الأحد  22 كانون الأول 2024

غاستون باشلار : شعرية الأجنحة(2/5)

ترجمة: سعيد بوخليط

2022-04-01 08:33:10 AM
غاستون باشلار : شعرية الأجنحة(2/5)

حينما نستعيد بعناية، مثلما يقترحه علينا الأفق الحُلُمي للتأملات الشاردة لدى ألفونس توسينيل، فلن نتفاجأ بأن أعماله تطوي مبحثا في علم الطيور متخيَّل بكيفية صرفة لكنه يشكل امتدادا لعلم الطيور الواقعي. لم يكتفِ الله بالنسبة لتوسنيل، على خلق طيور نابضة بالحياة وساخنة تحلِّق وسط زرقة السماء والسحاب. أيضا، خلق: "بالنسبة للمؤمنين به، أنماطا هوائية لـ الفناء، المَلاَك ثم السِّلْف (الكائن الخرافي)". وبما أنه وحده الأعلى بوسعه شرح الأدنى، فقد استخلص توسنيل تقريبا بكيفية واعية الطائر من السِّلْف.

يمكننا الإقرار- سمو الخيال! - بوجود طيور في الطبيعة نتيجة وجود فعلي بين طيات الهواء المتخيَّل، للكائن الخرافي المسمى بالسِّلْف وكذا أنثاه. في الواقع، بما أن الإبداع الحق يتأتى من نقاء الهواء، فيلزم الأخير خَلْق السِّلْف قبل الحمامة، الخالص جدا قبل الأكثر مادية. 

يعكس هذا التسلسل المنحدر من أرواح غاية كائنات مُجَسَّدة، حقيقة كبيرة فيما يتعلق بالتحليل النفسي للخيال. لم يلاحظ علماء النفس ذلك، ما داموا يخلطون في أغلب الأحيان عمليات الخيال مع المتعلقة بصياغة المفهوم، كما لو أنّ الصورة مجرد مفهوم بسيط فضفاض ومبهم. هكذا، يلوثون الصورة الأساسية للتحليق بالمفهوم العائد للطائر. لا يدركون، أنه بالنسبة لحالم، في خضم سيادة الخيال، يمحو التحليق الطائر، كما عملت واقعية التحليق على التحول بحقيقة الطائر إلى المرتبة الثانية. يتناولون إذن أطيافا هوائية، باعتبارها مجرد هذيانات خيالية، دون التساؤل قط لماذا يتوخى الخيال تأمل أطياف من خلال عنصر غير مرئي. من جهة أخرى، يبدو أن كل شيء يمنحها مبرِّرا بما فيها الحكايات!

حقا، تعتبر حكايات السِّلْف أقل عددا من روح العناصر المبدئية الأخرى. غير أنه عوز، يمثل بالنسبة إلينا، أبسط دليل على الندرة الواضحة للخيال الهوائي قياسا لخيال الماء، النار والأرض. لا يشكل هذا الاستنتاج مسوغا كي نحكم عليه بكونه أقل بناء. يلزم الخيال الهوائي، من خلال حتمية حميمة، أن يخلق ثانية أرواح الهواء.

يمكننا من جهة أخرى، تقديم أمثلة محددة جدا تظهر لنا اشتغال خيال الهواء وفق معنى تدرّج السِّلْف إلى طائر. نستحضر بهذا الخصوص، واقعة بدت لنا مفيدة جدا، لأنها ارتبطت بمناخ عقلاني رغم مرحها. فقد طرح الراهب الشارتيري فينول مارفيل Marville، خلال أمسية عند الفيزيائي الديكارتي جاك روهولت، فكرة فريدة مفادها بأن الأرواح الأولية التي تطوف في الكون، وتعيش بين ثنايا العناصر التأسيسية، أمكنها أن تأوي إلى جسد الطيور، الأسماك، الثدييات، حسب استعداد جوهرها. إنها تؤثر على أرواح الحيوانات وتبعث الحركة في الحيوانات/ الآلات: "يختبئ السِّلْف الحالم وسط آلة البومة، وكذا طائر الخبل أو بومة صمعاء؛ ثم على العكس من ذلك، فإن السِّلْف المتمتِّع بمزاج مرح ويعشق تغريد الأغنية الصغيرة، سينطوي داخل عندليب، أو طائر الهَازِجة وكذا عصفور الكناري" (1). يلتئم هنا فكر مختلق، مرح، حالم. نفرط كثيرا بخصوص تبخيس أهمية انعكاسها وكذا رهاناتها، التي تميز تحديدا تأثير الخيال على الذكاء، وكذا السخرية على الحياة الذهنية.

