الأحد  22 كانون الأول 2024

غاستون باشلار: السقوط المتخيَّل (4/3)

​ترجمة: سعيد بوخليط

2022-06-23 09:48:39 AM
غاستون باشلار: السقوط المتخيَّل (4/3)
غاستون باشلار

يبدو بأن تأمل القصائد الديناميكية كما الشأن مع قصص إدغار بو- تمثل غالبا بنيات متداخلة رائعة لصور أدبية خالصة- ينتقل بنا صوب نظام لغوي ديناميكي، يجعلنا ننساب ضمن نظام ديناميكي للعبارة. تقرّ اللغة، وفق هذا المنظور، تلازمات للحركات وكذا الأفكار. السقوط المتخيَّل، موضوع حديثنا في إطار ديناميكيته الصحيحة، يُفَعِّل ديناميكيا خيالنا؛ ويجعل مستساغة لدى الخيال الرسمي تلك الصور المرئية العجيبة التي تعجز عن إيقاظها أيّ تجربة واقعية.

تنشأ الصور مباشرة جراء صوت مهموس يوحي. الطبيعة المنطوقة استهلال لحالة الطبيعة في طبيعتها. عندما نمنح فعل القصيدة المبدع مكانته الحقيقية، وندرك بأن القصيدة تبدع نفسية تخلق فيما بعد صورا، سنوسع حينها دائرة الخطاطة التقليدية للمصطلحين: توقظ الطبيعة المنطوقة حالة الطبيعة في طبيعتها ثم تتأتى بعد ذلك الطبيعة السلبية. نعم، وكما يقول العديد من الشعراء، فالطبيعة ناطقة بالنسبة لمن يصغي إليها. كل شيء يتكلم في الكون، لكن الإنسان يظل المتكلِّم الكبير، المتفوِّه بأولى الكلمات.  

أيضا، ضمن مجموع الحركات التي ندرسها، فبقدر ما تكون الروح المتكلِّمة آيلة للسقوط، بقدر ما يتبدى الجانب العجائبي لتلك المشاهد الناجمة عن السقوط. بكيفية عامة، ينبغي على الروح أن تتعبأ بغية التقاط رؤى كل دعوة للسفر؛ التأهب نحو الأسفل، كي تعثر على صور الهوَّة السوداء، صور يستحيل خاصة استلهامها حين الركون إلى  النظرة المعتادة وكذا العاقلة. بناء على وجهة النظر هاته، يبدو مفيدا جدا بالنسبة لعلم نفس الخيال مقارنته بين الحكاية كانحدار نحو دوامة ثم السرد الذي يُرجَّح أنه منحها الولادة. حينها، تتأتى لنا وسيلة جيدة كي نقيس المسافة الفاصلة بين سرد متخيَّل عن حكاية وهمية، بحيث سنفهم استقلالية الخيال، أطروحة لم تجد بعد فيلسوفها و ياللحسرة ! .  

بهدف إنجاز هذه المقارنة، لا أمتلك للأسف سوى الترجمة الفرنسية للسرد المطروح للنقاش. تضمنه الجزء التاسع عشرة للأسفار المتخيَّلة، الرؤى، التصورات، والروايات السحرية (أمستردام، 1788). فقد صدر السرد بعد سفر نيكولاس كليميوس إلى عالم تحت- أرضي، وردت إشارة  الكتاب من طرف إدغار بو ضمن ذات سياق قراءة عمله انهيار منزل أوشير وكذا مسامراته المزعجة.  

النص السردي الثاني، الذي أثار اهتمامنا هنا، لمؤلِّف مجهول، يحمل عنوان: ''الصلة بين سفر من القطب الشمالي نحو القطب الجنوبي، عبر مركز العالم''، صادر سنة 1723، مثلما يؤكد ناشر الأسفار المتخيَّلة (1) .

التحديد الجغرافي للنصين السرديين، الانحدار وجهة الدوَّامة وكذا السفر نحو مركز الأرض، لا يسمح بأدنى تردد فيما يتعلق بالمقاربة التي نقترحها. كتب المؤلِّف المنحدر من القرن 18، ما يلي: ''هكذا بلغنا منطقة  68 درجة، وعلى بعد سبعة عشر دقيقة من خط العرض''، دون إشارته إلى خط الطول، بينما كتب إدغار بو (ص 222): "نحن الآن– يستعيد ثانية وفق الضبط المميز له- عند ضفة شاطئ النرويج، تحديدا خط عرض 68''. رغم عشقه للدقة بخصوص الأشياء البحرية، فقد محا إدغار بو الإشارة إلى سبعة عشر دقيقة.

