الحدث الثقافي
نشر موقع العالم Welt الألماني مقالاً للفيلسوف سلافوي جيجيك ترجمته إلى العربية سولارا شيحا *.
وفيما يلي ترجمة المقال:
علّقَ فلاديمير بوتين في مؤتمر صحافي، في السابع من شباط/فبراير 2022، على عدم رضى الحكومة الأوكرانية عن اتفاقية مينسك بالقول: «سواء أعجبكِ أم لا، إنه واجبكِ يا جميلتي» لهذا التعلّيق دلالات جنسية معروفة: يبدو أن بوتين يُشير إلى مقطع من أغنية «الجميلة النائمة في تابوت» لفرقة البانك روك السوفييتية «العفن الأحمر» Красная Плесень: «الجميلة النائمة في التابوت، تسللت إليها وضاجعتها. سواء أعجبكِ أم لم يُعجبكِ، نامي يا جميلتي».
وعلى الرغم من أن ممثل الكرملين الإعلامي زَعمَ أن التعبير ليس سوى مَثَل فولكلوري قديم، تبقى الإشارة واضحة إلى أوكرانيا، بوصفها موضوعاً لرغبة الاغتصاب ومُجامعة الموتى. وفي معرض ردّه مرّةً على سؤال صحافي غربي، في مؤتمر عُقد عام 2002، قال بوتين: «إن كنتَ تُريد أن تُصبح إسلامياً متطرّفاً، وكنت مستعدّاً للخضوع للختان، فأنا أدعوك إلى موسكو. نحن بلدٌ متعددة المذاهب، ولدينا أخصائيون في هذه المسألة (الختان) سأوصي بتنفيذ العملية، بحيث لا يُمكن لشيء أن ينمو بعدها». تهديد سوقي حقاً بالإخصاء.
وقفة البلطجي:
لا عجب في أن بوتين وترامب كانا رفيقين في السوقية والبذاءة. وكثيراً ما سمعنا الحجة المدافعة عن سلوكهما، والتي ترى أن السياسيين أمثالهما يتحدّثان بصراحة دون نفاق. هُنا يُمكنني القول، إني من صميم قلبي أقف في صفِّ النفاق! إذ أن الشكل (المتمثّل بالنفاق في هذه الحالة) ليس أبداً مجرّد شكل، وإنما هو جزء من المضمون، وعندما يَسقُط الشكل، يتشوّه معه المضمون بشدّة. تجب قراءة تعليق بوتين السّوقي على خلفية الأزمة الأوكرانية، التي يُشار لها في وسائل الإعلام لدينا على أنها تهديدٌ بـ»اغتصاب بلدٍ مسالم». لا تخلو هذه الأزمة من جوانبٍ كوميدية، الأمر الذي إن دلّ على شيء في عالمنا المقلوب، فهو يدل على مدى خطورتها. وقد أشارَ المحلل السياسي السلوفيني بوريس شيبيتج، مطلعَ العام الحالي، إلى الطابع الكوميدي للتوتّر المحيط بأوكرانيا: «ينفي المهاجِمون المُتوَقَّعون (أي روسيا) أيّ نيّة لديهم بالهجوم، ويصرُّ أولئك الذين يريدون تهدئة الوضع على أن الهجوم أمرٌ مؤكد الوقوع».
في الأسابيع القليلة الماضية حذَّرت الولايات المتحدة الأمريكية (حامية أوكرانيا) من إمكانية اندلاع الحرب في أي لحظة، في حين حذَّر الرئيس الأوكراني (الضحية المُحتَملة) من الهيستيريا، ودعا إلى الهدوء والتأنّي. من السهل تشبيه الوضع بالاغتصاب: تدّعي روسيا، الجاهزة لاغتصاب أوكرانيا، أنها لن تفعل، لكنّها بين السطور تهددُ بذلك، في حال رفضِ الأخيرة الجنس (فلنتذكر تعليق بوتين المبتذل) وفي الوقت ذاته تتهمُ روسيا أوكرانيا باستفزازها وإثارتها لتقوم باغتصابها. فيما تدق الولايات المتحدة، التي تريد حماية أوكرانيا، ناقوس الخطر، محذِّرةً من الاغتصاب الوشيك، حتى تتمكن من فرض نفسها مدافعة عن الدول المستقلة عن الاتحاد السوفييتي السابق. يُذكّرنا موقفها هذا ببلطجي يعرِضُ الحماية للمتاجر والمطاعم في منطقته ضد السرقة أو التخريب، مع تهديد مستتر بالأذى في حال رفضها. تحاول أوكرانيا المستهدفة بالتهديدات التزام الهدوء، تُقلِقها أيضاً أجراس الإنذار الأمريكية، مدركة أن الاهتياج والجلبة حول الاغتصاب المُفتَرَض قد يدفعان روسيا بالفعل لاقترافه.
