الحدث الثقافي- أدب
فيما يلي فصل من رواية السندباد الأعمى الصادرة حديثاً للروائية الكويتية بثينة العيسى خصت به صحيفة الحدث.
الرواية صادرة فى طبعتها الفلسطينية عن دار طباق، وفي طبعتها المصرية عن مكتبة تنمية، وفى العراق عن دار الرافدين، وفى الجزائر عن دار ضمّة، وفى تونس والمغرب عن دار مسكليانى، وتصميم الغلاف لـ يوسف العبد الله.
وبثينة العيسى كاتبة كويتية حاصلة على شهادة الماجستير فى إدارة الأعمال، وصدر لها روايات منها: "ارتطام"، "سعار"، "عروس المطر"، "تحت أقدام الأمهات"، "قيس وليلى والذئب"، "عائشة تنزل إلى العالم السفلى"، و"كل الأشياء".
الفصل صفر؛ المارد خارج القمقم
في ذلك اليوم، عندما كان جيش الاحتلال يتوغَّل في ضواحي البلاد، معلنًا امتلاكه للبحرِ والأرضِ والسَّماء، للأطالِس والمعاجمِ والتاريخ، وبينما كانت البلاد بأسرها تتحوّل إلى سِجن كبير، فوجئ نزلاء السِّجن المركزيّ، وحدهم، بالحرية.
كانت حرية مباغتة، تُشبه السُّقوط في كابوس، حيثُ قُضبان الزنازين هي الشَّيء الوحيد الثابت في عالمٍ يموجُ ويتأرجح. لم يتخيّل أحدٌ منهم، للحظة، أنه سيكون حرًا في بلدٍ مُحتل، أو يحاول فهمَ ما يعنيه ذلك.
كانت عقول السُّجناء في المجملِ عاجزة عن فهم المفارقات، وتأمّل حكمتها الإلهية، والإعجاب بحسِّ السُّخرية القدريِّ الذي تنزّل عليهم من علّ. كان أكثرهم محكومًا لأسبابٍ لا علاقة لها بالجرائم السِّياسية، ولم يمتلك أكثرهم ملَكة ربط السَّبب بالنتيجة؛ سرقات، شيكات بلا أرصدة، جرائم شرف، هتك عرض، ومخدّرات. لا يبدو أن أيّهم قد امتلك موهبة رؤية نفسهِ من فوق، والضَّحك عليها.
كان الأمر أشبه بإهدارِ نكتة.
فُتحت بوابات زنازين الانفرادي والعنابر العمومية، وصارَ النزلاء يتدافعون كالمجذوبين والبهاليل. العقلاء منهم، وهم قِلّة، أرادوا التحقّقَ من تفريغ العنابر؛ من أنهم لم ينسوا أحدًا. بعض المرويات غير المحقَّقة تقول بأنّهم نسوا واحدًا، وُجِدَ بعد أسبوع، ميتًا من الجوع، قابضًا على القضبان بأصابع متيبّسة.
الذين حازوا خبرةً في الأعمال الإرهابية، مثل صِناعة المتفجرات واختطاف الطائرات، كانوا الأكثر نفعًا؛ إذ بدأوا من فورهم عملية البحث عن طريقة لتفجير البوابة الخارجية.
لا أحد يعرفُ ما حدث بالضبط. حتى السَّجين الذي تعنينا حكايته هنا، وليكُن اسمُه نوّاف، لا يعرفُ كيف حدث ما حدث.
يقتضي التَّسلسل المنطقي للأحداث الآتي؛ تبدأ أجهزة المذياع في ترديدِ أخبارٍ لا تُصدّق عن سُقوط البلاد تحت الاحتلال، فاحتشادُ الجيش العراقيّ على الحدود لأيام لم يكن مؤشرًا كافيًا، وهو ما يبدو أيضًا مثل نكتة مفخّخة بالمفارقات التي لن يضحك عليها أحد. لكن الاحتلال وقع فعلًا، وصارَ السُّجناء يضربون على القُضبان بالأيدي والأحذية وقدور الطبخ. دوّت في أروقةِ السِّجن صرخاتهم؛ هديرٌ يتصاعد موجةً بعد موجة. آخر من بقي من الحرس، وقبل أن يغادر ويترك السجنَ لمصيرهِ، يسلِّمُ المفاتيح إلى أحد النزلاء ثم يختفي. لا أحد يريد تحمّل مسؤولية إطلاق مجرمين - غاصبين، قتلة، وتجار مخدراتٍ - إلى الشوارع..
