الحدث- سوار عبد ربه
اختلف معه الكثيرون، ومنهم من رفض الحديث عنه، وبعضهم يرى فيه مفكرا استثنائيا، لم يأت أحد مثله بعد، إدوارد سعيد، المفكر الفلسطيني، أو الفلسطيني الأمريكي أو الأمريكي ذو الأصل الفلسطيني، كما يصنفه البعض، سعيد، المناضل على طريقته، والأكاديمي والكاتب والمثقف، الذي كان يستعيد حكايتنا الفلسطينية في مرآة التحولات الكبيرة التي يفرضها الواقع، ليجد نفسه دائما أمام رؤى مختلفة، شكلت تحولات فكرية جذرية بمراحل شتى، وصنعت منه مفكرا منفردا، قادرا على نقل القضية الفلسطينية ببعيدها الإنساني والسياسي إلى "العالم الغربي"، ليدفعه للتفاعل معها، بعيدا عن التأطير النمطي للفلسطيني وفلسطينيته وقضيته.
هذه كلها عوامل جعلت من سعيد واحدا من أهم الأصوات الفلسطينية في المنفى، الذين دافعوا عن القضية الفلسطينية وتركوا برحيلهم فراغا لم يغطه بعده أحد، ما يدفعنا للوقوف عند الآلية التي يمكن من خلالها إحياء ذكرى إدوارد سعيد، ، بل والتعاطي مع ما تركه من إرث فكري وربطه بالحاضر الراهن.
كتب سعيد في الاستشراق، ونظرة الغرب إلى العرب والمسلمين، كما كتب عن المثقف وعلاقته بالسلطة، ولإدوارد سعيد 18 كتابا في مواضيع مختلفة، وترجمت كتابته إلى ست وعشرين لغة وشملت أمورا سياسية وأدبية وشؤون الشرق الأوسط والموسيقى والثقافة، وغاص عميقا في القضية الفلسطينية، وقدم لها حلولا عدة في مختلف مؤلفاته، يمكن تلخيصها بثلاث مراحل، آمن سعيد في البداية في حق الفلسطينيين في الحياة على كامل الأراضي الفلسطينية، ثم نادى بحل الدولتين، وأخيرا طرح حل الدولة الواحدة ثنائية القومية، وللوقوف عند أسباب هذه التحولات الفكرية الجذرية عند إدوارد سعيد، تواصلت الحدث مع عدد من المثقفين والأكاديميين لسؤالهم عنها.
يرى الكاتب اللبناني نضال خلف أن-"الفكر النقدي الذي تبناه ومارسه سعيد باستمرار، هو ما سمح له بالتعامل مع الواقع بشروطه، بدل التمسك بأفكار لم يعد تطبيقها ممكنا على الأرض، كحل الدولتين، إلى جانب طبيعة المشروع الصهيوني التي لم تتبدل منذ نشأته حتى يومنا هذا، وهو المشروع القائم على بسط سيطرة الغرب على المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج بهدف تحقيق مكاسب استراتيجية (سياسياً واقتصادياً) ولمنع شعوب المنطقة من تحقيق استقلاليتها على أرضها وفوق مواردها".
وأوضح خلف أن هذه الطبيعة تلغي أي فرصة "للتعايش"، لأنه بطبعه مشروع استعماري إلغائي، وبالتالي حتى من يؤمنون بالتعايش-من أمثال إدوارد-اضطروا لمواجهة "الحقيقة المرة"، بأن هذا المشروع لا يمكن أن يقبل بوجود فلسطيني، الأمر الذي يلغي أي إمكانية لقيام "دولة" فلسطينية بجوار "إسرائيل"، متابعا أن هذا الأمر دفع بالكثيرين من مروجي السلام إلى تبني طرح الدولة الواحدة متعددة القوميات، ولعل ما دفع إدوارد إلى هذا الطرح هو التماهي مع نموذج جنوب إفريقيا، على الرغم من الفروقات الكبيرة بين القضيتين.
وأشار خلف إلى أن فكرة "الدولة الواحدة ذات القوميتين" لا تجد آذانا صاغية في المجتمع الفلسطيني، وهي إن تواجدت، ففي أوساط طبقة لها مصالح مرتبطة بالمشروع الاستعماري.
وعندما طرح إدوارد سعيد هذا الحل، وضع له مبررات عدة، كالامتزاج السكاني والجغرافي بين الطرفين، بالإضافة لنشوء جيل فلسطيني شاب في الداخل المحتل، مع الأخذ بعين الاعتبار الجانب الديموغرافي بمعنى، أنه مستقبلا، سيكون الفلسطينيون والإسرائيليون داخل الأراضي المحتلة، سيكون عددهم متقاربا، بمعنى أنه لن تطغى أغلبية على أخرى.