عجزُ المُعتدي:
إذن ما الذي يَكمُن وراء هذا الصراع، في كل أخطاره التي لا يُمكن التنبؤ بها؟ ماذا لو أن خطورة الصراع ليست مؤشراً على النفوذ المتزايد للقوتين العُظميين السابقتين، وإنما على العكس، هي دليل على إنكارهما العنيد حقيقةَ أنهما لم تعودا قوى عالمية حقيقية. شَبّهَ ماو تسي تونغ، في ذروة الحرب الباردة، الولاياتَ المتحدة الأمريكية بكل أسلحتها وعتادها بنمرٍ من ورق، إلا أنه نسي أن يُضيف أن النمور الورقية قد تكون أكثر خطورة من تلك الحقيقية الواثقة من جبروتها.
لم يكن الفشل الذريع في الانسحاب من أفغانستان إلا أحدث لطمة في سلسلة لطمات تلقّاها تفوّق السيادة الأمريكية. وليست جهود روسيا لإعادة بناء الإمبراطورية السوفييتية سوى محاولة يائسة للتغطية على واقع ضعفها واضمحلالها. وكما الحال مع المُغتَصِبين الحقيقيين، يكون الاغتصاب دليل عجز المُعتدي. العجز الروسي جليٌّ الآن بعد بدء الاغتصاب، من خلال أول اختراق مباشر للجيش الروسي لأوكرانيا، هذا إن لم نُدخِل في الحسبان الدور القذر لمجموعة فاغنر، الشركة العسكرية الخاصة، التي شارك مقاولوها في نزاعات متعددة، منها الحرب الأهلية السورية، وشبه جزيرة القرم ووسط افريقيا وجمهورية صرب البوسنة. مجموعة جنود المرتزقة المجهولين هذه، التي تشكل ذراعاً طويلة لوزارة الدفاع الروسية، عندما يكون نفي المسؤولية ضرورياً، تعمل منذ سنوات في حوض دونباس، تنظِّم فيه المقاومة العفوية ضد أوكرانيا (كما فعلَتْ سابقاً في جزيرة القرم).
مبادئ ستالين:
الآن وبعد تفجّر الوضع، ناشد مجلس الدوما الروسي بوتين مباشرةً للاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين، الخاضعتين للنفوذ الروسي. ردُّ بوتين الأوّلي كان رفض الاعتراف باستقلالية الجمهوريتين سابقتي الذكر، ليبدو الأمر وكأن اعترافه اللاحق باستقلاليتهما ليس إلا استجابةً للضغط الشعبي، أي استجابةً لضغطٍ من الأسفل، وهو بذلك يتَّبِعُ النهج الذي نصّه ستالين ومارسه لعقود. في منتصف عشرينيات القرن الماضي، اقترح ستالين اتخاذ قرار يُعلِنُ ببساطة حكومةَ جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفييتية حكومةً للجمهوريات الخمس الأخرى أيضاً (أوكرانيا، بيلاروسيا، أذربيجان، أرمينيا وجورجيا). «في حال تمّت الموافقة على القرار من قبل اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، فلن يُعلَن أو يُنشَر، بل ستتم إحالته إلى اللجان المركزية للجمهوريات، لإحالته من قبلهم إلى أجهزة مجلس السوفييت الأعلى، أو إلى اللجنة التنفيذية المركزية، أو إلى مؤتمرات السوفييتات في الجمهوريات المذكورة، قبل انعقاد المؤتمر السوفييتي لعموم روسيا، الذي ستتم فيه الموافقة على القرار، بناءً على رغبة وطلب تلك الجمهوريات» أي أنه لم يتم إلغاء التفاعل بين السلطة العليا (اللجنة المركزية) وقاعدتها وحسب، بحيث تَفرِضُ السلطة العليا إرادتها ببساطة، بل لجعل الوضع أسوأ، تمَّ ترتيبه لإظهاره على نقيض حقيقته: تُقرِّرُ اللجنة المركزية مطالبَ قواعدها منها، وكأنها فعلاً رغبتهم. لنتذكر الترتيب الأبرز من هذا النوع: في عام 1939، عندما طَلَبت دولُ البلطيق الثلاث الانضمام إلى الاتحاد السوفييتي طواعيةً، ووافق الأخير على رغبتها. ما قام به ستالين في أوائل الثلاثينات كان مجرّد رجعة إلى السياسات الداخلية والخارجية للحكم القيصري السابق للثورة، وهكذا، على سبيل المثال، لم يعد الاستعمار الروسي لسيبيريا وآسيا المسلمة مُداناً باعتباره توسُّعاً إمبريالياً، وإنما محتفىً به، باعتباره فاتحة للتحديث التقدّمي.
