الجمعة  22 تشرين الثاني 2024

رحلتي بين القلم والميكروفون والكاميرا (الحلقة السابعة)/ بقلم: نبيل عمرو

فصل الأناشيد

2022-05-29 12:07:51 PM
رحلتي بين القلم والميكروفون والكاميرا (الحلقة السابعة)/ بقلم: نبيل عمرو
نبيل عمرو

في لقاء ضمني مع الكاتب المصري الكبير الدكتور يوسف إدريس، المرشح الدائم لجائزة نوبل للآداب، سمعت منه تقويما مميزا لأناشيد الثورة الفلسطينية التي انفردت بإذاعتها "العاصفة".

كان الدكتور يوسف إدريس يشارك كضيف شرف في المؤتمر التأسيسي للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين الذي انعقد في العاصمة اللبنانية بيروت، وحين عرف أنني أعمل في صوت العاصفة، سألني كيف حافظتم على سرية الإذاعة دون أن تكشفها سلطات الاحتلال الإسرائيلي؟

أجبت: إننا نبث برامجنا من القاهرة ومن المكان الذي تعرفه جيدا 4 شارع الشريفين.

لاحظت دهشة مفاجئة اعترت وجهه شديد الوسامة، شعرت بنشوة النجاح بفعل جودة أدائنا كفلسطينيين وكأننا نبث من القدس أو الخليل أو غزة أو نابلس "كما كان يظن".

قال: أحببت الأناشيد القوية التي تبثونها، لقد شدتني من حيث المضمون والشكل، إنها إضافة نوعية للأناشيد الوطنية العربية عموما.

حين عدت إلى القاهرة وأبلغت مديري الأستاذ فؤاد ياسين بالمحادثة التي جرت مع الأديب المصري الكبير، طلب من مهندس الإذاعة المصري أبو علي، تسجيل جميع الأناشيد على أشرطة كاسيت، وتقديمها هدية للكاتب الكبير.

كيف ينتج النشيد؟

لقد جرى التعامل مع إنتاج النشيد، بذات الصيغة التي ينتج فيها التعليق السياسي، لم يكن يؤلف تلقائيا أو ارتجاليا ولا حتى استنساخا عن السائد في الأغاني والأهازيج الفلسطينية.

كنا نتنادى إلى اجتماع موسع يشارك فيه مدير الإذاعة، وجميع العاملين فيها من مذيعين ومعلقين ومعدي برامج، وبالطبع كان المؤلفون والملحنون هم أكثر المشاركين أهمية وإسهاماً.

 كان الاجتماع يقسم إلى قسمين، الأول تقويم الأناشيد التي تذاع ومدى الحاجة لتكرار فكرتها ومضمونها وهدفها، فيوصى باستمرار إذاعة بعضها وتقليل إذاعة البعض الآخر، أما الجزء الثاني من الاجتماع فكان مُنصبا على استعراض الأفكار الجديدة التي يتقدم بها المؤلفون وكتاب التعليقات والمتابعون للأحداث والتطورات السياسية، كان يجري اعتماد أفكار تعكس القضايا التي تفرزها التطورات السياسية، ويكلف المؤلفون بصياغتها وبعد الاستماع إليها من قبل المشاركين في الاجتماع، يتم إدخال تعديلات عليها، أو تظل كما هي ويستدعى الملحن، ويمنح عدة أيام لإنجاز النشيد، ثم يعقد اجتماع خاص لسماعه بصورة أولية، وحال إقراره يكلف الملحن بالتنفيذ، أي أن يتوجه إلى إدارة إذاعة صوت العرب حيث كانت تلك الإذاعة الكبرى والأكثر شهرة في زمنها، هي من يغطي نفقات التسجيل ومكافآت العازفين والمنشدين فيتم حجز الأستوديو، وبعد بروفات مضنية يتم التسجيل النهائي.

لم يكن صوت العرب يغطي تكاليف النشيد إلا إذا وضع فؤاد ياسين توقيعه عليه، تحت كلمة (يعتمد).

كانت فكرة النشيد ومضمونه متصلتان حتما بالحاجة التعبوية التي يتطلبها الحدث، وهذا نموذج لأحد الأناشيد وكيف ولد.

وصلنا من القيادة لوم شديد بفعل ضعف معالجتنا لحصار بلدة دورا. الذي دام ستة أشهر، كنا نعالج الأمر إذا ما ورد خبر جديد، كان المواطنون في دورا وفي كل الوطن يتابعون الإذاعة، ويأسفون لخلو أخبارها وتعليقاتها  من أهم حدث يعيشه الوطن والناس هناك، كان الحصار بمثابة ضغط على أهل البلدة الجنوبية من أجل المقايضة بين رفع الحصار وتسليم أهم مجموعة فدائية كانت تقض مضاجع الإسرائيليين، مجموعة باجس أبو عطوان وعلي أبو مليحة وعلي ربعي ورفاقهم، كان باجس وعلي يظهرون بكامل سلاحهم وعتادهم في البلدة لدقائق ويختفون، وحين يعرف الإسرائيليون بظهورهم تُحتل البلد بقوات كبيرة من الجيش وأحياناً كانوا يحضرون آليات كما لو أنهم في قلب معركة بين جيش وجيش آخر، ذلك من أجل إرهاب المواطنين.