لكن خلف يرى أنه لم يعد هناك مبرر لمثل هذا الطرح، خاصة وأن المشروع الاستعماري لم يحد يوما عن أهدافه، وعلى رأسها القضاء على الوجود الفلسطيني، بالمقابل، أثبت مسار أوسلو بأن "إسرائيل" لن تكون إلا كيانا عنصريا يعيش على استعباد شعوب المنطقة، وهو ما يجعل فكرة التعايش نقيضة لهذا المشروع.
واعتبر خلف أن سعيد "فشل" في تصور المستقبل من خلال هذا الطرح، ربما نتيجة محدودية النافذة التي ينظر منها إلى الواقع، فالشعب الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة عام 1948 اجتهد منذ البدايات للحفاظ على هويته وثقافته، ورغم كل محاولات الأسرلة، فقد أثبت أنه نجح في مقاومته، وما هبته في "سيف القدس" إلا نتيجة من نتائج هذا النجاح، مشيرا إلى أن هذا لا ينفي أن ثمة من سقط في فخ الأسرلة، سواءً في اللهث خلف مقاعد الكنيست أو في خدمة جيش العدو، لكن المجتمع الفلسطيني عامة أثبت فشل هذا "التخوّف".
أما المثقف العراقي علي عزيز فيعزي السبب الرئيسي الذي دفع إدوارد سعيد لهذه التحولات، إلى سياسة الأمر الواقع التي انتهجتها "إسرائيل" بمرور الوقت، فقد كان سعيد يعتقد بإمكانية إرجاع فلسطين كاملة، ولكن مع تآكل الخريطة بفعل الأنشطة الاستيطانية وعمليات الطرد الممنهجة، صار يقبل بحل الدولتين، لكن فشل مفاوضات أوسلو قد أطاح بآماله بدولة فلسطينية مستقلة، إضافة لاستمرار تآكل الخريطة الفلسطينية أكثر فأكثر، ما جعله يقتنع بالدولة الواحدة التي تجمع الطرفين، وهو أمر بعيد المنال.
بدوره، يرى الشاعر الفلسطيني المقيم في لبنان جهاد حنفي أن الدولة ثنائية القومية التي توصل لها سعيد كحل للقضية الفلسطينية في السنوات الأخيرة من حياته، جاءت نتيجة لمحاولته التفكير في حل استراتيجي. ونوه حنفي إلى أن "إسرائيل" ككيان تؤمن أن "المجتمع الإسرائيلي" يمكن أن ينصهر بعد سنوات في المجتمع العربي لأن الغلبة السكانية هي للعنصر العربي، لذلك هي متخوفة، وتفشل أي محاولة لوضع "اتفاق سلام" دائم، وعلى هذا الأساس "قتلت" من صنع معها سلاما، وقبل أن تقتل ياسر عرفات قتلت إسحاق رابين، حتى لا يخطو خطوات كبيرة في هذا المجال، لذلك فإن إدوارد يؤمن بهذا الحل الاستراتيجي باعتبار أن المعركة القادمة هي معركة أجيال وذوبان لهذا الكيان داخل المجتمع العربي أو الفلسطيني، بمعانيه القانونية والأخلاقية والإنسانية.
لكن حنفي يرى أيضا أن إدوارد سعيد لم يستطع أن يقنع العقل العربي والفلسطيني بهذا الحل لأن المجتمع الفلسطيني مشحون بالمعاناة، وتلك الحلول هي حلول طويلة الأمد لا تقنع من يريد أن يحمل البندقية ولا اللاجئ ولا من يعيش في المنفى، ولا تقنع من يعيشون في حصار ولا تقنع أسيرا يكابد في زنازين الاحتلال عشرات السنوات.
أما الأكاديمي الفلسطيني عبد الكريم البرغوثي فيرى أن سبب الحلول المختلفة التي طرحها إدوارد سعيد فترجع لكونه اكتشف أن اتفاقية أوسلو وغيرها تشكل نكبة جديدة للشعب الفلسطيني، إذ أنه الوحيد الذي انفرد من المفكرين بجرأة وبأخلاق عالية في نقد اتفاقية أوسلو، من منظور الذخيرة المعرفية في أن يستشرف المستقبل بأن الاتفاقية ستقود حتما إلى نظام فصل عنصري.
