الحدث الثقافي- عبد الله أبو حسان
قبل ثلاثة عشر عاماً، وفي مثل تاريخ يومنا هذا 18 شباط من عام 2009، رحل عن عالمنا الأديب السوداني الذي لقب بـ "عبقري الرواية العربية" الطيب صالح. الذي عرفناه من خلال روايته العبقرية "موسم الهجرة إلى الشمال".
ولد الأديب الطيب صالح في 12 يوليو العام 1929، في إقليم مروي شمالي السودان بقرية كَرْمَكوْل بالقرب من قرية دبة الفقراء وهي إحدى قرى قبيلة الركابية التي ينتسب إليها، وتُوفي في إحدى مستشفيات العاصمة البريطانية لندن التي أقام فيها في ليلة الأربعاء 18فبراير 2009، عاش مطلع حياته وطفولته في إقليم مروي. ثم نتقل إلى ولاية الخرطوم لإكمال دراسته.
موسم الهجرة إلى الشمال
كتب الطيب صالح العديد من الروايات المهمة التي ترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة من بينها «عرس الزين» و«مريود» و«ضو البيت» و«دومة ود حامد» و«منسى». إلا أن رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" تُعتبر الرواية الأهم في مساره الروائي حيث أعتبرت واحدة من أفضل 100 رواية في العالم وحازت على العديد من الجوائز.
نُشرت رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" لأول مرة في أواخر الستينات من القرن العشرين في بيروت، بداية في مجلة حوار لصاحبها الشاعر الفلسطيني توفيق صايغ (ع 5-6، ص 5-87) في أيلول/سبتمبر 1966، ثم نشرت بعد ذلك في كتاب مستقل عن دار العودة في بيروت في نفس العام.
ألف صالح الرواية بعد استقلال السودان عن الاحتلال البريطاني بحوالى عشر سنوات، لتصبح واحدة من دعائم الكتابة الروائية في مرحلة ما بعد الاستعمار، يحكي صالح من خلالها قصة إرث الاحتلال الثقيل الذي خلفه المحتل الغربي في دول الشرق، والذي تعدّى الأثر المادي إلى النفسي والحضاري على نحو مستمر حتى اليوم، ولا سيّما مع التردي الكبير الذي يشهده واقعنا العربي وهجرة الآلاف أو نزوحهم إلى ما كانت في الماضي القريب دولَ الاحتلال، وتدخل اليوم كطرف مباشر أو غير مباشر فيما آلت إليه أوضاع دولنا في المشرق العربي.
تحكي الرّواية قصّة شاب سوداني أصيل يدعى "مصطفى سعيد"، ساقته الأقدار لينتقل إلى العيش في مدينة الضباب؛ لندن، بغرض الدراسة، وهو مثقل بالمبادئ والقيم التي استلهمها واستمدّها من البيئة القروية البسيطة التي نشأ وترعرع فيها، ليكتشف وجود هوّة كبيرة جداً بين الوسط الذي عاش فيه والمدينة التي تضجّ بالحياة والسلوكيات الأخلاقية والثّقافية التي تختلف كلياً عمّا هو سائد في قرية مصطفى سعيد. تفوّق في دراسته، وخاض مغامرات مريرة، وغاص في تجارب كثيرة مع فتيات إنكليزيات.
اقتباسات من الرواية: نحن بمقاييس العالم الصناعي الأوروبي، فلاحون فقراء، و لكنني حينَ أعانقُ جدي أحسُّ بالغنى، كأنني نغمة من دقاتِ قلب الكون نفسه .
”مصطفى سعيد“، البطل الرئيسي في الرواية، عبقري حاد الذكاء، يقتحم الغرب في عاصمته الأشهر لندن، كأنه الغازي الذي يثأر وينتقم، مسكوناً بتاريخ موجع من القهر والاستغلال الذي يطول قامته، يتخذ من النساء الانجليزيات قلاعاً وحصوناً يغزوها، حتى يصطدم بامرأة ذات خصوصية تدعى ”جين مورس“، تنتقل به من ساحات الانتصارات المدوية المتتالية إلى هاوية التراجع والدفاع والانكسار، وصولاً الى الهزيمة والقتل والسجن، ثم العودة إلى النبع والجذور، بحثاً عن صفاء الروح واستقرار الجسد.
اقتباسات من الرواية: الرجل الأبيض لمجرد أنه حكمنا في حقبة من تاريخنا، سيظل أمداً طويلاً يحس نحونا بإحساس الاحتقار الذي يحسه القوي تجاه الضعيف .
ثمة أسئلة كثيرة تطرحها الرواية، فهي تقر وتعترف بالتسليم بأن الحياة ليست إلا مجموعة من الثنائيات التي تتجاوز الصراع بين الشرق والغرب، حيث تتوقف أمام معاناة الفقراء والبسطاء في زمني الاحتلال والاستقلال، وهيمنة القيم الذكورية التي لاتمنح المرأة حقوقاً تليق بإنسانيتها، فضلاً عن أزمة التحديث المادي الميسور نسبياً، في مواجهة التعثر الذي تتسم به عملية التغيير المعرفي المتعلق بالقيم والعادات الاجتماعية، والقيم الثقافية، التي تتحكم في ايقاع المجتمع الشرقي البطيء.
اقتباسات من الرواية: ها انتم الان تؤمنون بخرافات من نوع جديد، خرافة التصنيع، خرافة التأميم، الوحدة العربية، خرافة الوحدة الافريقية، انكم كالاطفال تؤمنون ان في جوف الارض كنزاً ستحصلون عليه بمعجزة و ستحلون جميع مشاكلكم و تقيمون فردوساً أوهام، احلام يقظة عن طريق الحقائق و الارقام و الاحصائيات يمكن أن تقبلوا واقعكم و تتعاشيوا معه و تحاولوا التغير في حدود طاقاتكم .
"موسم الهجرة إلى الشمال"، رواية إبداعية لاقت رواجًا واستحسانًا عالميًا لِما استطاع الطيب صالح من عرضه بشكل واقعي وحقيقي من أزمة العلاقة بين الشرق والغرب، ويتجلى ذلك مثلًا في حوار يدور بين منصور الشاب المثقف السوداني وريتشارد البريطاني، إذ يقول منصور: “لقد نقلتم إلينا مرض اقتصادكم الرأسمالي، ماذا أعطيتمونا أكثر من حفنة من الشركات الاستعمارية نزفت دماءنا ولا تزال؟
فيرد عليه ريتشارد: كل هذا يدل على أنكم لا تستطيعون الحياة بدوننا، كنتم تشكون من الاستعمار، ولما خرجنا خلقتم أسطورة الاستعمار المستتر، يبدو أن وجودنا بشكل واضح أو مستتر ضروري لكم كالماء والهواء..” ثم يضحك الاثنان دون أي ضغينة لدى أحدهما تجاه الآخر.
صراع الهوية وأزمة الانتماء وتشوّه البوصلة في الفكر والمعاملة وأسلوب الحياة أهم ما تعالجه هذه الرواية بأسلوبها سهل العبارة، غني المعاني، بعيد المدلول.
في نهاية حياته فضٌّل الأديب الطيب صالح، البقاء خارج السودان في منفاه الاختياري، بالعاصمة البريطانية لندن لعقود، معبراً عن رفضه للنظام الشمولي في البلاد، في مناسبات عديدة.