تدوين- نصوص
تعتبر سحر خليفة من أهم الروائيين الفلسطينيين. ولدت في نابلس عام 1941. تزوجت في سن مبكرة زواجا تقليديا؛ وبعد مرور ثلاثة عشر عاما من الإحباط وخيبة الأمل، قررت أن تتحرر من هذا الزواج وتكرس حياتها للكتابة. وقد عادت لتواصل دراستها الجامعية، وحصلت على شهادة الدكتوراة من جامعة أيوا في دراسات المرأة والأدب الأمريكي. روايتها الأولى "لم نعد جواري لكم" (1974) أحدثت صدى كبيرا بسبب دفاعها عن حرية المرأة، غير أن سحر لم تحظ بالاعتراف الأدبي إلا بعد صدور روايتها الثانية "الصبار" (1976). ترجمت معظم رواياتها إلى العبرية والفرنسية والألمانية والهولندية والإنجليزية والإيطالية والإسبانية والماليزية واليونانية والنرويجية والروسية. نالت العديد من الجوائز العربية والعالمية أهمها: جائزة ألبرتو مورافيا للأدب المترجم للإيطالية، جائزة سيرفانتس للأدب المترجم للإسبانية، جائزة نجيب محفوظ عن روايتها صورة وأيقونة وعهد قديم، وجائزة سيمون دي بوفوار التي رفضتها لأسباب وطنية عام 2009.
من بعض رواياتها: (عباد الشمس) (1980)؛ (مذكرات امرأة غير واقعية) (1986)؛ (باب الساحة) (1990)؛ (الميراث) (2002)؛ (صورة وأيقونة وعهد قديم) (2002)؛ (ربيع حار) (2004)؛ (أصلٌ وفصل) (2009)؛ (حبي الأول) (2010).
واخترنا لكم اليوم في تدوين، نصا من رواية "صورة وأيقونة وعهد قديم"، وهي رواية صدرت عام 2002 في طبعتها الأولى وفي 2008 في طبعتها الثانية، عن دار الآداب في بيروت.
ويقول الناقد الفلسطيني فيصل دراج عن الرواية التي كتب مقدمتها: "لا تتوسل الرواية، قدر ما استطاعت، الرموز الدينية، إلا لتستولد منها تاويلاً تاريخياً مشخصاً، لينفتح على الراهن والمعيش والملموس. ليست "مريم الفلسطينية" التي تذوي في فضاء القدس وتسير إلى النسيان والموت إلا القدس، التي خذلها، ذات مرة عاشق قديم، وليس العاشق، الذي خذل مدينته، إلا الفلسطيني، الذي آثر الهرب بعد حرب 1967. ذلك العاشق الغريب الذي هاجر وكافح واغتنى وناضل، واعتقد أن الذكريات تحمي الأماكن المقدسة، وأن النوايا الطيبة تنجب الأنبياء. ولهذا ينتهي وحيداً بلا وريق، يذهب إلى الموت عاجزاً، مشاركاً مريم عجزها ويتمها وانحدارها إلى النهاية."
وفيما يلي النص الذي اخترناه لكم:
ومشيت أفتش بين الحجرات والممرات عن أي أثر يشير إليها، وما وجدت إلا الأتربة وغبار السنين وأصصا مليئة بنباتات مسودة وبعض الأشواك. وصعدت الدرج إلى غرف النوم، ووجدت صوراً لإخوتها، هذا بشارب وذاك بسيارة شيفروليه وآخر بعروس وكنيسة، وذاك بالحطة والقمباز في صدر البيت. كان أبوها قبل ذهابه لأرض المهجر ثم تغيّر بعد بضعة سنين وأصبح بقميص وبلا شارب وها هو يقف أمام المتجر مثل الحارس يعرض سجادا ودناديش شرقية. وكذلك الأم لها صورة، صورة مكبرة بالأسود وشعر رمادي مسحوب في كعكة وبدون نظارة ككعب الفنجان، لا بد خلعتها للصورة، فبدت عيناها سابحتان من خلف ضباب حجب الرؤية. أما مريم فبلا صورة. مريم الوحيدة بلا صورة! لا في الغرف، ولا في الممرات ولا على طرف البيرو حيث اصطفت عشرات الصور لأخوة وصبايا ومراجيح وأطفال بضفائر وشرائط ولعب منفوخة بشكل أسماك على سطح البرك وعلى الشطآن. مريم الوحيدة بلا صورة، وكذا ميشيل. كل الأطفال لهم صورة إلا إبني. وأحسست بغصة في حلقي لأني المسؤول عما قاسى وعمّا قاست. وها هو ميشيل يدير ظهره للدنيا وحياة الأرض كما أدارت له الدنيا ظهر الواقع. هذا إذن ما فعل ميشيل كردّة فعل، ولكن مريم كيف ردّت؟ ماذا فعلت؟ كيف عاشت؟ أين ذهبت؟ اين اختبأت؟ وكيف جابهت الأحداث والواقع؟
وعدت أبحث كالمجنون عن غرفتها، وكل الغرف فيها أسرّة وخزائن وستائر وبراويز، وكل البراويز فيها الأخوة وفيها أطفال ومراجيح، وفيها حدائق وسيارات، لكن مريم، وابن مريم، وانا المسؤول. واحسست بغيظ وتحدٍّ، شعور من يدافع عن عائلته، شعور المظلوم، شعور المحروم من النعمة وهم ينعمون ولا يسألون ويتناسون. مريم منسية بلا تاريخ. مريم مريمتي بلا تاريخ! افتح الخزائن والجوارير، خلف الستائر، خلف الأبواب، ولا شيء يذكّر بما كانت إلا الناقوس والزعانف تهفو مع الريح وتدندن ثم تتوقف وتتلاشى وتذروها الريح. ذاك الناقوس اشتريناه من باب الخليل.