ورغم أن سعيد أيد حل الدولتين، وكان من دعاة السلام والتعايش، وكتب مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش إعلان الاستقلال في الجزائر عام 1988 الذي مهد إلى القبول بفكرة حل الدولتين، إلا أنه أدرك أن اتفاقية أوسلو كانت تشكل طريقا لتكريس نظام الفصل العنصري، ومن هنا دعوته المرتبطة بنقده الإنساني القادم من النقد الأدبي، لم يجد بديلا عن أوسلو وعن مشاهداته لتوقعاته عن ماذا سينتج عنها إلا شعار الدولة الواحدة التي تحل من وجهة نظره مشكلة المستوطنين في أرض "فلسطين التاريخية"، والمشكلة الأساسية الفلسطينية.
ويرى البرغوثي أن سعيد في دعوته للدولة الواحدة أوجد تحد للسردية الصهيونية، أن فلسطين "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".
توفي إدوارد سعيد يوم الخميس الموافق 25/9/2003 عن 67 سنة إثر مرض عضال بالسرطان اجتاحه منذ عام 1992، وقيل إن غيابه ترك أثرا كبيرا في الكفاح الفلسطيني في الخارج.
وفي هذا الجانب قال العراقي علي عزيز إن "قلم سعيد كان قلما عن ألف قلم في وجه الاحتلال، لقد سبب لهم الإزعاج الشديد في المحافل العالمية، وكان صوت من لا صوت لهم، ولهذا يمكن القول بأن الكفاح الفلسطيني في الخارج بوجود سعيد ليس ذاته بعد وفاته، فهو مفكر ذو إرادة صلبة لدرجة أنه كان يمارس نشاطه حتى في أحلك ظروف مرضه".
أما الأكاديمي كريم البرغوثي فيرى أن إدوارد سعيد كتب كثيرا عن فلسطين، واجتهد في تعريفها وفي إبراز الرواية التاريخية الفلسطينية من خلال وسائل بصرية، كي يفند الرواية الصهيونية، وخسارته كانت خسارة لمثقف عالي القامة، محترما في بلده، وبالتالي صوته له قيمة أخلاقية عالية في مواجهة القوى الإمبريالية المتحالفة مع الصهاينة، مضيفا أن الفلسطينيين دائما ما يبحثون عن رمز لهم، ولا أحد بقيمة إدوارد سعيد لأنه شخصية فذه، كونه غير مرتبط بنظام معين، مختصرا توصيفه بأنه "بطل من هذا الزمان".
بدوره، اعتبر الكاتب نضال خلف أن إدوارد سعيد عبد الطريق للخطاب الفلسطيني في الخارج، والأهم أن تشجيعه الفكر النقدي المنطلق من ثوابت وطنية قوامها الحق والكرامة كان ليشكل دفعا إضافيا للوعي الفلسطيني.
ومما لا يدركه كثيرون، بأن سعيد كان معارضا بشدة لمسار أوسلو، وقد تعمق إيمانه بالمقاومة كسبيل وحيد لتأمين الحق الفلسطيني، وهو بذلك كان ليكون صوتاً صارخاً بوجه سياسات التفريط والاستسلام التي جلبت الهزائم لشعبنا وقضيته، بحسب خلف.
متغيرات كثيرة طرأت على القضية الفلسطينية منذ وفاة إدوارد سعيد، أبرزها عودة مسار المقاومة الفلسطينية على مراحل وهناك هبات مختلفة عايشها الشعب الفلسطيني على امتداد "فلسطين التاريخية"، لذا كان لا بد من الوقوف على سؤال افتراضي عما إذا كان سعيد موجودا بيننا، فهل سيطرأ تغير ما على فكره وطرحه لحل القضية الفلسطينية؟
اعتقد الكاتب نضال خلف أن سعيد سيكون داعما للمقاومة الفلسطينية، وإن كان سيتجنب دعم فصائل باسمها، ومن الممكن أن نراه أكثر صخباً في دعم الهبّات الشعبية كما حدث في "سيف القدس". لكنّه وبدون شك، كان سيكون معارضاً لنهج أوسلو وداعماً أولاً لإسقاطه.
