنجز إضافيا. يستقبل الموظفون أو ركّابُ الحافلة خبرَ كونهم يتعاملون مع شاعر بنوع من الارتياب والقلق. أعتقد بأنّ الفيلسوف يثير مثل هذا الإحراج أيضا. إلا أنه في وضع أفضل، لأن بإمكانه أنْ يزين مهنته بلقب علمي ما: بروفيسور فيلسوف - وقعه أكثر أهمية. لكنه لا يوجد هناك فلاسفة شعر. وإلا لكان هذا يعني تشغيلا يتطلب دراساتٍ متخصصةً، وامتحانات تُؤَدّى بانتظام، وأطروحاتٍ نظريةً معززةً بالمراجع والمصادر والهوامش، وأخيرا بشهاداتٍ مستلمة رسميا. وهذا بدوره يعني، لكي تكون شاعرا- لا تكفي الوريقاتُ المحبّرة حتى بأرقى القصائد- فما هو ضروري قبل كل شيء هو الورقة المختومة. فلنتذكر، أنه بالاستناد إلى ذلك، حُكم بالإبعاد على مفخرة الشعر الروسي الحائز على جائزة نوبل فيما بعد (جوزيف برودسكي)، واعتبروه "طفيليا" لأنه لم يمتلكْ شهادةً من دائرة على أن من حقه أنْ يكون شاعرا.
قبل عدة سنوات، كان لي شرفُ وغبطةُ التعرف عليه شخصيا. لاحظتُ أنه كان الوحيد من بين الشعراء الذين أعرفهم، ممن يُحِبّ أنْ يقول عن نفسه: " شاعر". كان يتلفّظ بهذه الكلمة دون مقاومات داخلية، بل بحرية استفزازية نوعاً ما. أعتقد أن سبب ذلك يعود إلى المهانات الفظّة التي عرفها في شبابه. في البلدان المحظوظة حيث الكرامة الإنسانية غير منتهكة بهذه السهولة، يرغب الشعراءُ بأن يكونوا مطبوعين ومنشورين حقا، مقروءين، ومفهومين، لكنهم لا يفعلون أيّ شيء أو الشيء الكثيرَ لكي يتميزوا في حياتهم اليومية ضمن الناس الآخرين. وليس بعيدا، في الحقب الأولى من هذا القرن، كان الشعراءُ يُحبّون أنْ يصدموا بمظهرهم المختلق وسلوكهم غريب الأطوار. غير أنّ ذلك كان عرضا لاستهلاك الجمهور. لقد جاءت لحظة كان الشاعر فيها يغلق البابَ وراءه، نافضا عن نفسه كل هذه العباءات، الموشيات والملحقات الشعرية، وكان يقف في سكون بانتظار نفسه ذاتها، أمام قصاصة ورق غير مكتوبة بعد. لأنه في الحقيقة، يُعْتَد فقط بهذا الشيء. الشيء المميز هو إنتاج أفلام سيروية كثيرة جدا حول علماء كبار وفنانين كبار. مهمة المخرجين الأكثر طموحا هي العرض الموثوق للعملية الإبداعية التي أدت في النتيجة إلى اكتشافات علمية هامة أو إلى ظهور أعمال فنية أكثر شهرة. يمكن مع هذا النجاح إظهار عمل بعض العلماء: فالمختبرات، والأدوات المتنوعة، والتقنيات المستخدمة آليّا، قادرة على جلب انتباه المشاهدين لبعض الوقت. عدا ذلك، قد تبدو لحظات عدم الثقة مأساوية، إذ هل التجربة المكررة للمرة الألف، ستنجح بعد تعديل طفيف عليها.
