السبت  09 تشرين الثاني 2024

رحلتي بين القلم والميكروفون والكاميرا (الحلقة الأولى)/ بقلم: نبيل عمرو

2022-04-17 09:12:37 AM
رحلتي بين القلم والميكروفون والكاميرا (الحلقة الأولى)/ بقلم: نبيل عمرو
نبيل عمرو

تجربتي في مجال الإعلام بدأت من الصفر، سارت بشكل طبيعي ومنطقي ومتسلسل، انخرطت فيها متدرباً ثم كاتباً ثانوياً في الإذاعة. أما الصحافة المكتوبة فقد ذهبت إليها متأخراً بفعل استغراقي الكامل في العمل الإذاعي ثم السياسي والدبلوماسي.

تميز العمل في الثورة الفلسطينية بتجنب الاختصاص المهني، كان متاحاً لك أن تكون إعلامياً وسياسياً ودبلوماسياً وحتى عسكرياً في ذات الوقت، وكانت هناك قاعدة أقرب إلى القانون، مفادها أن الكادر العامل في صفوف الثورة، ينبغي أن يكون جاهزاً لأداء مهمات مختلفة، ولهذه القاعدة مزاياها ومساوئها، ومن يرجح واحدة على الأخرى أو يجيدها جميعاً هو الكادر نفسه، فهناك من كان يقرر ويلزم نفسه بمجال عمل محدد. وهناك من هيأ نفسه بتأهيل كافٍ للعمل في عدة مجالات، ولقد اخترت أن أكون من الصنف الذي يتجنب الارتهان إلى تخصص واحد. وفي زمن العمل تحت قيادة ياسر عرفات، كان هو أهم وأفعل مشجع للكوادر كي يكونوا جاهزين لأداء مهام متعددة وحتى متباينة، وكنت من ضمن هذا القطاع الواسع من العاملين معه.

كانت الهوية المتداولة لأي كادر في أي موقع آخر عمل يقوم به، وآخر مكان يستقر فيه.

ماذا كنت أفضل؟ وأي مجالات العمل جذبني فأحببته؟ إنه الإعلام. لأنه كما فهمته مزيجاً من أهم العناصر التي تشكل شخصية ودور الإنسان في مجتمعه، وفي التعبير عن التزامه بقضيته الوطنية وخدمتها. العناصر التي أقصدها أولها الثقافة، وثانيها الوعي السياسي، وثالثها جودة اللغة المكتوبة والمنطوقة، ورابعها القدرة على الإقناع.

فإذا غاب واحد من هذه العناصر الأربعة، يكون الإعلامي ناقص القدرة على الحضور والتأثير، ذلك أن الثقافة هي البنية التحتية أو التربة التي تنتج وعياً للحياة، وتوفر امتلاءً روحياً وذهنياً وحتى سلوكياً لمن أغنى نفسه بها، أما الوعي السياسي الذي تغذيه المعلومات والقدرة على معرفة مكونات القضايا المحلية والإقليمية والدولية، ومتابعة تطوراتها، فهي الشرط الأساسي لأداء دور فعال في الإعلام بصورة رئيسية، ذلك أن الإعلام الذي عملت فيه كان "إعلام ثورة وقضية" وحُكماً فهو إعلام سياسي بامتياز، ولقد أفادتني اهتماماتي وقراءاتي الثقافية في كل عمل قمت بأدائه. ولهذا واقعتان أسوقهما كمثالين على أثر الثقافة في السياسة وحتى الدبلوماسية، واقعة حدثت معي في واحدة من أهم العواصم الثقافية في العالم "موسكو" وتجسد الترابط الوثيق بين الثقافة والدبلوماسية، وتقدم الثقافة في هذا المجال.

"قام الرئيس المصري محمد حسني مبارك بزيارة لموسكو، حين كنت ممثلاً لمنظمة التحرير فيها، أبلغني صديقي السفير أحمد ماهر، بأن إحدى الفعاليات الهامة التي نظمت للرئيس المصري، هي لقاء مفتوح مع أهم علماء ومثقفي وفناني الاتحاد السوفياتي، رغبت عليه أن يدعوني لحضور هذا اللقاء الشيق والهام، اعتذر قائلاً: إن الجهة المنظمة للقاء هي اتحاد الكتاب السوفيات، وقرارهم بعدم دعوة دبلوماسيين، ولا حتى رجال سلطة سوفيات.

كانت علاقاتي باتحاد الكتاب السوفيات وثيقة، اتصلت بكل من أعرف منهم طالباً دعوتي للقاء، اعتذروا جميعاً، إلا واحدا منهم، دلني على طريقة تتفادى الحظر المفروض على الدبلوماسيين، كان الرجل هو المنسق المركزي لعلاقاتنا مع اتحاد الكتاب السوفيات، فما هي نصيحته التي أثمرت؟ كان محمود درويش هو رئيس اتحاد الكتاب الفلسطينيين، وكان ذا إيقاع إيجابي وقوي لدى قيادة اتحاد الكتاب السوفيات.