نفس نقطة الانطلاق والأجواء الجغرافية، ثم ذات الاهتمام، باستحضار أولي للأساطير الشعبية قصد منح السرد  تقليدا. لا تعمل جل هذه المجموعة التي بلورتها نفس المعطيات الأولية سوى على إبراز أفضل للتباين بين الخيالين. يكتسي خيال سارد القرن 18، مبرره من المذهل في الأشياء قصد الوقوف على المذهل بين طيات الحياة الاجتماعية للأفراد. تتبلور فورا يوتوبيا مجتمعية انطلاقا من بلد متخيَّل. قد يصبح السرد، خلال لحظة تفانيه الشديد، مسرحيا مثل رؤيا، فيطرح السارد نوما دون حلم، يستيقظ منه كي يرسم عادات بشر تحت أرضيين، مثل مؤلِّف رسائل فارسية  يصور تقاليد باريسية.  

على العكس، ما إن تطوى الصفحة الأولى، حتى يشرع خيال إدغار بو في النزوع تدريجيا نحو الحلم؛  بمعنى ثان، انطلاقا من الواقع يتبلور ضمنيا المتخيَّل لدى إدغار بو، كما لو أن وظيفة إدراك الاستثنائي تكمن أيضا في إطلاق شرارة الأحلام. حينما نتعقب شيئا فشيئا خلال لحظة معينة هذه الحُلُمية؛ سنلاحظ انسجامها مع أطروحتنا بخصوص ضرورة ربط الصور بدوَّامة حركة أساسية متخيَّلة.

ما دام الأمر يتعلق بسفر نحو الأعماق، وكذا تحريض تأمل شارد للسقوط، فيلزم الانطلاق من أحاسيس الدَّوْخة. منذ بداية القصة وقبل السرد المرعب، ثم استعراض أسباب الهلع الموضوعية، يبذل الكاتب قصارى جهده بغية إثارة الدَّوْخة عند المتحاوريْن، المتكلم مثل المصغي. تمثل هذه الوحدة على مستوى الدَّوْخة أول اختبار للموضوعية.

ابتداء من الصفحة الثانية للسرد، تغدو دَوْخة عميقة جدا، بحيث أمكن السارد كتابة ما يلي: "أسعى عبثا التخلص من فكرة أن رعب الريح يجعل أساس الجبل نفسه موضوع خطر''. هكذا، انتقلت الدَّوْخة من إحساس داخلي إلى أفكار، فالانطباع الحسي العضوي حيال الدَّوْخة تشرحها فكرة حركية القصوى. إذن، لاشيء جامدا، حتى الجبل نفسه.

منهجية إدغار بو، المرتكزة غالبا على إحالة الواقع إلى الحلم، تبدو هنا واضحة للغاية. حينما وصف قارَبا تسرع به أمواج زوبعة دَوَّامة، فقد اعتقد بأن أفصل وسيلة لذلك، تكمن  في مقارنة الانحدار بالسقوط بين طيات كابوس: "يأتي بحر هائل كي يجذبني من الوراء ثم يأخذني– الأعلى فالأعلى- كما لو قذفني غاية السماء. لم أعتقد قط بأن مَوْجا بوسعه الامتداد عاليا جدا. ثم انحدرت ثانية  نتيجة انعطاف، زحلقة، وكذا غطسة، مما أحدث لدي دوخة وغثيانا، كما لو سقطت في الحلم من أعلى جبل شاهق''.

لا تبدأ قراءتنا للقصة بنوع من الاستئناس المتوقد – أو وفق امتعاض مضطرب، مادامت هناك نفسيات متمردة جدا لا يمكنها الانجذاب نحو  قصص إدغار بو- سوى خلال سياق نختبر إبانه مع الراوي غثيان الانحدار، بمعنى لحظة يتمرن خلالها اللاوعي على تجربة الحياة الأولية. يلزمنا إذن الاعتراف بأن الرعب لايتأتى من الموضوع، أو المشاهد التي يكشف عنها الراوي؛ بل ينتعش الرعب ويعيد الانتعاش باستمرار داخل ذات، وروح القارئ.