الأفلامُ عن الفنانين تستطيع أن تكون احتفالية - يمكن إعادةُ خلق كافة مراحل تكوّن اللوحة من الخط الأوّلي حتى لمسة الفرشاة الأخيرة. والأفلام حول الموسيقيين تملؤها الموسيقى- من الفواصل الأولى التي يسمعها مبدعها في داخله حتى الشكل الناضج للعمل الموزّع على الآلات. كل ذلك ما يزال ساذجا ولا يقول شيئا عن حالة الروح الغريبة المسماة ، شيوعا، بالإلهام، ولكن على الأقل، ثمة ما يمكن أنْ يُشاهَدَ ويُسمعَ. الشيء الأسوأ هو مع الشعراء. لأن عملهم غير ملائم للتصوير إطلاقا. إنسان يجلس أمام الطاولة أو يستلقي على الأريكة، يحدق بعين جامدة في الجدار أو السقف، من حين لآخر يكتب سبعة أبيات، يحذف أحدها بعد ربع ساعة، ثم من جديد تمضي ساعة ولا شيء فيها يحدث.. أيُّ مشاهد سيتحمّل مثل ذلك؟
ذكرتُ الإلهامَ، يعطي الشعراءُ المعاصرون أجوبةً مراوغة على سؤال، ما هو الإلهامُ، إذا كان موجودا. ليس لأنهم لم يشعروا أبدا بنعمة ذلك الاهتياج الداخلي. السبب مختلف. إذ من العسير أن تترجمَ لأحد شيئا لا تعرفه أنت نفسك. أنا كذلك، أُسْألُ عن ذلك فأتعامل مع جوهر القضية من بعيد. غير أنني أجيب بالطريقة التالية: الإلهام ليس امتيازا محصورا بالشعراء أو الفنانين عامة. ثمة جماعة من الناس موجودة، كانت وستكون، يزورها الإلهام. هم أولئك الذين يختارون عملهم بوعي وينفذونه بولع وخيال. يوجد هكذا أطباء، وهكذا مُربّون، يوجد هكذا بُسْتانيون وهناك مائة مهنة أخرى. عملهم يمكن أن يكون مغامرة متواصلة فيما لو استطاعوا كل مرة أن يَلْحظوا فيها تحديات جديدة. رغم المصاعب، والخسائر فإن تشوقهم لا يكفّ. فمن كل مسألة محلولة يطلع لهم قفيرُ أسئلة جديدة. الإلهام مهما يكون، فإنه يولد من "لا أعرف" المتواصلة. أمثال هؤلاء الناس قلة. أكثرية سكان هذه المعمورة تعمل لأنها مضطرة. فهم ليسوا من يختارون العملَ لشغفهم الخاص، وإنما ملابساتُ الحياة هي التي تختار لهم. العملُ غير المرغوب، العمل الذي يُقرف، المُقَيّمُ، فقط لأنه حتى بهذه الصورة ليس بمتناول الجميع، إنما هو واحد من أكثر المحن الإنسانية وطأة. ولا يبدو أن القرن القادم سيأتي بتغيير سعيد ما في هذا المجال. لهذا يمكنني أن أقول، في الواقع إنني أسلب الشعراءَ احتكار الإلهام، لكن مع ذلك، أضعهم في مجموعة محدودة من مصطَفِي الحظ. يمكنهم مع ذلك أنْ يُوَلّدوا الشكوكَ لدى المستمعين.
الجلادون، الديكتاتوريون، المتزمتون، الديماغوجيون المتنوعون، المكافحون من أجل السلطة، بمساعدة حفنة شعاراتٍ مرفوعةٍ عاليا كيفما اتفق، هم أيضا يُحبّون عمَلَهم و يُؤَدونه بابتكار متحمس أيضا. هذا صحيح، لكنهم " يعرفون"، وما يعرفونه، يكفيهم مرة واحدة وإلى الأبد. وهم ليسوا متطلعين لأكثر من ذلك، لأن هذا يمكن أن يُضعف قوةَ حججهم.
كل معرفة لا تُنشئ بنفسها أسئلةً جديدةً، ستصير ميتة في وقت سريع، تفقد الحرارة المناسبة للحياة. في الحالات الأكثر تطرفا، المعروفة جيدا من التاريخ القديم والمعاصر، تستطيع هي أن تكون خطيرة للمجتمعات بشكل مميت. لذلك أعتز كثيرا بكلمتين صغيرتين هما: " لا أعرف". صغيرتان، لكنهما مجنحتان بقوة. توسعان لنا الحياة بمساحات تكمن فينا، وبمساحات معلقة فيها أرضنا الدقيقة. لو أن ( اسحق نيوتن) لم يقل لنفسه:" لا أعرف" لأمكن للتفاحات في حديقته أن تتساقط على مرأى منه كالبرد، و لانحنى هو في أحسن الأحوال من أجلها وأكل منها بشهية. لو أن مواطنتي ( ماريا سكْوودوفْسْكا- كيري) لم تقلْ لنفسها: "لا أعرف"، لظلتْ بالتأكيد معلّمةَ كيمياء بمُرّتب لبنات البيوت الكريمة ولانقضتْ في ظل هذا العمل- المحترم من نوع آخر- حياتها. لكنها قالت لنفسها: "لا أعرف" وهاتان الكلمتان بالضبط قادتاها مرتين إلى ستوكهولم، حيث الناس بروح قلقة وباحثة دائما، قد منحوها جائزة نوبل.