عندما تصاعَد الضجيج، وكان في أوَّله، كان نواف يحاولُ أن ينام.
غدًا يتمُّ عامه الأوّل في السِّجن. وقد بدت لهُ الذاكرة مثل حقلِ ألغام، وكان كل ما يريدُه هو أن يوقفَ عقله عن قصفهِ بالذكريات. لقد صار يعرفُ، منذ سنةٍ على الأقل، أن للذكريات صوتَ الضُّباحِ وحدّة السّكاكين. ورأى صورًا تبرق بين تلافيف دماغه؛ لجٌّ وظلام. سمع جؤارًا ينبثق من أغواره وانتابته رغبة في الأنين. تاقَ إلى أن تلمسهُ يدٌ ما، في الجانب الأيسر من صدرهِ، حيث الهاوية. ثمَّ قرّرَ أن ينام يومًا كاملًا، وإذا استيقظ.. ستكون تلك الذكرى قد صارت وراءه مرة أخرى، بينه وبينها سنة كاملة.
لكن شيئًا من هذا لم يحدث.
كانت البطانية التي التفَّ بها مشبّعةً برائحة السَّجائر، وخمِّ العرق، والنفثالين. تأفّفَ من السُّجناء الهوج الذين لا يكفُّون عن التَّعارك. هذه على الأرجح مُشاجرة أخرى بسبب وسادة أو بطارية. لكنَّ الضَّجيج تصاعَد؛ والأصوات احتدّت وتدبّبت، ثم تقوّست في نداءاتٍ للحرس، وسمع أصواتًا تردّدُ كلمة «الكويت» ولم يفهم.. ثمّ سُمع ذلك الصوت الذي لا تخطئهُ أذن سجين؛ جلجلةُ فتح بواباتٍ العنابر، ولم يحدث مرّة واحدة، بل في مُتتالية صوتية ملأت جسده بنشوةٍ شبه جنسية، حتى وجدَ نفسه يثبُ من سريره، ليقفَ مع الحشدِ أمام البوابة، وإذا بالبوابة تفتح..
تدافع السجناءُ إلى السَّاحة الخارجية، وأحسَّ نواف بأنّه مجذوبٌ إلى ما لا يدري. جرفه دردورُ الأجسادِ التي سار بينها حافيًا، نعله المطاطية تحت إبطه، شاخصًا بعينيه، ولوهلةٍ أحسَّ بأنَّ الألم الرَّابض على صدرهِ قد اختفى.
عندما داست قدمه ترابَ الخارج، ولمسَ ببشرته هواء الفجر، ورأى السَّماء ليلكية إلا قليلًا، والقمر الأحدب آيلٌ للاختفاء، أحسَّ بلذةٍ تعتريهِ، وعرف بأنه لم يرَ عتمة ولا قمرًا لعام كامل. وكأنه قد حُكم عليهِ بأن يرى الأشياء في سُطوعها الذي لا يُحتمل. وفي حين كان السُّجناء يتراكضون مثل صراصيرٍ أفلتتْ من قنّينة حبّال، تسمَّر مكانه مثل وتدٍ، يبتسم على نحوٍ غامض، وهو يرمقُ أبراج المراقبة الخالية من الحرس، ويرى رتلًا من النزلاء يحملون أسطوانات غازٍ من مطبخ السِّجن إلى البوابة الخارجية.
ثمَّ سمع صرخات، وتردّدت في الفضاء أسماء؛ «إلياس»، «صعب»، «عاشور» و «أبو محمد!». ورأى النزلاء الواقفين عند البوابة يركضون بعيدًا، ثم انبطحوا على الأرض.
تصرّف جسده تلقائيًا، قبل حتى أن يفهم عقله ما هو وشيك الحدوث. تمدَّد على بطنهِ واضعًا كفّيه على رأسه، وسدَّ أذنيه براحتيه، ثمّ دوّى في سماواتِ العالم صوتُ انفجار.
عندما رفع رأسه، مرة ثانية، كانت البوابة قد فُتحت، وكان السُّجناء قد بدؤوا الرَّكض في الشوارع، وكان نواف يبتسم، وكأنه الوحيد الذي فهم النكتة..