قال لي المنسق أحضر رسالة موقعة من محمود درويش، يطلب فيها من قيادة اتحاد الكتاب السوفيات أن تمثله في اللقاء الهام، ليس بوصفك سفيراً أو ممثلاً للمنظمة وإنما بصفتك عضواً في الأمانة العامة لاتحاد الكتاب الفلسطينيين، بعد ساعة وصلني تكليف من محمود درويش بتمثيله في الاجتماع، وبعد أقل من ساعتين وصلتني الدعوة وشاركت في الاجتماع، الذي كان أحد أهم الاجتماعات التي شاركت فيها طيلة حياتي السياسية والإعلامية، فليس دائماً تتاح لك فرصة الاستماع إلى مداخلات أهم المبدعين السوفيات، لقد بدت عضويتي في اتحاد الكتاب أكثر أهمية من وظيفتي كسفير، ويعد اعتماد محمود درويش لي أقوى تأثيراً من اعتماد القيادة السياسية.

الواقعة الثانية.. حدثت في القاهرة حين كنت سفيراً هناك، زارني النجم المتألق نور الشريف للتعرف عليّ، وجمعت له كل موظفي السفارة، وبعد السلام والتقاط الصور، طلب خلوة معي وقدم لي نصيحة.

"اسمع جيداً ما سأقوله لك القاهرة ثقافة قبل كل شيء، فكن سفيراً للقضية الفلسطينية لدى مثقفيها قبل رسمييها".

وضعت نصيحة الفنان الكبير في وعيي، وأفردت الجزء الأكبر من وقتي ونشاطي للمثقفين الذين هم قادة وعي مصر والأمة.

أما اللغة، فهي أهم ما ينبغي أن يمتلكه السياسي والإعلامي كي يكون مؤثراً في مجال عمله.

في مصر يقولون "الملافظ سعد" وهاتان كلمتان تنطويان على حكمة، ففي تراثنا العربي قيل "فليُسعد النطق إن لم يُسعد الحال"، وللغة جاذبية مدهشة، وقدرة معاكسة أي طاردة كذلك، وإذا ما أردت أن تكون شيئاً ما في زمن الفضائيات فعليك أن تهتم بأمرين. قوة المعلومة وقوة اللغة. بهذين الأمرين تتوفر لديك إمكانية التأثير على من تخاطب، ذلك أن المضمون الصحيح والمنطقي يضعف حتماً إن لم تنقله لغة متقنة وجاذبة.

لا أعرف على وجه الدقة كم نجحت وكم أخفقت في عملي داخل منطقة التشابك بين الثقافة والإعلام والسياسة. فمن يضع العلامة في امتحان كهذا هو الجمهور الذي يكوّن محلّفين يعدون بالملايين وهم وحدهم من يقرر في أمر الفشل والنجاح.

إنني في عملي الدبلوماسي، ومجمل عملي السياسي في المواقع المتعددة التي شغلتها، لم أفقد ولا حتى أقلل من اهتمامي الثقافي، وأساسه القراءة دون انقطاع، وخصوصاً في مجال الأدب بكل أنواعه كما لم أفقد صلتي بالكتابة، فقد كنت وأنا سفيرا ووزيرا أو مستشارا، أواظب على الكتابة في الصحافة المحلية والعربية، لم أكن أكتب من موقعي الوظيفي، بل كنت أحرص على أن أكون مهنياً نظراً للفرق الهائل بين أن تكتب كصحفي يحرص على أن تتوفر الشروط الفنية والمهنية فيما يكتب، وأن تكتب كسياسي أو دبلوماسي لتوضيح موقف أو للدفاع عنه أو للترويج لسياسة.

هذا الكتاب الذي أضعه بين أيدي القراء وهو تقدمة مني لزملائي الإعلاميين والسياسيين، وبوجه خاص للجيل الذي ما يزال يمتهن العمل الإعلامي بمختلف مجالاته، طلاب كليات الإعلام، والعاملين في المحطات الإذاعية والتلفزيونية الرسمية والخاصة.

أقدم لهم هذا الكتاب لعلهم يستفيدون من الوقائع والتجارب التي عشتها منذ أول خطأ إملائي وقعت فيه، وأول لعثمة وراء الميكروفون، وأول ظهور على التلفزيون، ولقد أتعبني الاختصار والتكثيف، فأنا في كل ما أنتجت من كتب، كنت أعتمد على ما استقر في ذاكرتي، التي أحمد الله على أنها لا تزال نشطة بما يكفي لتذكر الوقائع المؤثرة في حياتي العملية، لا أدعي أن استخلاصاتي هي الصواب بعينه، إلا أنني على يقين من أن الوقائع تحمل أموراً يمكن مناقشتها، وهذا ربما أفضل دافع لتسجيل التجارب ونشرها.