السبت  21 كانون الأول 2024

عجوز ضاعت أحلامه.. قصة قصيرة لـ رولا عبيد

2022-02-13 10:06:07 AM
عجوز ضاعت أحلامه.. قصة قصيرة لـ رولا عبيد
تعبيرية

الحدث- أدب

فيما يلي قصة قصيرة للقاصة السورية المقيمة في مصر رولا عبيد.


أثار براز الكلب على السلم الرخامي الأبيض في مدخل عمارة قديمة وعريقة حفيظة سكان العمارة وفجر طاقة غضبهم المكتوم. فأخذوا يتبادلون الاتهامات والشتائم على جروب الواتس آب الخاص بهم. فلم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتبرز فيها كلب على درجات السلم ويثير اشمئزازهم. ففي الآونة الأخيرة تكرر هذا كثيرًا. أحيانًا على عتبات شققهم وأحيانًا أخرى داخل المصعد. ولأن هناك كلبين في العمارة لا غير، أحدهما لساكن في الدور السادس يدعى الباشمهندس عبد العظيم، والآخر لشابة تسكن مع جدتها في الدور الثاني تدعى تهاني، فكان من الصعب معرفة براز أي كلب فيهما. فالباشمهندس عبد العظيم نفى نفيًا قاطعًا أن يكون لكلبه أي علاقة بهذا، ومن جانبها نفت تهاني أن يكون لكلبها علاقة بالموضوع. وكتبت جدتها تفيدة هانم مدافعة عنها وعن كلبها في رسالة على الواتس آب أن تهاني تأخذ كلبها صباحًا ومساءً من كل يوم في نزهة لقضاء حاجته. وأكد على كلامها الأستاذ عاصم الشاعر الرقيق الذي يسكن في الدور الأرضي ويطل شباكه على الشارع. فإذًا لا بد أن يكون هذا براز كلب الدور السادس. وما إن قرأ الباشمهندس عبد العظيم هذه الرسالة حتى رد برسالة أخرى مستشهدًا بالآية القرآنية: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين".
وعاتبهم على استخدامهم لفظ "كلب الدور السادس" لأنه لا يليق بأخلاقهم وبعشرة العمر التي تعود إلى خمسينيات القرن الماضي. فبعض السكان من الجيل القديم الذي ما زال على قيد الحياة. والبعض الآخر ورثوا عن عائلاتهم الشقق مثل أبنائهم وأحفادهم. فردوا عليه برسالة اعتذار. بعد ذلك أخذت الرسائل تتلاحق، فساكن يقول:
- مصيرنا نلاقي طريقة ونعرف هو مين.
وآخر يعلق:
- طيب وعرفنا.. إيه اللي بإيدنا نعمله؟
ويتدخل ساكن آخر ويقول:
- نخليه على الأقل يشيل وسخ كلبه بنفسه وإن كررها نطلب منه يمشيه.
ويستشيط غضب الباشمهندس ويهدد السكان قائلًا:
- طيب إيه رأيكم بقى إن اللي هيقرب من كلبي هافرمه فرم.
وترد تفيدة هانم:
- حضرتك واخد الموضوع شخصي ليه؟
وتجيبها دولت هانم:
- ما هو اللي على رأسو بطحة يحسس عليها.
وهكذا احتدت المناقشة من جديد إلى أن تدخل أمين صندوق العمارة وكتب رسالة ذكرهم فيه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- خيرُ الأصحابِ عِندَ الله خيرُهُم لصاحِبه، وخيرُ الجيرانِ عِند الله خيرُهُم أجار.
فصلوا على النبي وهدأت النفوس مجدَّدًا.
وفجأة دخل الأستاذ الجامعي المتقاعد د.محمود عبد المقصود على الجروب وأدلى بدلوه. فاقترح تركيب كاميرات مراقبة في مدخل العمارة والمصعد. وفي الحقيقة لم يكن اقتراحه جديدًا. فمنذ مدة وهو يقوم بزيارات مكوكية للسكان لإقناعهم بتركيب كاميرات مراقبة، لكن السكان كانوا يرفضون اقتراحه. وفي الواقع لم يكن هناك أي سبب مقنع لرفض اقتراح تركيب كاميرات مراقبة إلا لأنه جاء من الدكتور محمود عبد المقصود. فكما يقول المثل "اللي اتلسع من الشوربة ينفخ في الزبادي". فلم يفق السكان بعد من المصيبة التي ابتلى فيها العمارة عندما كان أمينًا على الصندوق.