عقدَ بوتين، بطريقةٍ مشابهة، مجلسَ الأمن الخاص به، سأل فيه كبار المسؤولين إن كانوا مؤيدين لقرار الاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك. عندما حان دور رئيس الاستخبارات سيرجي ناريشكين، ويمكن مشاهدة المقطع على يوتيوب، اقترحَ في البداية إعطاء الغرب فرصة أخيرة لاحترام اتفاقيات مينسك، عبر توجيه إنذارٍ أخير له.
قاطعه بوتين بجفاف: «ماذا تقصد؟ هل تريد بدء مفاوضات أم الاعتراف بالاستقلال؟». بدأ عندها ناريشكين بالتلعثم، دون أن يعرف ما يجب قوله، تمتَمَ بعدها: «نعم» ثم «لا» وشَحبَ وجههُ لثوانٍ، بدت وكأنها دامت دهراً. يتدخل بوتين: «تكلّم بوضوح». يقوم رئيس الاستخبارات، شاعراً بالضغط، بعكس المسار، ويذهب خطوة أبعد، مصرحاً بدعم قرار ضم دونيتسك ولوغانسك إلى روسيا الاتحادية! يقاطعه بوتين مرة أخرى: «نحن لا نتحدث عن ذلك. نحن نناقش الاعتراف باستقلالهما». يتراجع ناريشكين القلق عن تصريحه، ويدعم الاعتراف بالاستقلال، وعندها يشكرهُ بوتين: «شكراً، يمكنك الجلوس مجدداً».
على الرغم من مناشدة الحزب الشيوعي الروسي، في كانون الثاني/يناير 2022، بوتين بالاعتراف بالمنطقتين (الأمر الذي رفضَه الأخير، مُمَثِّلاً دور رجل قانون صبور) من المهم جداً أن ننتبه إلى أن الغزو الجاري للدونباس يُشكِّلُ الرفض الأخير والقاطع للإرث اللينيني في روسيا. المرّة الأخيرة التي احتلَّ فيها لينين عناوين الصُّحُف الغربية كانت أثناء الانتفاضة الأوكرانية عام 2014، التي أطاحت بالرئيس يانوكوفيتش الموالي لروسيا. شاهدنا على شاشات التلفزيون أمواج المتظاهرين الغاضبين في كييف يُسقطون تماثيل لينين. يسهل فهم دوافع هذه الهجمات الغاضبة، في حال قُرِأت تماثيل لينين بوصفها رمزاً للقمع السوفييتي، وروسيا بوتين على أنها استمرار للسياسة السوفييتية، التي أخضَعت تحت حكمها الدول غير الروسية.
المُذنب هو لينين:
إلا أنها لمفارقة كبيرة فعلاً أن الأوكرانيين، تعبيراً عن رغبتهم بتحقيق سيادتهم الوطنية، أسقطوا تماثيل لينين، فالعصر الذهبي للهوية الوطنية الأوكرانية لم يكن روسيا القيصرية (وقتها تم إحباط الإرادة الذاتية للأمة الأوكرانية) وإنما كان أثناء العقد الأول للاتحاد السوفييتي، حين أسس الأوكرانيون هويةً وطنية كاملةً، بعد اتباع الاتحاد سياسة «التوطين/التجذير» (Korenisazija)التي أرادت تجنّب نفورَ الشعوبِ غير الروسية في الاتحاد السوفييتي من المُثُل الشيوعية». وصاغ لينين مبادئ سياسة التوطين مطلع عام 1916 بشكلٍ لا لبس فيه: «لا يَسَعُ البروليتاريا إلا أن تكافح ضد الاستبقاء القسري للأمم المضطهَدة ضمن حدود دولة معيّنة، وهذا بالضبط ما يعنيه النضال في سبيل حق تقرير المصير. على البروليتاريا المطالبة بحق الانفصال السياسي للمستعمرات والشُّعوب الواقعة تحت اضطهاد دولتها نفسها. إن لم تقم بذلك، ستبقى الأممية البروليتارية شعاراً فارغاً، إذ سيكون من المستحيل بناء ثقة متبادلة وتضامن طبقي بين عُمَّال الأمم المُضطهِدة والمُضطهَدة». بقي لينين مُخلصاً لهذا الموقف حتى النهاية: في نضاله الأخير ضد مشروع ستالين الهادف لإقامة اتحاد سوفييتي مركزي، دافعَ مرَّةً أخرى عن الحق غير المشروط للدول الصغيرة في الانفصال (جورجيا في هذه الحالة) وأصرَّ على السيادة الكاملة للكيانات الوطنية، التي شكَّلت بمجموعها الدولة السوفييتية. فلا عجب أن قام ستالين باتهام لينين علانيةً بـ»الليبرالية القومية» في رسالةٍ إلى أعضاء المكتب السياسي في 27 أيلول/سبتمبر عام 1922.
