الحدث الثقافي
صدر حديثاً عن دار الآداب ترجمة للأجزاء الثالثة لرواية هاروكي موراكامي "يوميات طائر الزنبرك". وتقدم الرواية الكثير من النقد الإنساني والوجودي للحرب العالمية الثانية وللحياة البشرية في زمن العولمة. فالدور المرعب الذي قامت به الإمبراطورية اليابانية في هذه الحرب وما سبقه من فظاعات (حين احتلت الصين وبلدان أخرى كما الاتحاد السوفياتي زمن ستالين وغيرها من الإمبراطوريات) يمثلان الخلفية التاريخية شبه الموثقة بمراجع أوردها المؤلف في نهاية العمل، محاولاً فهم حال البشرية (كما الإنسان الفرد) في الضياع الذي تعيشه وفقدان التوازن النفسي والاجتماعي.
كما أن التهديد الوجودي الذي استمر، وتفاقُم هذه الفظائع التي لم تتوقف حتى اللحظة من غير محاسبة، هما الثيمة التي تتجسد على مدار الأجزاء الثلاثة لرواية "يوميات طائر الزنبرك".
يستعير موراكامي أصوات شخصياته الروائية ليندد عبر شخصية العمل الرئيسة "تورو أوكادا" لكن على لسان شخصية أخرى (الملازم هوندا العراف) بالفظائع عبر استرجاع معركة "نومونهان" بين الجيش السوفياتي مع الجيش الياباني على الحدود بين منشوريا و منغوليا الخارجية. وكذلك محطات تاريخية عديدة في التاريخ يفردها عبر الغوص في التفاصيل العسكرية لمعارك عدة تطفو فيها إلى سطح السرد الروائي، لحظات فريدة من التمزق الإنساني كما يعيشه المنخرطون في تلك المعارك. بل يظلون يعيشونه في ذاكرتهم التي تطل برأسها ما بين حين في حياة عديد من الشخصيات كما الملازم هوندا وصديقه الملازم ماميا. ولكن ليس على شكل تساؤلات وجودية يتحتم طرحها، بل على شكل أزمات تعيشها الشخصيات بأبعاد مختلفة. و بينها "تورو" الشخصية "الراوية" و"المتكلمة" التي يجسد عبرها موراكامي العجز المطلق للإنسان الفرد في زمن العولمة.
وفي سياق سرد بسيط وسهل ممتنع، ممزوج بالواقعية السحرية الساخرة، يقحم فيه هاروكي موراكامي الإحالات التاريخية، وقصصاً قصيرة، كما التقرير الصحافي والخبر المتلفز وغرف الدردشة عبر الإنترنت، كتوليفة بارعة للحبكة السردية ال على التقليد. ويأتي عنوان الرواية "يوميات طائر الزنبرك" في الجزء الأول من العمل، ربما ليكون البوصلة التقنية للعمل السردي كما للثيمة نفسها. فحين تسأل المراهقة "مايو" الشخصية الرئيسة "تورو" عن لقب يمكن أن يكون مؤثراً أكثر من، يختار أن يلقب بـ"طائر الزنبرك". أما لماذا طائر الزنبرك، فيقول، "الطائر الذي يلف الزنبرك. كل صباح. على قمم الأشجار. يلف زنبرك العالم. هكذا، كرييييك". هنا يلعب موراكامي على معيار الزمن الذي هو نفسه "أينما كان" أو ما يصطلح تسميته الزمكان في إحالة لزمن العولمة الذي نعيش فيه. فهو "الطائر الذي يأتيه كل يوم إلى بيته، ويصيح من على شجرة الجيران بصوت الزنبرك "كرييك. من غير أن يراه أحد قط".