فذات يوم استيقظ سكان العمارة ليجدوا امرأة اسمها أحلام تطرق أبواب شققهم وتخبرهم أنها ابنة البواب الأسبق. وأنها ولدت في هذه العمارة. وأنها انتقلت للعيش في البدروم مع أبنائها الثلاثة. ثم أخذت تعرض عليهم خدماتها. وعندما سألوا عم حسين عمن أتى بها، أخبرهم أنه عاد من إجازته وفوجىء بها وقد كسرت قفلي غرفتين في البدروم واستولت عليهما بالأمر الواقع. فطالبوا د.محمود عبد المقصود بالتدخل فورًا وطردها من البدروم. لكنهم فوجئوا به يدافع عنها. وأخبرهم أن والدها البواب الأسبق كان رجلًا طيبًا. وأنه يعرفها منذ أن كانت طفلة تلعب في المدخل. وأنها انفصلت عن زوجها البلطجي مؤخرًا. ورفض أخوها بواب العمارة الأخرى على ناصية الشارع استقبالها مع أولادها وهي لا تستطيع التخلي عنهم فلم يكن أمامها إلا هذه الطريقة. وأعلن أنه سيتبناها وسيتولى شؤونها ما دام حيًّا. وعندما حاولوا بعد ذلك طردها بقوة القانون أظهرت لهم عقد إيجار رسمي. وسرعان ما سرت شائعة بين السكان عن زواجه من أحلام عرفيًّا بعد أن تركت زوجته الشقة وانتقلت للعيش مع ابنتها. وعلى الرغم من أنه كذب شائعة ارتباطه بها مرددًا الآية القرآنية الكريمة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين".
وأصر على أنه يعتبرها بمثابة ابنته وأنه مسؤول عنها إلى أن "يفتكره ربه". إلا أن تصرفاته كانت تشي بعكس ذلك. فمرة يرسلها إلى عيادة طبيب من سكان العمارة ويطلب منه إجراء فحوصات كاملة لها في المستشفى الذي يعمل به لأن معدتها تؤلمها. ومرة يزور الأستاذ عاصم لمناقشة مشكلة مواسير المنور المهترئة التي تحتاج إلى استبدال وفجأة يغير مجرى الحديث إلى أحلام ويبث له قلقه عليها. فيخبره بأنه عندما اتصل بها في الصباح وجد صوتها خافتًا ومرهقًا إلى درجة أنه طلب منها أن تذهب وتجري فحصًا لمعاينة مستوى السكر في الدم فربما كانت مصابة بمرض السكر دون علمها. وبعد قليل يعرض عليه خدماتها من تنظيف وشراء حاجيات. ثم يسأله فجأة إن كان يعرف أن لها أختًا توأمًا؟ فيرد عليه الأستاذ عاصم بهدوئه المعتاد:
- لا والله.
فيجيبه بحماس:
- لو رأيتهما في الشارع تمشيان لن تفرق بينهما.
ويسترسل في وصف طولهما الفارع وعرضهما وقوة بنيتهما الجسدية. ثم يشتكي له من أبنائها. فابنها الكبير يقضي معظم وقته نائمًا وكلما وجد له عملًا يداوم عليه عدة أيام ثم يتوقف. أما ولداها الآخران فمهما حاول مساعدتهما في الدراسة فلا فائدة ترجى منهما. ثم أخذ يصف له كيف تعاقب أولادها عند تقصيرهم في الدراسة: تقف على الكنبة وبيدها كرباج توقعهم به ضربًا. امرأة شديدة البأس تستطيع أن تعتمد عليها صدقني. وأخذ يخبره أنه في حال تعرض لأي مكروه، مهما كان نوعه، فرضًا لو حاول أحد السطو على شقته، فما عليه إلا أن يصرخ من طرقة المنور، يا أحلام، وستكون أحلام أمام باب الشقة وهي تمسك المجرم من "زمارة رقبته".
