الأحد  22 كانون الأول 2024

غاستون باشلار: ملهم الشعرية الحديثة

2022-07-28 08:36:26 AM
  غاستون باشلار: ملهم الشعرية الحديثة
غاستون باشلار

الحدث الثقافي- سعيد بوخليط

''إن الصورة القابعة بين صفحات الكتب، الخاضعة للنقد وكذا مراقبة الأساتذة، تكبح الخيال'' (باشلار).

حظي غاستون باشلار (1962 -1884) أو "سقراط الفكر المعاصر'' بتقدير وإنصاف مثاليين، باعتباره مؤرِّخا للعلوم ومجدِّدا كبيرا لمنظومتها الإبستمولوجية والمنهجية والفلسفية؛ وقد ولج هذا المجال الدقيق من أبوابه الواسعة، أقصد التخصص المحض، بعد أن ارتقى إبان مساره الدراسي من إجازة في العلوم الرياضية والتبريز في الفلسفة ثم توج هواجسه العلمية سنة 1927 بمناقشته لأطروحة قصد الحصول على دكتوراه في الفيزياء، بموضوع تناول ''التمدّد الحراري للأجسام الصلبة''.

هكذا، انتقل إلى تدريس تخصصات الرياضيات والفلسفة والفيزياء، بداية داخل فصول  ثانوية في منطقة مولده الأصلية ''بار-سور-أوب''، ثم بعد ذلك، جامعتي ديجون (1930) والسوربون (1940).

اهتماماته خلال هذه المرحلة أو حقبة باشلار / الشاب، راكمت تباعا مؤلفات وعناوين دراسات؛ من قبيل: دراسة في المعرفة التقريبية ''1927''، "القيمة الاستقرائية للنسبية'' 1929، ''التعدد المتناسق للكيمياء المعاصرة 1929''، الفكر العلمي الجديد 1934، تجربة الفضاء في الفيزياء المعاصرة 1937، تشكل الفكر العلمي 1938، فلسفة النفي 1940، العقلانية التطبيقية "1949"، المادية العقلانية ''1953''… أحدثت بكل المقاييس ثورة كوبرنيكية على مستوى منظومة العلوم الدقيقة، وأرست معالم مفاهيم جديدة ونوعية؛ دحضت وقوضت البناء الاستدلالي المترسخ طيلة عهود، نتيجة هزات الآفاق المغايرة التي أتت بها هندسات ريمان ولوباتشفسكي، وماكروفيزياء نسبية أينشتاين، ثم ميكروفيزياء ماكس بلانك.

لقد تخلصت أخيرا الممارسة العلمية من عوائق، التجربة الأولى، العائق الجوهري، المعرفة العامة. صار العقل العلمي تجريبيا، منفتحا، لينا، تاريخيا، متجاوزا لذاته باستمرار، جدليا بكيفية لانهائية، يهمه السؤال أكثر من الجواب، والنفي بدل الإقرار الدوغماطيقي. لا توجد حقيقة مطلقة، أو قانون علمي أبدي. يبنى الموضوع العلمي من خلال جدليات التجريبي والعقلي، التصور المفهومي ومعطيات الواقع.

في المقابل، لم يجد مثل هذا الاستحقاق، إلى حد ما، سبيلا على منوال رمزية السابق، تبعا لنفس الاهتمام والانكباب، نحو نتاج باشلاري ثان، مواز للأول؛ وفق ذات إيقاع الثورة الكوبيرنيكية، ارتبط هذه المرة بمرحلة  باشلار/ الشيخ، الذي انكب بعبقرية استثنائية وحس إيستيتيقي متفرد للغاية، في إطار موسوعية مبهرة حقا، على تفكيك البنيات الدلالية لنصوص أدبية وشعرية متنوعة جدا، تنتقل بأريحية بين كاتب مشهور وآخر غير معروف تماما، تحت سيل مداد ريشة حكيم  يذكرنا شكله بفلاسفة عهود الإغريق.