أما الشاعر جهاد حنفي فرأى أنه لو كان موجودا بيننا لاقتنع تماما أن الوضع لم يتغير كثيرا عما كان عليه في السنوات السابقة، وإن اختلفت بعض الحيثيات، ولكن هناك أمورا إيجابية أصبحت أكثر حضورا في واقعنا بحسب حنفي، تتمثل في مشهد المقاومة والممانعة في العالم العربي ومشهد الفلسطيني الذي يعيش في أراضي ال48، وهو الذي كان دائما يراهن على هذا الجيل، لذلك أعتقد أنه بطروحاته السياسية سيعيد طرح الدولة الفلسطينية المستقلة الكاملة وسيعيد إلى وعيه فكرة الكفاح المسلح لانتزاع الحرية، بعدما طرح على مدار سنوات حل الدولة الواحدة وحل الدولتين ولم يتلق هذا الطرح قبولا في المجتمع الإسرائيلي نفسه".
من جانبه، اعتبر عبد الكريم البرغوثي أن التحولات التي جرت على موقفه فيها شيء أصيل وجوهري وثابت وهو عدالة القضية، موضحا أنه كان مع التفكر والتأمل في حلول تضمن العدالة والإنسانية، ومن هنا تأتي قوة طرح سعيد بأنه إنساني متعال عن العنصرية والطائفية، حتى عن "الفلسطنة" المبالغ فيها، بمعنى اعتبارنا "نحن الفلسطينيين حالة خاصة"؛ لكن يوجد شعوب عاشت أوضاع شبيهة واستطاعت تجاوز هذه المراحل، فسعيد لم يكن نرجسيا فلسطينيا كما هي حال الكثير من المفكرين والكتاب.
أجمع المتحدثون على أن إدوارد سعيد يمثل علما مضيئا ومرجعية فكرية وثقافية ووطنية، لذلك فلا بد من استلهام تجربته الفكرية، مع الإشارة إلى عدم ضرورة الأخذ بكل طروحاته.
وبحسب الكاتب نضال خلف فإن أهم ما يجب استحضاره من فكر إدوارد سعيد هو العقل النقدي، معتبرا أن قراءة الواقع وشروطه ضرورة للخروج بأدوات صحيحة للتعامل مع ظروف الواقع وفرض شروطنا فيه.
وبات ملحا أن نستعيد استنتاجات إدوارد فيما يخص الاستشراق وتأثيره علينا كشعب مستعمَر، تحديداً من ناحية تعريف واقعنا وسردية تاريخنا، وقدر الهيمنة الغربية عليهما، لأنه قدم تجربة سياسية فريدة حملت الكثير من العيوب، لكنها حملت أيضا أُسُساً مهمة لبناء فكرٍ وطني علميّ قادر على هزيمة المشروع الاستعماري في بلادنا، وفقا لخلف.
أما المثقف علي عزيز فيرى أنه كان بالإمكان استثمار أفكار سعيد ومقترحاته أثناء مفاوضات أوسلو، إلا أنه لم يحدث، مشيرا إلى إمكانية تصحيح ذلك بعمل جولة مفاوضات جديدة في ظل تنامي قدرة المقاومة الفلسطينية، واستثمار مقترحات سعيد القائلة بمعاملة "إسرائيل" بموقف الند للند ومحاولة إيقاف المد الاستيطاني والعودة قدر الإمكان لحدود 1967، وليس بالخضوع وترك الأمور لأهواء الولايات المتحدة "وإسرائيل".
وبحسب عبد الكريم البرغوثي فإن أهم ما يجب إحياؤه من إدوارد سعيد هو عدم الكسل والكلل والبحث الدؤوب والمستمر، إلى جانب عدم الوقوع في أسر أيديولوجيا متزمتة أو متعصبة، فإدوارد سعيد كان دائم الترحال، بالإضافة إلى اقتناعه بعدم الوصول لحقيقة مطلقة يقينية.
ووفقا للبرغوثي فإن ذلك يحدث من خلال دور الصحافة والإعلام إلى جانب التعليم المدرسي والجامعي، بشرط توافر حرية التعبير التي تكاد تختفي في عالمنا العربي والفلسطيني، فاستلهام سعيد يعني استلهاما لمشروع الحرية، الأمر الذي يتطلب جرأة أدبية ونضالا في سبيل الحرية.
يرى الكاتب نضال خلف أنه يوجد أكثر من "إدوارد سعيد" في وعي الجيل الشاب، بحسب مشاربهم الأيديولوجية، فمنهم من يرى إدوارد المفكر الليبرالي الداعي للتعايش والسلام، وهناك من يرى فيه مثقفاً ثورياً مناهضاً للاستعمار، مشيرا إلى صعوبة تحديد أي الجانبين يطغى على الآخر.