نتحسَّس عبر هذا التصميم الخفيف النظرية الصلبة للحيوانات/ الآلات؛ ويتجسَّد الاعتقاد المبهم بأرواح العناصر الأولية. يتسلى في الاتجاهين، بثنائية الأخوين العدوَّين: الحلم والنظرية. بعيدا عن تُرَّهات الصالون العلمي، تحلم في عزلة نفوس عاقلة بنفس الكيفية.

يذكرنا جول دوهيم، بأنّ بيير جاسندي أقر بخصوص تحليق الطيور بمفعول أساسي لسائل ثاقب. إذا حلق الطائر، فلأنه يتقاسم هواءً خفيفا. أتخيَّل طائرا، اسمه ستيلينو: ''يجتذبه كوكب عطارد صاعدا بالتالي نحو أعلى منطقة في الهواء متَوَلِّعا بذلك'' (أشار إليه جول دوهم، مبحث ''الكهرباء"). ينبغي أن نضفي على الانجذاب، كي نفهم جيدا هذا النص، ازدواجية المادي والروحي. يمثل ''ستيلينو'' تساميا حقيقيا للطائر. طائر خالص جدا حتى يفتتن  بالثقافات  الأكثر صفاء لمحيطنا الجوي ثم أن يصعد بتوجيه من قوة جوهره الخفيف.

لكن حلم نقاء الهواء، مؤثر جدا بالنسبة للخيالات الهوائية، بحيث يمكننا مباغتة هذا الحلم في خضم انعكاسات صور مادية عجيبة. طبعا، أذهل الدفء الداخلي للطائر ملاحظين كثيرين، بالتالي طرحوا قوة تحليق الطيور كقيمة لصالح النار الأصلية والخالصة، مؤكدين على أنّ الطائر يغادر الأرض كي يحيا عند نقاء الهواء المشمس. ثم هاهو الانعكاس الذي لم يتردد خيال كاتب إبان القرن الثامن عشر في سبيل تحقيقه: ''قوة مفعول النار التي تحرض تلك الطيور، يضفي نقاء على المكان الذي تعيش فيه، لأنه يبتلع الهواء الرديء. لذلك، يُنظر في الشرق إلى طائر  ميلانو الأسود، بهلوان هوائي استثنائي، باعتباره مُطَهِّرا للمحيط الجوي". كيف يمكننا البرهنة أفضل بأنَّ المفهوم الخلاّق للصور يكمن في مفهوم النقاء؟ تجعلنا انعكاسات من هذا القبيل على مستوى القيم، نستوعب بشكل جيد قضايا التسامي. نلاحظ هنا مباشرة فعل الخيال المادي للنقاء.

كيف بوسع علماء النفس وهم لا يحلمون تحديد حقائق نفسية لحياة مُتَخَيَّلة؟ يخشون دراسة تجليات الخَبَل، ثم يتوخون في نفس الوقت معرفة كيفية تشكُّل الصور! يريدون دراسة الصور الواقعية، بينما لا يهتمون بتلك الصور الحية التي تفرض نفسها ليلا أمام عيوننا المغمضة!

فيما يخصني، لست بعيدا عن الاعتقاد بأن التحليق ريح ساخنة قبل كونه جناحا. لا أستبعد دروس حالم يعتقد بأن طائر السِّلْف قد أرشده نحو معنى الطائر. بالنسبة للخيال الديناميكي، يتمثل الكائن الأول الذي يحلق من خلال الحلم في الحالم نفسه. إذا صاحبه أحد خلال تحليقه، فالأمر يتعلق أولا بجنسيْ السِّلْف، سحابة، ظِلال؛ إنه غشاوة، هيئة هوائية مغطاة، مُحْدِقة، سعيدة بأن تكون مبهمة، وتعيش عند تخوم المرئي واللامرئي.

لكي ترى تحليق الطيور جسدا وريشا، فيلزم استعادة سياق واضحة النهار، ومعه ثانية الأفكار الأساسية الجلية والمنطقية. لكن في خضم درجة أكبر من الوضوح، تُطمس أفكار النوم ويلزم القصيدة العثور عليها من جديد مثل ذكريات تحققت بعد ذلك. روح لا تنسى قط، ولا تغفل أبدا: يخلق الحلم، على منوال إله ألفونس توسينيل، الفكر المحلِّق قبل أن يخلق الطائر. 