سياسة بوتين الخارجية هي استمرارٌ واضح لهذا الخط القيصري ـ الستاليني، فوفقاً لبوتين، جاء دور البلاشفة، بعد الثورة الروسية عام 1917، لمضايقة روسيا: «من الصواب الاسترشاد بأفكاركَ عندما تحكم، لكن فقط في حال أتت أفكارك بالنتائج الصحيحة. ولم تكن الحال كذلك مع فلاديمير أليتش. أدت فكرته هذه في النهاية لانهيار الاتحاد السوفييتي. كانت هنالك أفكار كثيرة من هذا النوع، من قبيل منح مناطق الحكم الذاتي وما شابه، وكانت بمثابة قنبلة ذرية، تم زرعها أسفل البناء المسمّى روسيا، وانفجرت لاحقاً».
«ما العمل؟»:
أي باختصار، لينين هو المُلام، فقد أخذَ على محمل الجد استقلالية الدول المختلفة، التي شكّلت الامبراطورية الروسية، وبالتّالي قوّضَ الهيمنة الروسية (حسب بوتين) لا عجب في أننا نرى صور ستالين من جديد في المسيرات العسكرية والاحتفالات العامة في روسيا اليوم، بينما يتم طمس لينين. في استطلاعٍ للرأي منذ بضع سنوات، تم اعتبار ستالين ثالثَ أعظم روسي في كل العصور، بينما لم نرَ أثراً للينين في اللائحة.
لا يتم الاحتفاء بستالين باعتباره شيوعياً، إنما باعتباره مُنعشَ عظمةِ روسيا بعد ضلال لينين غير الوطني. ولا عجب أيضاً في أن بوتين أثناء إعلانه التدخل العسكري في حوض دونباس في 20 فبراير2022، كرّرَ ادعاءه القديم بأن لينين، الذي اعتلى سدة الحكم بعد الإطاحة بعائلة القيصر رومانوف، هو مُنشئ ومُخترع أوكرانيا، مؤكداً: «دعونا نبدأ من حقيقة أن أوكرانيا المعاصرة تم إنشاؤها بالكامل من قبل روسيا، ولنكن أكثر دقة، تم بناؤها على يد روسيا الشيوعية البلشفية، بعد ثورة 1017مباشرةً».
هل يُمكن لبوتين أن يكون أكثر وضوحاً؟! جميع اليسارين، الميالين لروسيا حتى الآن من منطلق أنها تبقى، على الرغم من كل شيء، خليفة الاتحاد السوفييتي، والديمقراطيات الغربية مزيفة، وأن بوتين يعارض الإمبريالية الأمريكية، إلخ، يجب أن يواجهوا الحقيقة المرّة بأن بوتين ليس سوى قومي مُحافِظ. وروسيا لن تعودَ لأيام الحرب الباردة القديمة، ذات القوانين الثابتة، إنما ما يحدث أكثر جنوناً بكثير: ليست حرباً باردة وإنما سلامٌ ساخن، سلامٌ يرقى إلى حربٍ مستمرّة هجينة (هيبريدية) يتم فيها إعلان التدخلات العسكرية على أنها مهامٌ إنسانية لحفظ السلام، ودرء خطر الإبادة الجماعية: «يُعرب مجلس الدوما عن دعمه الكامل والواثق للتدابير المناسبة المتخذة لأسباب إنسانية».
كي نختتم بسؤال لينين: «ما العمل الآن؟» علينا جميعاً، نحن في البلدان التي تُشاهد مأساة اغتصاب أوكرانيا، إدراك أن الإخصاء الحقيقي هو الرادع الوحيد للاغتصاب. لذا علينا حث المجتمع الدولي على القيام بعملية إخصاء لروسيا (وإلى درجة ما للولايات المتحدة الأمريكية أيضاً) بتجاهلها وتهميشها قدر المستطاع، والحرص على تنفيذ عملية الإخصاء هذه، بحيث لا يمكنُ لنفوذ روسيا العالمي أن ينمو بعدها.
*سولارا شيحا : كاتبة ومترجمة سورية