الشاعر كذلك، إذا كان شاعرا حقيقيا، يجب أن يكرر على نفسه باستمرار:" لا أعرف" ويحاول أن يجيب على ذلك بكل عمل من أعماله. لكنه حالما يضع نقطة تعتريه حيرةٌ ثم يبدأ بإدراك أن هذه الإجابة هي إجابة مؤقتة. غير كافية إطلاقا. لذلك يحاول مرة أخرى، وأخرى، وبعدها يربط مؤرخو الأدب هذه الأدلة المتوالية على عدم رضاه عن نفسه بمشبك كبير ويُسَمّونها" نتاجا أدبيا". أحيانا تعتريني حالات غير قابلة للتحقيق. أتخيل نفسي على سبيل المثال، بوقاحة، أن لدي فرصة للتحدث مع( الجامعة)- مؤلف المرثاة المؤثرة حول تفاهة كافة الأعمال الإنسانية. وأنحني أمامه بخشوع، لأنه- بالنسبة لي على الأقل- واحد من أهم الشعراء. لكن بعد ذلك أمسكه من يده،" لا شيء جديد تحت الشمس"- أنت قلتَ يا الجامعة. ولكنكَ نفسَك قد ولِدتَ جديدا تحت الشمس. والقصيدة التي أنتَ مبدعُها هي أيضا جديدة تحت الشمس لأن أحدا لم يكتبها قبلك. وجميعُ قرائك هم جُددٌ تحت الشمس، لأنهم لم يستطيعوا أن يقرءوها قبلك. والسرو الذي جلستَ في ظله هو كذلك لا ينمو هنا منذ بداية العالم. أعطاه البدايةَ سروٌ آخر، شبيهٌ بسَرْوك لكنه ليس هو تماما. وفوق ذلك أود أن أسألك يا الجامعة: ماذا تملك من جديد تحت الشمس، أتكتب إغواءً جديدا بعدُ، أم شيئا ستُكمل به أفكارك، أم أن لديك مع ذلك رغبة بنقض بعضها؟ في قصيدتك السابقة لاحظتَ الفرحَ أيضا- لكن ما الفائدة، طالما هو عابر؟ إذن ربما ستكون حوله قصيدتك الجديدة تحت الشمس؟ هل لديك ثمة ملاحظات، ثمة مخططات أولية؟ لن تقول بالتأكيد: كتبتُ كلّ شيء، وليس لديّ ما أضيفه". هذا ما لا يمكن أن يقوله أيّ شاعر في العالم، فكيف بشاعر عظيم مثلك.
العالم كيفما فكرنا به، مرعوبين بكِبَره، بعجزنا الخاص إزاءه، منَغّصين بسبب لا مبالاته بالمعاناة الخاصة- للناس والحيوانات وربما النبات، لأنه من أين هذه الثقة بأن النبات خال من المعاناة. العالم كيفما فكرنا بفضاءاته المخترَقةِ بإشعاع النجوم، النجوم التي جرى اكتشاف كواكب حولها، أهي ميتة؟ هل ما تزال ميتة؟ هذا غير معروف. أي شيء سنقوله عن هذا المسرح اللانهائي الذي نملك في الواقع تذكرة دخول له، ستبقى صلاحية هذه التذكرة قصيرة بشكل مضحك، محددة بتاريخين صارمين؛ وأيّ شيء آخر سنقوله بعدُ عن هذا العالم- فهو مذهل.
لكن في تعبير" مذهل" يكمن شَرَك منطقي معين. إذ يُذْهلنا ما يبتعد عمّا هو عُرْفٌ شائع ومعترف به، عن واقع ما قد اعتدنا عليه. لكن، مثل هذا العالم غير موجود على الإطلاق. وذهولنا مستقل بذاته وغير نابع من أية مقارنات مع أي شيء.
نعم، في اللغة المحكية التي لا تتأمّل في كل كلمة، كلنا نستخدم عبارات من قبيل: "حياة عادية"، "عالم عادي"، "دورة الأشياء عادية"... لكنه، في لغة الشعر حيث لكل كلمة وزنُها، لا شيء عادي وطبيعي. لا حجر عادي ولا السحابة التي فوقه بعادية. لا يوم عادي ولا الليل الذي يليه بعادٍ. وأهم من كل هذا لا حياة عادية لأيٍّ كان في هذا العالم. يبدو أن الشعراء سيكون دائما لديهم الكثير لعمله.