تحاورت داخل متنه مرجعيات عدة، بكيفية غير معهودة: ديكارت، رامبو، أينشتاين، بودلير، نيوتن، إدغار بو، برجسون، كافكا، لوتريامون، هولدرلين، بلزاك، فلوبير، ريلكه، بول فاليري، بيرسي شيلي، نيتشه، نوفاليس، يروتون، أراغون، لوي غيوم، سانت بوف، سوينبرن، أفلاطون، هنري ميشو، ديدرو، بوسكو، ألبير بيغان، روني شار، مينكوفسكي، روبير ديزويل، فان غوغ.  

هكذا، وجدنا أنفسنا أمام باشلار عاشق بنفس الشغف والولع للقصيدة والسرد و النحت، مثلما أبان سابقا نحو الرياضيات والفيزياء والكيمياء. بالتالي، أبان حقا على أرض الواقع، وبَسَّط أمام القارئ، المضمون الحقيقي لهويته الذاتية بقوله خلال إحدى المناسبات: ''انظروا إلى قدمي أنا فيلسوف، ثم تأملوا أجنحتي فأنا شاعر''. لقد تدفقت القصيدة إلى روح العالم والفيلسوف. فتحول اهتمامه من إبستمولوجيا العلوم إلى الحلم والتأمل الشارد.

إذن، نتيجة مفعول اجتهادات باشلار، أيضا غير تقليدية بخصوص تأويل إبداعات ملَكَة الجمال الإنساني، لم يعد بدوره الخيال؛ كما حدث بالنسبة للعقل العلمي، ضمن نفس المنظور السابق الثابت مؤسساتيا، باعتباره كذبا، تضليلا، وشرودا بوهيميا؛ غير ذي قيمة معرفية تذكر، دون استحضار تراكمات الخصومة الشهيرة المتوارثة من جيل إلى جيل، بين الخيال وكذا منظومات البرهان والاستدلال، بلغة أخرى بين الرياضيات والقصيدة جعلت العقل والخيال، عدوين لدودين لا جامع بينهما.

تشكَّلت الروافد الحالمة لهذا المشروع الباشلاري الثاني، من خلال مضامين مؤلفاته التالية: التحليل النفسي للنار (1938)، لوتريامون (1939)، الماء والأحلام (1941)، الهواء والرؤى (1943)، الأرض وهواجس الاستراحة (1946)، الأرض وهواجس الإرادة (1948)، شاعرية المكان (1957)، شعرية حلم اليقظة (1960)، شعلة قنديل (1961).

سنة 1961، استحق الجائزة الوطنية الكبرى للآداب.

أبحاث أرسى من خلالها باشلار، معالم قطيعة تاريخية حيال تصورات قطعية في نظر الثقافة الكلاسيكية، بفضل أطروحات من هذا النوع؛ اختزلت مجمل قصديتها مقولته الشهيرة: ''إذا كان بوسع أبحاثي إثارة الانتباه، فيمكنها أن تأتي ببعض الوسائل والأدوات بهدف تجديد النقد الأدبي''.

*تحويله الخيال إلى فيزياء، تحكمه قوانين موضوعية جوهرية. تصور استخلص بفضله باشلار علاقة الصورة الشعرية بالعناصر الكونية الأربعة، أي الماء والنار والأرض والهواء.

*سعيه تجديد النقد الأدبي عن طريق إعادة الاعتبار للخيال المادي، والحلم.

*الخيال المادي بمثابة حوار فعال ومبدع مع الكون.

*يمثل الخيال والمتخيل والتأمل الشارد، قوة طاقية مبدعة. 

*الخيال نفسه، وفق ذات الهوية، سواء في العلم أو الأدب.

*ردم الهوة العميقة التي فصلت بين الخيال والعقل، الحلم والبرهان، التأمل والاستدلال، الشعور والذكاء، الجمال والنظرية…، بل منح باشلار الخيال ضمنيا الصدارة والأولوية، بحيث نحلم أولا، ثم بعد ذلك ندرس. من يسعى إلى تمثّل ممكنات هندسة القنبلة الذرية، يلزمه التمرن قبل ذلك على التماهي مع الإيحاءات المجازية لصور الشعراء. العلم خيال، ثم نسق برهاني. لقد تخيل أينشتاين مثلا بداية أبعادا أخرى لكون جديد غير الواقعي، ولتأكيدها انطلق إلى بناء الفرضيات وصياغتها رياضيا وفق علاقات منطقية. أيضا، يتمرس الذهن البشري على التجريد العلمي، حينما يستأنس أفقه بتساميات مبدعين يمتلكون مخيلة غير عادية، لها القدرة كي تحلق بعيدا. 

