الحدث الثقافي
فيما يلي مقاطع من كتاب "أسطوريات" لرولان بارت من الفصل المعنون "الأسطورة اليوم"
[193] ما هي الأسطوريات اليوم؟ سأقدّم فوراً جواباً بسيطاً جدا يتوافق تماما مع أصل الكلمة: الأسطورة هي كلام.
الأسطورة هي كلام
ليست بطبيعة الحال أي كلام: ينبغي أن تتوفر في اللغة شروط خصوصية من أجل أن تصبح أسطور: سنستعرضها بسرعة. ولكن ما يجب أن يُعرض في البداية هو أن الأسطورة منظومة تواصل، إنها رسالة. وهذا يسمح للمرء أن يدرك أن الأسطورة لا يمكن أن تكون موضوعاً أو مفهوما أو فكرة؛ إنها صيغة من صيغ الدلالة وهي شكل. علينا في وقت لاحق، أن نضع لهذا الشكل حدوداً تاريخية وشروط استخدام، وأن يعاد استثمارُ المجتمع له: هذا لا يمنع من أنه يجب علينا أولا أن نصفها بما هي شكل. ونرى أن الاعتقاد في وجود تمييز جوهري بين المواضيع الأسطورية وفقا لمضمونها سيكون وهمياً تماماً: بما أن الأسطورة كلام، فكل شيء يمكن أن يكون أسطورة يمكن أن يُقاضيها الخطاب. لا تتحد الأسطورة بموضوع رسالتها ولكن تتحدد بالطريقة التي تُقال بها. [194]: هناك حدود رسمية في الأسطورة، وليس فيها حدود جوهرية. هل كل شيء إذن يمكن أن يكون أسطورة؟ نعم أعتقد ذلك، لأن الكون إيحائي بلا حدود. فكل موضوع من مواضيع العالم يمكن أن يمر من وجود مغلق وأخرس إلى حالة شفوية فيغدو مباحاً للمجتمع أن يمتلكه، لأنه لا يوجد قانون سواء أكان طبيعياً أم لا، يحظر الحديث عن الأشياء. فالشجرة هي شجرة. نعم ودون شك. ولكن الشجرة التي تقال على لسان مينو درواي لم تعد بعد البتة شجرة تماماً؛ لقد باتت شجرة مزخرفة تكيفت مع نوع من الاستهلاك واستثمرت مجاملات أدبية وثورات وصورا وباختصار استمثرت استعمالاً اجتماعيا يُضاف إلى المادة الخاصة بالشجرة.
وبطبيعة الحال، لا يُقال كل شيء في الوقت نفسه: فبعضُ المواضيع تصبح فريسة للكلام الأسطوري لفترة ثم تختفي وتأخذ مكانها بعض المواضيع الأخرى وتصل إلى الأسطورة. هل هناك أشياء تظل إيحائية على نحو حتمي، كما قال بودلير ذلك عن المرأة؟ بالتأكيد لا: يمكن للمرء أن يتصور أساطير قديمة جدا، ولكن توجد أساطير أبدية، لأن التاريخ البشري هو الذي يحول الواقع إلى حالة كلام، إنه هو وحده وهو الوحيد الذي يضبط حياة اللغة الأسطورية وموتها. وسواء أكانت الأسطورية قديمة أم لم تكن كذلك، فإنه لا يمكن أن يكون لها إلا أساس تاريخي، لأن الأسطورة هي كلام يختاره التاريخ: فلا يمكن للأسطورة أن تنبثق من "طبيعة" الأشياء.
فالصورة هي بالطبع أكثر حتمية من الكتابة، فهي تفرض الدلالة دفعة واحدة، دون تحليلها أو تشتيتها
الكلام من هذا النوع هو رسالة. ومن ثم فإنه يمكن ألا يقتصر بأية حال من الأحوال على الكلام الشفوي،؛ فيمكن أن يتكون من وسائط الكتابة أو من التمثلات؛ ولا يتكون فقط من الكلام المكتوب، ولكن يمكن أن يتشكل أيضا من التصوير الفوتوغرافي والسينما والتحقيق الصحفي ومن الرياضة والعروض ومن الإشهار؛ فكل هذا يمكن أن يُستفاد منه سنداً للخطاب الأسطوري. لا يمكن للأسطورة أن تعرف لا بموضوعها ولا بمادتها لأن أية مادة يمكن أن تزود اعتباطاً بدلالة: فالسهم الذي يُؤتى به كي يدل على التحدي هو أيضا نوع من الكلام. وما من شك في أن الكتابة والصور مثلا لا يستدعيان في نسق الإدراك، النوع نفسه من الوعي: وحتى في الصورة نفسها، هناك بالفعل طرق كثيرة من القراءة: ذلك أن الرسم الخطاطي مثلا يُفسح المجال للدلالة أكثر من الرسم، ويكون التقليد أكثر دلالة من الأصل، ويكون الكاركاتير أكثر حملاً للدلالاة من التمثيل الشخصي. غير أن الأمر ههنا لا يتعلق البتة وبالتدقيق، بمنوال نظري من التمثيل: فالأمر يتعلق بهذه الصورة [195] التي تعطى لهذه الدلال: إذ يتكون الكلام الأسطوري من مادة اشتغل عليها بالفعل لجعلها مناسبة لتحقيق تواصل مناسب: فجميع مواد الأسطورة سواء أكانت مصورة أم مكتوبة لكونها تفرض وجود وعي دال، أمكن للمرء أن يفكر فيها باستقلال عن مادتها. ليست أهمية هذه المادة قليلة: فالصورة هي بالطبع أكثر حتمية من الكتابة، فهي تفرض الدلالة دفعة واحدة، دون تحليلها أو تشتيتها. ولكن هذا لم يعد فرقا تأسيسياً. إن الصورة لتصبح نوعا من الكتابة ما إن تصبح في لحظة ذات معنى: إذ الصورة مثلها مثل الكتابة، تستدعي معجماً.
لذلك سنعني هنا بعبارات لغة وخطاب وكلام، إلخ. كل وحدة أو توليفة ذات معنى، سواء أكانت لفظية أم بصرية: فالصورة سوف تكون عندنا كلاماً شأنها في ذلك شأن مقالة في جريدة؛ حتى الأجسام يمكن أن تصبح كلاماً، إذا كانت تعني شيئا. هذه الطريقة الشاملة في تصور اللغة تجد في الواقع ما يُبررها في تاريخ الكتابة نفسه: فقبل وقت طويل من اختراع أبجديتنا، كانت كيانات من نوع الكيبو إنكا، أو الرسوم مثل الكتابة التصويرية، كلاما منتظما. هذا لا يعني أنه علينا أن نعامل الكلام الأسطوري كما نعامل اللغة، إن الأسطورة تنتمي في الواقع إلى علم عام يمتد إلى اللسانيات، وهو السميولوجيا (العلاماتية).