إذا استدعى النقاء، والضوء، وكذا إشراق السماء، كائنات شفافة ذات أجنحة، فجراء انعكاس لا يتحقق سوى في إطار سيادة القيم، سيضفي نقاء الكائن نقاءً على العالم حيث يعيش، حينها سنفهم بأنَّ الجناح المتخيَّل يتلون بألوان السماء وبأن الأخيرة بمثابة عالم أجنحة. سنهمس مثل بوعز النائم (قصيدة فيكتور هيغو)، مع صوت الروح:

حتما، تحلق الملائكة  هناك بغموض، 

لأننا نرى أحيانا خلال الليل، أحيانا،

عبور شيء أزرق بَدَا جناحا. 

كلّ لاَزَوَرْد ديناميكي، كلّ لاَزَوَرْد غير جلي، بمثابة جناح. الطائر الأزرق، إنتاج لحركة هوائية. مثلما قال موريس ماترلينك (الطائر الأزرق، ص 241 )، ''يغير لونه حينما نضعه  داخل القفص''. 

إذا أنتج فعلا الضوء الناعم والحركة السعيدة، من خلال تأملات شاردة، حركة زرقاء، جناحا أزرق، طائرا أزرق، ففي المقابل سيتراكم شيء ما داكن وثقيل، حول صور طيور الليل. كذلك، يجسد الوطواط بالنسبة لخيالات عديدة، تحليقا سيئا، أبكم، أسود، وفي مرتبة أدنى. ثلاثية مضادة لثلاثية شيلي Shelley  حول الرنان/ الشفاف/  الخفيف. محكوم عليه، أن يقهر أجنحة، بحيث لايعرف الراحة الديناميكية للتحليق في الجو: "يقول عنه ميشلي (الطائر. ص 39)، نرى بأن الطبيعة تبحث عن جناح ولن تجد مرة أخرى سوى غِشاء مكسو بالشَّعَر، مقرف، أدى رغم ذلك الوظيفة سلفا''.

أنا طائر؛ انظروا إلى جناحيّ. 

"بيد أن الجناح لا يخلق طائرا''. يمثل الوطواط بالنسبة لعلم الكون المجنَّح عند فيكتور هيغو، كائنا ملعونا يشخِّص الإلحاد. يوجد عند أدنى السلم، أسفل من البوم، الغراب، العقاب، والنسر (فيكتور هيغو، الإله). لكننا لن نصادف سوى عَرَضا قضية موسوعة الطيور الرمزية، ولكي نعالج موضوعا من هذا النوع يلزمنا أن نقارب بتفصيل قضية الخيال المُحَيْوَن، بمعنى الخيال الديناميكي المُتَخصِّص في حركات الحيوانات، لسنا في حاجة هنا سوى أن نحدد بقوة الخط العمودي الذي يُثَمِّن على امتداده الخيال الديناميكي، الكائنات الحية. بهذا الخصوص، يصبح حدس توسنيل، مفيدا جدا.  

كتب توسنيل في كتابه حول الدواب (ص 340 ): ''يعتبر الوطواط أكبر المساهمين بخصوص تطعيم خيال الاعتقادات الساذجة البائدة، بأساطير خرافية تقريبا عن البراق، العنقاء، التنين، وكذا الخَيْمَر'' (2). لنلاحظ جيدا بأن تصور توسنيل الذي يستعيد حسّ منظور شارل فوريي، قد أتاح في نفس الوقت، التأكيد على خلق الإله للسِّلْف ويتهم بالسذاجة الأشخاص المضطربين الذين يتكلمون عن البراق وكذا الخَيْمَر. تناقض من هذا القبيل لا يلمس خيالا مُسْتقطَبا بشكل جلي للغاية صوب الأعلى كما الشأن مع توسنيل.

بالنسبة للخيال الهوائي الديناميكي جدا، كل ما يرتفع يستيقظ لدى الكائن ويشارك في الوجود. في المقابل، يتبدد كل ما ينحدر إلى مجرد ظلال بلا معنى، ويساهم في العدم.

يتحدد الكائن من خلال التقييم: هنا تكمن إحدى مبادئ الخيال الكبرى.                                                         

*هوامش : 

مصدر المقالة :

Gaston Bachelard :Lair et Les songes .Essai sur l imagination du mouvement(1943).pp 84 -89. 

(1) أورده فيكتور ديلابورت: المدهش في الأدب الفرنسي خلال حقبة لويس الرابع عشرة،1891،ص 124 .

 (2)  حَدّد بوفون الوطواط مثل "كائن متوحش"، و"تعكس حركته في الهواء نوعا من الرفرفة المتعثرة أكثر من كونها تحليقا،بحيث تبدو أنها لاتتحقق سوى بمشقة وعلى نحو أرعن''.