*إذا تمكننا من دراسة الصور، بإسنادها إلى مادتها الحقيقية يمكننا تأمل نظرية كاملة للخيال الإنساني.

*أعاد الاعتبار للخيال، ورأى أن مهمة الناقد الأدبي تكمن في الحلم مع المبدع، والعثور ثانية على الصورة الشعرية في انبثاقها والانسياب مع رنينها.

*الصورة مولِّدة لحلم اليقظة.

إذن، وكما تحقق مع العلم، مَثَّل باشلار/ الناقد الأدبي رغم رفضه المبدئي لثقافة التسميات والتصنيفات والنعوت الأكاديمية والبيانات، مفضلا دائما المناداة عليه باسمه الشخصي لاغير: "كم كنت أستاذا سيئا للأدب! لا أتوقف عن الإفراط في الحلم لحظات القراءة''، ''كل هذه الكتب التي أخرجت إلى الوجود، تبقى بالنسبة إلي وحسب وجهة نظري مجرد كتب للتسلية"، "أدرك جيدا أنه يلزمني أن أدرس أكثر مما ينبغي. لا أدري لست مؤهلا للقيام بهذا المشروع. أتوخى على العكس من ذلك، تكريس ما تبقى لي من القوة، كي أواصل ما أنجزته. آه! أجدني مع تلك القصيدة غير المحكومة بوحدة كلية، لكنها تتضمن صورا جميلة. مثلما ترون، دوري متواضع جدا، ولا أعتبر نفسي أستاذا للآداب''…

أود القول، رغم أن هذا العقل الجبار، رفض دائما وصفه بالناقد الأدبي مؤكدا بأنه لم يقصد من وراء نتاج كتبه، سوى متعة ولذة القراءة، فقد شكَّل حقا وبكل المقاييس حلقة أساسية، مفصلية، مركزية بالنسبة لخريطة النقد الأدبي خلال القرن العشرين، بحيث نجد مدرسته المسماة بالظاهراتية الباشلارية ضمن طليعة الاتجاهات الحديثة والمعاصرة التي ارتقت بإيستيتيقا النص الأدبي وكذا استيعاب بنياته الدلالية نحو آفاق متطورة جدا، بجانب باقي التيارات الأخرى التي تحيل أساسا على خطاطات التأويلات النصية التي راكمها:

الشكلانيون الروس، حلقة موسكو اللسانية، حلقة براغ، مدرسة جنيف (مارسيل ريمون، ألبير بيغان، جورج بولي، جون روسي، جون ستاروبنسكي، جان بيير ريشار)، جيلبير دوران (النقد الأسطوري)، النقد النفسي (فرويد، شارل بودوان، شارل مورون)، علم اجتماع الأدب (جورج لوكاتش، لوسيان غولدمان، ميخائيل باختين)، جمالية التلقي (هانس روبير ياوس)، اللسانيات، الأسلوبية، البلاغة، سيميوطيقا الأدب، السيميوطيقا السوفياتية، جماعة تيل كيل، النقد التكويني، الشعرية.

ثورة نصية هائلة، يعتبر باشلار أحد روادها الكبار، تحققت لديه نتيجة:

*القطع مع كل دراسة خارجية للنص، أساسا مستلهمي منهجية غوستاف لانسون، والاتجاهات البيوغرافية والسيرية. ثم الانكباب جملة وتفصيلا على استيعاب البناء الداخلي النص، لكن برؤية عاشقة وحالمة.

*الإيمان المطلق بإيحاءات الخيال.          

 * تذويب كل المسافات الرسمية والعوائق الفاصلة بين الكاتب والقارئ، ثم الأخير والنص.

*الاحتفال اللانهائي بحداثة الصور، وانسياب الناقد خلف رنينها.