ويعتبر خلف أن أثر إدوارد على الجيل الشاب هو أثرٌ سطحي، بحيث أنّ التأثر به لا يتعدّى التغني ببعض كتاباته وآرائه، وقد بات اسماً جاذبا لتحسين صورة مدّعي الثقافة، في حين أنّ أكثر ما كان ليسعد إدوارد هو نقاش آراءه ودحضها إن أمكن.
بينما يرى الشاعر جهاد الحنفي أن المفكرين الجدد انبهروا بالطريقة المنهجية الاستراتيجية التي يفكر بها إدوارد سعيد فهو يمثل مرجعية ثقافية وبإمكان تطويرما طرحه إدوارد سعيد من خلال قراءاتهم لهم، معتقدا أن المفكرين الجدد الفلسطينيين ليسوا على اقتناع تام بحل دولة ثنائية القومية ولكنهم على اقتناع تام أن إحدى أهم أسلحة المعركة مع العدو الإسرائيلي هو الوعي والذاكرة والفكر.
أما عن جيل الشباب عامة فمن المرجح أن إدوارد سعيد غائب عن الأذهان إلى حد ما، وذلك يعود لجملة من الأسباب أجمع عليها المتحدثون الأربعة والمتمثلة في: محاربة محتواه محليا ودوليا، إلى جانب قلة اهتمام هذا الجيل بالبحث والمطالعة.
وعن هذا، قال الكاتب نضال خلف إن غياب إدوارد سعيد عن الأذهان يعود لسببين: أولا: محاربة محتواه وشيطنته، وهو ما حدث تحديداً بعد إصداره كتاب "غزة-أريحا: سلام أمريكي" الذي انتقد فيه بشدة القادة الفلسطينيين، فقام هؤلاء بمنع كتب إدوارد في عدد من البلدان العربية. ثانيا: طبيعة محتوى إدوارد سعيد ذات الطابع النخبوي، وقليلةٌ هي المحاولات لتوسيع رقعة أفكاره وطروحاته لتشمل فئات اجتماعية أكبر وأهم من "النخب"، هذا إلى جانب أزمة الثقافة والهوية.
أما المثقف العراقي علي عزيز فيرى أن الشاب العربي قليل القراءة، كما أن الشاب العربي يعاني على الدوام، فهو يعيش في ظل دكتاتوريات جائرة، لا تعطيه المجال للتنفس، ولهذا صارت القراءة ترفاً ذهنياً بالنسبة للكثير من الشباب العربي والفلسطيني، الذين يركضون خلف لقمة عيشهم.
وتابع عزيز: "الشباب الفلسطيني كطائر الفينيق، الذي ينهض من رماده من جديد كلما احترق، ولهذا فالمثقفون الشباب لا يهتمون كثيراً بمقترح سعيد بحل الدولة الواحدة، إنما يسعون لدولة فلسطينية ذات سيادة، وفق حدود 1967. صحيح أن سعيد يمثل أحد رموز المقاومة بالنسبة لهم، إلا أنهم لا يميلون كثيراً لاعتناق آرائه الداعية لحل الدولة الواحدة."
في المقابل اعتبر الشاعر جهاد الحنفي أنه ليس صحيحا أنهم لا يعرفون هذا الاسم، فهناك فئة كبيرة من الشعب الفلسطيني قرأت لإدوارد سعيد وأعجبت بأفكاره ووعيه خاصة أنه كان يعيش في الغرب ما ساهم في تعزيز صورته القوية في الشارع الفلسطيني، ولكن هناك فئة أخرى تعاني أزمة قراءة ووعي تماما كأي شارع عربي، مؤكدا أن الشارع الفلسطيني يبقي على نوع من المحافظة والتقديس للقامات الفلسطينية الفكرية.
ويوجد سبب آخر لانحراف قراءة الجيل عن إدوارد سعيد بحسب الحنفي وهو خلافه مع ياسر عرفات الذي منعت على إثره مقالاته من الصحف الفلسطينية.
أما الأكاديمي عبد الكريم البرغوثي فاعتبر أن ذلك يرجع لسبب عام عالمي يتمثل في نمط استهلاك المعرفة بطريقة القشرية واختزال المعرفة في جمل، أي أنه لا يوجد داع لنعرف.
كما أنه يوجه اللوم للنظام التربوي التعليمي في فلسطين، وسياساتها التي تظهر أشخاصا وتقصي آخرين. وأشار البرغوثي إلى أن السلطة تسعى إلى ترويج روايتها، وللترويج لأسماء "المحسوبين عليها"، بينما تتم التغطية على الشخصيات التي وصفها بالمشاكسة.