4 شارع الشريفين بالقاهرة. هو عنوان المبنى الذي انطلقت منه الإذاعات المصرية، ذلك قبل أن تنتقل إلى المبنى الضخم الذي أقيم على شاطئ النيل الساحر، واسمه المتداول "ماسبيرو".
حين تغادر المبنى القديم، وتتجه شمالاً تجد نفسك بعد خطوات قليلة في منتصف شارع قصر النيل، الذي اكتسب شهرة واسعة في العالم العربي ليس لكونه واحداً من أهم الشوارع التجارية في القاهرة. بل لأن سيدة الغناء العربي أم كلثوم، كانت تطلق أغنياتها الجديدة من السينما التي تحمل اسمها، فاقترنت شهرة المكان بشهرة السيدة الخارقة وأغنياتها التي وحدت الملايين على السهر حول صوتها العبقري عابرا الحدود والسدود.
ابتلعني شارع قصر النيل، مشيتُ فيه هائما لمجرد الرغبة التي تولدت في داخلي بترك العمل في الإذاعة، وتحت إمرة مدير جلدني في أقل من نصف ساعة، ما كان أقسى وأمر مما جلدت طيلة حياتي المدرسية، حتى أنني ندمت على تسرعي في قبول دعوته لي كي أعمل معه، ولذلك حكاية.
كان قد أعجبه صوتي حين تحدثت معه عبر الهاتف، يومها قال لي: إن التلفون هو على نحو ما ميكرفون صغير، يظهر جودة أو عيوب الصوت، لذا قدرت أنك تصلح أن تكون مذيعاً. ساعتها كنت في مكتب منظمة التحرير بدمشق، نظر إلى ساعته وقال: سأغادر الآن إلى المطار، لقد حضرت إلى هنا كي أراك وأعرض اقتراحي عليك، فإن رأيته مناسباً فأنا انتظرك في القاهرة، وعنوان الإذاعة معروف، وأهلاً وسهلا بك في أي وقت.
كان ذلك في الشتاء الذي تلى خريف أيلول 1970، كنت قد شهدت المعارك شديدة القسوة التي حسمت أمر إخراج قوات الثورة الفلسطينية من الأردن، كانت تلك الحرب المسعورة قد وضعت أوزارها.
التحقت بعملي في دائرة التنظيم الشعبي في سوريا، وهي دائرة تعنى بالاتحادات والنقابات والروابط الفلسطينية، كانت بمثابة جهاز اتصال مع قيادة منظمة التحرير، لم أكن أحب العمل في هذا المجال، غير أن ما ألقى بي إلى هناك، هي تلك المحادثة التي جرت بيني وبين فاروق القدومي أحد أهم قادة الصف الأول في فتح، ذلك قبل أن يصبح وزير الخارجية طويل الأمد.
أعجبته مداخلتي حول وضع الاتحادات الشعبية الفلسطينية في سوريا، وإدارة العلاقة بين منتسبي فتح، ومنافسيهم من منتسبي حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم، كانت الكفة تميل لمصلحة فتح في أي تشكيل نقابي فلسطيني، أما القوة والنفوذ فهي في مصلحة المنافسين البعثيين، كانت وجهة نظري آنذاك أن نراعي واقع أننا في بلد محكوم من قبل حزب البعث لذا لا بد من تنظيم التنافس، والاتفاق مع البعثيين حتى لو شاركونا مناصفة المقاعد القيادية، لم يكن إعجاب القدومي بتحليلي المرن بفعل الحسابات الموضوعية التي يفتقر إليها المتحمسون، بل لأنه وهو المؤسس في فتح وعضو قياداتها العليا، كان
ما يزال متأثراً بجذوره البعثية، وميالاً على الدوام إلى توثيق الصلة بين أخوة اليوم ورفاق الأمس.
أنت ستعمل معي في دائرة التنظيم الشعبي بمنظمة التحرير!!
فاجأني بعرضه الذي لا يقاوم، كنت ما أزال طالباً بكلية الحقوق في جامعة دمشق.
أنت تأمر وأنا جاهز من اللحظة.
لي شرط، ألا تغادر الجامعة.. قال.
بالتأكيد... أجبت.
