الحدث- سوار عبد ربه
من داخل عتبات السجن وبطرق لا يعرفها إلا الأسرى، على قصاصات ورق صغيرة هُربت من السجن، ومن خلال مكالمات كثيرة أجراها الأسير وليد دقة الذي يقضي عامه السابع والثلاثين في سجون الاحتلال، مع زوجته سناء سلامة، جمع الأكاديمي في جامعة بيرزيت عبد الرحيم الشيخ مشروع دقة الفكري والذي لا يزال برسم الاكتمال، مسافرا به إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، حيث ألقى هناك محاضرة قدمها الكاتب إلياس خوري حول "الوعي الموازي للحركة الفلسطينية الأسيرة في كتابات وليد دقة.
وقال خوري في تقديمه لعبد الرحيم الشيخ: "إن الشيخ يدعونا إلى مشاركته متعة المعرفة التي تمتزج بآلام المنفى والسجون، حيث ينطلق عمله من كتابات وليد دقة التي نشر بعضها والبعض الآخر في طريقه إلى النشر، كي يصل إلى تقديم ترسيمة نظرية للتجربة الفلسطينية انطلاقا مما أطلق عليه اسم "الجغرافيا السادسة".
وأوضح خوري الذي شبه فكر وليد دقة بفكر الفيلسوف جزائري الأصل فرانز فانون أن هذا اللقاء هو احتفاء بالحرية التي حفرت نفقا بالكلمات وهو نفق موازٍ لنفق سجن جلبوع، نفق الكلمات الذي صهره الوعي والإرادة، يدعونا نحن الذين نعيش في سجون الحرية المثلومة بالقمع والاستبداد والتطبيع في العالم العربي إلى اكتشاف وعينا الموازي واستعادة حقنا في الحياة.
وكان عنوان المحاضرة التي ألقاها عبد الرحيم الشيخ بتنسيق من برنامج أنيس المقدسي للآداب "الشهداء يعودون إلى رام الله.. أطروحات في الحرية والذاكرة والنقد".
وقال عبد الرحيم الشيخ في مقدمته: "بين القاعة 113 في مبنى 37 في الجامعة الأمريكية في بيروت والزنزانة 3 في قسم 11 في سجن عسقلان على بعد 260 كلم جنوبا، مئات المقابر وعشرات المخيمات والسجون تفصلنا عن وليد دقة، الابن الحر، فلسطين الألم والأمل".
وأخذ الشيخ، الحضور في رحلة بصرية ليس إلى زنزانة وليد دقة وحسب، بل إلى عينه التي في الزنزانة، وفي الرحلة مجاز بصري ومدخل تحليلي لعلاقة الأسير الفلسطيني في السجن الصهيوني الصغير بسجانه وبخارج السجن، سواء في السجن الكبير (فلسطين) أو ما وراء فلسطين.
وفي محاضرته، تطرق الشيخ إلى إحدى رسومات الأسير وليد دقة والتي بعد أن فك الاثنين شيفرتها في مكالمة هاتفية استغرقت قرابة الساعة، وجرت في مطلع نيسان 2022، توصلا إلى قواعد مبدئية حول ثلاثة أنظمة من الزمان والمكان والإنسان والبيان.
واللوحة على حد وصف دقة تصور أسيرا في زنزانة على شكل دائرة، والدائرة هي ساعة بلا عقارب، يجثو الأسير على ركبتيه وينظر إلى فتحة في أرضية الزنزانة (الساعة) ويرى تحتها ساعة أخرى بعقارب متعرجة، ولكنها موجودة على الأقل وهي ساعة هشة وشفافة وإن علاها غبار، تفضي هذه الساعة إلى ربع دائرة تحتها هي ساعة ثالثة بعقارب منفلتة ودائرة غير مكتملة.
حيث تشير الساعة الأولى التي بلا عقارب، إلى زمان الأسر ومكانه وإنسانه وبيانه، إنها سجون العدو الصهيوني حيث يقيم وليد دقة ورفاقه وفقا للشيخ.
أما الساعة الشفافة الهشة التي يعلوها الغبار، هي زمان الاحتلال ومكانه وإنسانه الذي وحشته الصهيونية، والساعة غير المكتملة هي زمان السلطة الفلسطينية ومكانها، لكنها ليست إنسانها، إنها ساعة المقاطعة في رام الله.
في السياق، تناول الشيخ في محاضرته، مفاهيم ثلاثة كمقولات تأسيسية في الوعي الموازي لدى وليد دقة وكإسهام في استعادة النصاب الثقافي.