لم يضع السارد قراءه أمام  وضعية مرعبة، لكن في خضم الهلع، من ثمة تأثر الخيال الديناميكي الأساسي. بثَّ الكاتب مباشرة داخل روح قارئه، كابوس السقوط. وقد عثر ثانية بكيفية ما على غثيان أصيل، مرتبط بنمط تأمل شارد يندرج بعمق في طبيعتنا الحميمة. لا نخفق أبدا بخصوص اكتشاف أولية الحلم في كثير من قصص إدغار بو.

ليس الحلم نتاجا لحياة اليقظة، إنه الحالة الذاتية الأساسية. بوسع ميتافيزيقي أن يتبيَّن جراء هذه الحركة ثورة كوبيرنيكية للخيال. فعلا، مادامت الصور لاتشرحها الملامح الموضوعية، بل معناها الذاتي. تعود هذه الثورة كي تضع:

الحلم قبل حقيقة الشيء،

الكابوس قبل المأساة،

الرعب قبل الوحش،

الغثيان قبل السقوط؛   

باختصار، يكمن الخيال، حيَّا للغاية داخل الذات، كي يفرض رؤاه، مخاوفه، وكذا تعاسته. إذا كان الحلم تذكرا مبهما، فالأمر يتعلق بحالة سابقة عن الحياة، حالة الحياة الميتة، بالتالي يجسد نوعا من الحِداد قبل السعادة. يمكننا أن نخطو خطوة إضافية ونضع الصورة ليس فقط عند مقدمة الفكر وللسرد، بل وكل انفعال. نوع من سمو الروح مرتبط برعب القصائد، روح تكابد، تكشف عن طبيعة أساسية جدا بحيث تضمن دائما للخيال المكانة الأولى. الخيال يفكر و يكابد و يؤثر، ثم يتحرر مباشرة بين طيات القصائد.

مفهوم الرمز ذهني جدا. مفهوم التجربة الشعرية ''تجريبي'' للغاية. تفكير وتجربة تائهين، غير كافيين قط من أجل ملامسة أولية للمتخيَّل. كتب هوغو فون هوفمانستال (حوار حول القصيدة، كتابات نثرية ص 160): "لن تجد مصطلحات ذهنية ولا أيضا انفعالية، تتيح إمكانية التحرّر لروح حركات من هذا القبيل، تحديدا هذه الحركات؛ هنا صورة تطلق لها العنان''. الصورة الديناميكية حقيقة أولى.

حول تيمة فقيرة كما الحال بالنسبة للسقوط، يدرك إدغار بو كيفية تهيئ مرتع لبعض الصور الموضوعية، يغذي حلما أساسيا، يعمل على بقاء السقوط.

لكي نستوعب خيال إدغار بو، يلزمنا أن نعيش عملية تمثّل حركة السقوط الباطني، للصور الخارجية، ونستحضر سلفا بأن هذا السقوط قوامه الاضمحلال والموت. هكذا، تغدو القراءة جذابة للغاية، بحيث يكتنفنا إحساس لحظة إغلاق الكتاب مفاده ''عدم الصعود ثانية". 

يتجه التأمل الشارد لدى إدغار بو، نحو ما هو ثقيل، بالتالي يضفي ثِقلا على مختلف موضوعاته، بل تصير لديه أنفاس الهواء ثقيلة، بطيئة تكشف عنها الستائر وكذا أنسجة المُخْمل. سياق تلتزم به، دون تردد جل  الستائر ضمن سرديات العديد من القصص والقصائد.

لا شيء يحلِّق، ثم يستحيل بالنسبة لكل عارف بالحلم  أن ينخدع بخصوص: حائط الستارة، في شعرية إدغاربو، حائط حلم يحيا ببطء، جدار ليِّن، حيث تهتز موجات ناعمة تكاد تكون غير قابلة للتمييز (البئر والبندول. ص 113). القاعة السابعة – الأخيرة- من قصر بروسبيرو، في قصة ''قناع الموت الأحمر''(ص 158): "تحجبها بكيفية دقيقة أغطية ذات ملمس مخملي أسود تكسو مجموع السقف والجدران، ثم تتدلى ثانية كأغطية فوق سجادة من نفس النسيج ".