لكن الأستاذ عاصم لم يكن متعاطفًا معها على الإطلاق، خاصة بعد أن طرقت بابه في أحد الأيام وطلبت منه بحدة أن يتوقف عن وضع الطعام للقطط لأنها لا تريد قططًا في العمارة، فهي تتبول في المنور وتتصارع على السلالم الخلفية مصدرة أصواتًا مزعجة. وعلى الرغم من أنه تجاهل الأمر إلا أنه لاحظ أن القطط بدأت تختفي. وساورته الشكوك في أنها كانت تدس السم لها في الطعام. كما كان صوتها الأجش العالي ليل نهار وهي تصرخ في وجه أبنائها يضرب على أعصابه. وأصوات أبنائها وهم يتقاذفون السباب بألفاظ خادشة للحياء يثير اشمئزازه. هذا بالإضافة إلى شغلهم المدخل الرخامي الواسع بلعبهم بالاسكوتر وما تصدره من أصوات مزعجة وإرباك للمارة خاصة من كبار السن. كما شعر السكان باستياء شديد منها عندما حاولت قطع عيش الزبال المسكين الذي أمضى عمره في خدمة العمارة. وأخبرتهم أنه رجل "معفن" لا يفقه في النظافة. وأخذت تجمع القمامة بدلًا عنه. وبدأت تنظف طرقات المطابخ المطلة على المنور دون إذن منهم. ولم تتوقف إلا بعد أن تجاهلوها ولم يعرضوا عليها أي مقابل مادي. أما عم حسين فقد كان لها بالمرصاد. فما إن يراها تطرق باب أحدهم وتعرض عليه شراء حاجياته حتى تجده يقف وراءها يراقبها. وما إن تغيب حتى يطرق باب الساكن من جديد ويحذره من التعامل معها.
- إياك.. ست مش كويسة أبدًا.
ولم يكن يحتاج إلى شرح عبارته الغامضة تلك، فالكل بات يعرف ماذا يقصد بكلامه. خاصة بعد أن سرت شائعة بين السكان بأن زوجة د.محمود عبد المقصود كانت قد أطلعت عم حسين على صورة من العقد العرفي قبل أن تترك الشقة.
وكان آخر شيء أثار غضب السكان الشديد منها هو تلك الزينة التي علقتها في مدخل العمارة بمناسبة حلول شهر رمضان. فعندما رأتها دولت هانم سألتها بحدة:
- من سمح لك بتزيين المدخل؟
فأجابتها وهي تضحك:
- أنا "أصلي بحب الفرفشة".
فردت عليها دولت هانم بوجه صارم:
- طيب من فضلك نزليها، إحنا مش في حارة بلدي هنا.
بعد مناقشة طويلة بين سكان العمارة، اقتنع بعضهم بضرورة تركيب كاميرات المراقبة. ووجدوا فيها نوعًا من الردع لمن تسول له نفسه السطو على الشقق أو توسيخ العمارة. أما البعض الآخر فقد رأى فيها انتهاكًا للخصوصية العامة. فالأستاذ عاصم الذي يسكن في الدور الأول كان قلقًا من أن تكشف الكاميرا وجه السيدة التي كانت تتردد عليه. أما المحامي عزت الأمير فقد كان قلقًا بسبب الاجتماعات التي كان يعقدها دوريًّا لرموز المعارضة. ودولت هانم ومفيدة هانم وتهاني كن قلقات بشأن مؤخراتهن. فماذا لو تلصص الأرمل العجوز الذي يسكن في الدور السابع على مؤخراتهن كما كان يفعل عندما كانت إحداهن تمشي في الشارع وتلتفت وراءها لتجده يتبعها. وماذا عن الشاب الأعزب الذي ورث الشقة عن جده وجدته في الدور السادس وهدده جاره ذو الميول الأصولية بإحضار شرطة الآداب إذا عاد واستقبل أي سيدة في شقته. كما أثار تركيب الكاميرات أسئلة مهمة أخرى. فمن هو الشخص الذي سيضعون ثقتهم فيه لتفريغ المحتوى والاطلاع عليه؟
وفي النهاية أجمع أغلبية السكان على تركيب كاميرات المراقبة. ولكنهم وضعوا شرطًا واحدًا وهو ألا يطلع أحد على المضمون إلا الأستاذ عاصم الشاعر الرقيق وأمين الصندوق الجديد عند الضرورة فقط.
وهكذا بدلًا من أن تعلو الفرحة وجه د.محمود عبد المقصود، جلس بينهم متكدرًا. فقد خاب أمله من وراء تركيب الكاميرات. فكل غرضه كان التلصص على الداخل والخارج إلى البدروم بعد أن رأى أحلام تقف عند البقال أسفل العمارة تثرثر مع الشاب الذي يعمل في توصيل الطلبات إلى المنازل، وسمع قهقهاتها المجلجلة تشق فضاء الشارع، فثارت غيرته عليها ولم يعد يغفو له جفن وهو يتخيل الشاب يتسلل إلى غرفتها في البدروم ليلًا، وأحلام تفتح له الباب وتأخذه بين ذراعيها وتنهال عليه بقبلاتها الحارة.