وكان المفهوم الأول هو الحرية والتحرر حيث أوضح الشيخ أن الأسير وليد دقة في مشروعه البحثي المتواصل للمقارنة بين السجون الصغرى التي يقبع فيها الأسرى، وبقية السجون والمعازل الكبرى في حدود فلسطين التاريخية وأكبرها سجن غزة الجريحة وهو ما أطلق عليه سابقا وليد دقة صهر الوعي، في العقد الثاني من اندلاع انتفاضة الأقصى منذ العام 2000 حتى العام 2010، يعمل الأسير على استكمال هذا الجزء وجزء آخر قيد الاكتمال أطلق عليه نظام الإغواء والإغراء ويصور حال السياسات الاستعمارية الصهيونية في ضبط الأسرى ومراقبتهم للسيطرة على فلسطين.
وفي هذا المشروع الفكري يفرق وليد دقة بين الحرية كقيمة والتحرير كهدف، وفي هذا التفريق ما يضع في عين الناظر واصبعه على أكثر من جرح.
وهنا وفقا للشيخ فتح دقة آفاق الجرح على 5 مقولات في الحرية والتحرير، الأولى أن هذا التفريق يدشن حميمية من نوع خاص بين حالة المعاناة وحالة الحرية المرتبطتين بحالة ثالثة، هي فعل التحرير، ولأن الحرية لا تأتي بلا ثمن فقد اقترنت بمقولة فلسطينية أن الفلسطيني وقد وعى عبوديته وتقلصت خياراته، كان عليه أن يفقد حريته من أجل أن يتحرر وأن يموت في سبيل أن يحيا أي أن يصير أسيرا للحرية.
أما المقولة الثانية فهي أن هذا التصور المفرط في الرومانسية لم يتحقق في واقع الأمر كما صيغ في بلاغة الأمثال، وفي معركة تجربة الثورة ضاعت البوصلة الفلسطينية بين الوسيلة (التحرير) والغاية (الحرية) حتى بلوغ نهاية تراجيدية صارت الوسيلة فيها هي الغاية وقد جرى تشويهها واختزالها.
والمقولة الثالثة هي أن التفريق بين التحرر والحرية ليس ترفا فلسفيا بل ترتب عليه تمكن الرسمية الفلسطينية الجديدة حتى اللحظة من إدراج التحرير والدولة والعودة والعاصمة وحق تقرير المصير كملاحق لا يقرأها أحد في كتاب الثورة القديم.
أما المقولة الرابعة فكانت أن هذا التفريق وإن كان أداة الثوريين في تعريف وسائلهم وغاياتهم بين التحرر والحرية، إلا أنه كذلك أداة أعداء الثورة، من الاستعمار إلى وكلاء الاستعمار لعزل الثوريين عن حاضنتهم الشعبية سواء كانوا في السجن الصغير أو في السجن الكبير الممتد على حدود فلسطين التاريخية، لكن ذلك لا يضعف ثوار اليوم كما لم يضعف ثوار الأمس في ظل ثقافة تسلع كل شيء بما فيه الحرية يقول دقة.
والأخيرة هي أن التفريق هذا وإن شرعن للفلسطيني عنفه الثوري الذي ولده العنف الاستعماري إلا أنه لا ينبغي أن يدفع الفلسطينيين للتوحش، حين ينازلون الوحوش.
وكان المفهوم الثاني الذي طرحه الشيخ في هذه المحاضرة هو الحرية والذاكرة فبينما يجعل دقة من التحرير شرطا للحرية فإنه يجعل من الذاكرة ضامنا لتبلغ الوسيلة غايتها، ذلك أنه إن فقدت الذاكرة فقدت القيم سواء على المستوى الفردي أو الجمعي.
ويرى د. عبد الرحيم الشيخ أن هذا الإدراك لأهمية الذاكرة، لم ينفرد به الفلسطينيون وحدهم بل أدركه أعداؤهم، ولذا إن دولة المستوطنين "إسرائيل" تعمل على محاربة الذاكرة عبر ثلاثة مجالات تحاول من خلالها تدمير منظومة قيم الحرية وهي المكونات الكلاسيكية للهوية الوطنية الفلسطينية الأرض والناس والحكاية.
يقول د. عبد الرحيم الشيخ حول هذا المفهوم إننا نقدم للمقبرة الشهداء لكنها تقدم لنا حلم العودة، عودة أطيافهم وعودتنا إلى فلسطين، فالطريق إلى المقبرة كما يعلمنا حسين البرغوثي هي الطريق لنخرج منها خروج الإله والإله لا يخرج -حين يخرج- إلا حرا وإلى الحرية، لذا يمكن المجازفة بالقول إن الموت طريق الحرية، حرية الجسد حين يصير طيفا، حرية الفكرة حين تصير وطنا.