بشكل مذهل، ترتفع الجدران  في قصته الأخرى المعنونة ب''ليجيا'': ''تمتد من الأعلى غاية الأسفل، سجادة جدارية ثقيلة ذات مظهر ممتلئ، ترخي أغطيتها الواسعة. نسيج صنعته نفس المادة العثمانية التي استعملت من أجل سجادة أرض الغرفة، والفراش من خشب الأبنوس، وكذا مظلة السرير ثم الستائر الفاخرة التي تخفي النافذة جزئيا ''. بعد ذلك، تهتز السَجَّادة، دون أن يحدث مع ذلك ارتباك على مستوى حمولة ثقلها الدائم.

حينما نستحضر مختلف الغُرف المأساوية لنصوص إدغار بو، تشعرنا بحركية الثقل الذي يكتنفها. تتسم جل الأشياء، بكونها أكثر ثقلا إلى حد ما، بينما لا ترغب المعرفة الموضوعية في التأمل السكوني. تبلغ بفضل الخيال الديناميكي الخاص للشاعر قليلا من إرادة السقوط، أو مرض إرادة انتصبت:

يُسدل حول كل شكل مرتعش

ستار، غطاء جنائزي ضخم

ينحدر تبعا لعنف عاصفة.

ثم تضع الموت على كل شيء، بعناقها الفظيع ستار ثِقلها.

بما أن الأشياء تصبح ثقيلة، بالنسبة للتأمل الشارد الثقيل عند إدغار بو، سنتبيَّن ذات  المعطى مع العناصر. لقد درسنا بين صفحات كتابنا حول خيال الماء، ماء خاصا بشعرية إدغار بو، ماء ثقيلا وبطيئا. نفس البطء والثقل، نعاينه في القصائد والحكايات، وقد ميز هذه المرة هواء هادئا.

تحقق الإحساس الديناميكي ب ''وهن الروح'' ضمن فضاء ثقيل. صورة مبتذلة، قلة الشعراء الذين يدركون سبيل جعلها فعالة. نشعر بقوتها العجيبة إذا توخينا فعلا إعادة قراءتها، كقصيدة وفق بطء ثاقب يلزمنا من خلاله قراءة القصائد النثرية – قصائد يكمن إيقاعها في الفكر- للمجموعة القصصية ''سقوط منزل أوشير''. ينبغي إعادة قراءة النص ديناميكيا، حسب ديناميكية البطء، بعينين نصف مغمضتين، ثم إضعاف الجانب المُزَخْرَف الذي يعكس فقط نوتات رؤى فوق النغم الديناميكي للثقل.

إذن، سنحس شيئا فشيئا، بوطأة سواد الليل، وندرك بأنه صورة أدبية خالصة ينعشها تكرار ثلاثي. يشعرنا على نحو أفضل، وزن هذه المادة الهوائية التي تغرق في الظلام، بوزن ''السحب ذات الحمولة الثقيلة''. ما إن يتحقق الإحساس بهذه الصورة القديمة ل''السحب الثقيلة''، السماء الثقيلة والمنغلقة، حتى نشعر بفعل هذه ''القاعدة المفارِقة لأحاسيس مختلفة أساسها الرعب''. قاعدة يستدعيها إدغار بو (ص89)، دون توضيحها حقا والتي تبدو لنا تأليفا بين الجزع والسقوط.            

هوامش : 

مصدر المقالة :

Gaston Bachelard :Lair et Les songes .Essai sur l imagination du mouvement(1943).pp112-115.

(1) صدر خلال نفس السنة في منطقة روين كتاب غير معلوم صاحبه، تحت عنوان : عجائب رائعة للطبيعة،انطوت صفحاته على توضيح مسهب للهوَّة النرويجية أو''سُرَّة البحر''. انطلاقا من تلك الهوَّة، تنساب كل مياه العالم :''يحدث ذلك ، يضيف الكاتب ، مثل الشِّريان في الجسد الإنساني الذي يوزع الدم نحو باقي الشرايين ''. يحيل هذا الكاتب على كيرتشر مثلما فعل إدغار بو.