غادرت بعد وقت قصير دائرة التنظيم الشعبي إلى صوت العاصفة في القاهرة. وها أنذا وبعد أيام معدودات على وفادتي إلى مكان عملي الجديد "الإذاعة" أهرب منه، كنت أمشي هائما على وجهي في الشارع الذي يزدحم بالمتسوقين والفضوليين، رحت أفكر في حالي، كنت قد تزوجت حديثا. لم تتح لي المعارك الصغيرة التي سبقت معركة أيلول 70 الكبرى، أن أحتفل بزواجي في عرس كتلك الأعراس التي أقيمت لأبناء عائلتي في دورا سبعة أيام بلياليها غناء وسهر وسباق خيل، وقدور مليئة باللحم تجاورها قدور الأرز، وصف نساء يصنعن خبز الشراك على الصاج كي يقدم في سطول ضخمة لمئات المحتفلين، كم كان شهياً وشيقاً ذلك الإفطار الجماعي الهائل المكون من لبن الجميد المذاب المسكوب فوق طبقة سميكة من فتات الخبز الرقيق والمغطى بالسمن البلدي، كانوا في أعراس دورا، يفطرون مع بزوغ أول خيوط الفجر، ويتناولون بعد سويعات وجبة الغداء الجماعي أفواجاً وراء أفواج، وبوسع أي مخلوق يحضر الغداء أن يختار بين "طبق " الأرز أو الفتّ، وأن يلتهم من اللحم حتى ما هو فوق طاقته، فهنالك من يتفقد الأطباق وحين يرى نقصاً في اللحم يعوضه على الفور.
هذا العرس التقليدي لم يتسنّ لي، فأنا لاجئ في عمان، كان يمكن أن أنال بعضاً منه لو لم تكن القذائف تنهمر حولنا كالمطر، ما جعل أقاربي المحتفلين معي بالعرس يتعجلون المغادرة، لأجد نفسي وحيدا مع عروسي التي صار اسمها بعد سنوات قليلة أم طارق.
كنت أصطدم بالمارة في شارع قصر النيل، ليس فقط بفعل الزحام، وإنما لأنني لم أكن أرى طريقي بوضوح، فأنا أفكر فيما سأفعل بعد أن عزمت على ترك الإذاعة إلى غير رجعة.
هل أعود إلى دمشق محاولاً استئناف وظيفتي التي تركتها في دائرة التنظيم الشعبي؟ أم أعود إلى عروسي التي تركتها وديعة عند أهلها في مدينة الزرقاء إلى حين استقراري في أي مكان؟
اصطدمت ببركات ذلك الشاب الخليلي الذي يعمل مذيعاً في صوت العاصفة، استغرب لوجودي في الشارع مع أنه من المفترض أن أكون في تلك الساعة على رأس عملي كمتدرب في الإذاعة.
خير أراك هنا.. لماذا لست في الإذاعة؟
لقد تركت العمل. أجبت
صعق بركات... فقد أخبرته بقراري الذي كان مصيرياً في ذلك الوقت بطريقة غريبة، كما لو أني أطلب منه سيجارة.
أمسكني من ذراعي واقتادني إلى أقرب كافتيريا ليعرف ما حدث.
أحكي يا...
سردت له ما حدث مع المدير، وكيف يريدني أن أبدأ التدريب كما لو أنني أنتسب إلى المدرسة من الصف الأول الابتدائي، وأطنبت في انتقاد ذلك الرجل الذي جعلني أندم على كل كلمة إيجابية قلتها عنه.
هبطت على بركات حكمة مفاجئة، لم يكن ليهضم فكرة تركي العمل في الإذاعة، كنت بالنسبة له "لُقطة" لا يجوز التفريط بها، لقد وجد في ابن بلده رفيقا وأنيساً يقضي معه أفضل أوقات فراغه وما أكثرها، كنت جاره في السكن، إذاً لم يكن لقاؤنا متعباً كلقاء الزملاء الذين يقطنون في شارع الهرم أو المهندسين أو باب اللوق، كنا نقضي ساعات وساعات نتحدث في كل شيء، عن الخليل وذكريات الطفولة في ربوعها، وعن الأدب حيث كان بركات على وشك إكمال دراسته الجامعية في اختصاص الأدب الجاهلي.
اسمع لدي مخرج جيد لأزمتك مع المدير.
بعد أن هدأت واكتشفت بأن قرار تركي الإذاعة كان انفعالياً، وجدتني في حاجة إلى سماع مخرج بركات، بل كنت ميالاً للموافقة عليه دون أن أعرفه، مرت في خاطري تلك الحرب التي فتكت بأرواح الآلاف إلى جانب فتكها بعرسي، كانت صور تلك الحرب ما تزال مطبوعة في ذاكرتي، إذاً فإن تجربة حياة جديدة في القاهرة، وفي مجال جديد تستحق التغاضي عن الكثير من المنغصات بما في ذلك طريقة المدير في تعليمي فن الكتابة!
قال بركات:
لقد أتى بك فؤاد لتعمل مذيعاً بعد أن أعجبه صوتك إذاً، لنعد معاً إلى الإذاعة وأبلغه بأنك ستؤجل تعلم الكتابة إلى ما بعد إتقان القراءة.
ومن أجل تشجيعي على قبول اقتراحه مع أني كنت قد قبلت به سلفاً لحاجتي الملحة للعدول عن المغادرة.
قال إنك وبشهادة الجميع تتقدم في مجال القراءة، وأقدر أنك بعد شهر على الأكثر ستبدأ العمل كمذيع.
... يتبع