كان باجس وعلي يظهران في الأعراس، ويقدمان التحية لأهل العرس بزخات رصاص من رشاشاتهم ويختفيان، ونقل مرة أن باجس طلب الحاكم العسكري الإسرائيلي من مكتب بريد دورا، وتحداه وقال له "اسحب قواتك من حول البلدة وايأس من أن تجد مواطناً من دورا يدلك علينا أو يسلمنا لك".

جن جنون الإسرائيليين من هذا التمادي الذي لا يوجه إهانة للاحتلال وقواته فحسب، بل يشجع شباب البلدة على الاقتداء بالفدائيين الذين يتحدّوا الاحتلال ولا يخافون.

حين وصلتنا حكايات كثيرة عن أعمال باجس وعلي ورفاقهم، وحصار دورا وإصرار أهل البلدة على حماية الأبناء، عقدنا اجتماعا خاصاً لتطوير المعالجة بما في ذلك إنتاج نشيد منسجم مع الموقف ومعبر عنه.

في الاجتماع وُضعت العناصر الأساسية لفكرة ومضمون النشيد بحضور المؤلف الشاعر حسيب القاضي رحمه الله، وقيل له: نُريد النص بعد ساعة، وتم استدعاء الملحن مهدي سردانة، وطلب إليه أن يلحن وينفذ النشيد في أقل من ثمان وأربعين ساعة.

اعتكف حسيب في أحد الأستوديوهات الصغيرة، قال لي طيب عبد الرحيم الذي كان آنذاك نائباً لمدير الإذاعة، إنه واصل حث حسيب على الإسراع في صياغة النص وفق الخطوط التي وضعها الاجتماع، كان كلما دخل على حسيب وهو يحاول الكتابة يرى الأوراق الممزقة في ازدياد، وفي إحدى المرات قال له حسيب: لقد غادرني شيطان الشعر ولم يعد ثانيةً، لذلك أعتذر، سأحاول في البيت. أغلق الطيب باب الأستوديو وحشر حسيب في المكان الضيق وأجلسه وراء المكتب وقال: انتظرني سأحضر لك سيجارة وفنجان قهوة، في الدقائق التي أعد فيها فنجان القهوة، كان حسيب قد اهتدى إلى الخيط، لم يأته شيطان الشعر فقط بل سكن في مخيلته وأنتج واحداً من أجمل وأقوى أناشيد العاصفة.

"طوق يا عدو طوق.. مدينتنا وقريتنا وشارعنا وحارتنا.. وسجّن أهلنا وشنّق.. يمين الله يمين الله عن الثورة ما نتخلى ولا بنحيد يمين الله 

طوق يا عدو وانسف منازلنا.. بقلبي بنيت لثورتي بيت

وجوعنا وعطشنا ما بنهاجر عن تراب الوطن والدار ولا ندلك عن الثوار، يمين الله يمين الله، عن الثورة ما نتخلى ولا بنحيد يمين الله.

أناشيد العاصفة التي بلغت ما يزيد عن مائة وستين نشيداً تصلح لأن تكون محطات غنائية تسجل أهم أحداث الثورة.

فمنذ بدء إرسال الإذاعة وكان ذلك في العام 68 وحتى العودة إلى الوطن على طائرة أوسلو الإشكالية، سجلت الأناشيد معالجات سياسية كانت ضرورية في حينها، أناشيد عن التلاحم الفلسطيني – اللبناني وقد أنتجت لتغطية الوجود الفلسطيني المسلح على أرض لبنان، الذي كانت تعارضه نسبة ليست بالقليلة من الشعب اللبناني.

وأناشيد عن العلاقة الفلسطينية الأردنية حين كان ينشأ خلاف مع النظام في الأردن، وأناشيد حين يبدأ الحديث ولو همساً عن ترك السلاح والذهاب إلى خيار الحل السلمي. 

تم إنتاج نشيد بعنوان، يا ثورتنا اشتعلي اشتعلي خلي الحل السلمي يولي.

 ومن أجل تعميق أواصر الوحدة الوطنية أنتجت أناشيد أكثرها رواجاً "واحدة لغة البارود" و"طل سلاحي من جراحي" وكلاشينكوف خلي رصاصك في العالي".

كانت البندقية والتمسك بها وخيار الكفاح المسلح هما الأكثر حضوراً في الأناشيد 

مثل يا شعبنا هز البارود. وبأيدي رشاشي بدي اضلي ماشي.

ولقد اقترحت على مهتمين بهذا الجانب من إبداعات الثورة الفلسطينية، أن ينتجوا دراسات حول دور الأغنية في المسيرة الثورية وتغطية الأحداث السياسية.

 كانت أغنيات العاصفة محفوظة لدى قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني والعربي، كنت تسمعها في الشوارع والمظاهرات والاحتفالات المدرسية والوطنية والجنازات والأعراس.

كانت تشكل إضافة نوعية وإبداعية للأناشيد الوطنية العربية.

 لقد ساهم في تأليفها وتلحينها وأدائها أشقاء عرب التزموا بالقواعد الصارمة التي وضعها فؤاد ياسين، ولم يعرف هل ملحن النشيد فلسطيني أم مصري أم عراقي. هوية النشيد كانت متطابقة مع هوية الثورة التي كان أبلغ وصف لها، أنها فلسطينية المنطلق عربية القلب والامتداد.

يتبع..... 

حكاية نشيد آخر