الأحد  22 كانون الأول 2024

كيف نكتب تاريخنا الاجتماعي والثقافي؟ الحداثة المصرية نموذجا

2023-03-15 08:37:58 AM
كيف نكتب تاريخنا الاجتماعي والثقافي؟ الحداثة المصرية نموذجا
خالد فهمي

تدوين- تغطيات

عام 2018، أصدر المؤرخ المصري خالد فهمي كتاب "السعي للعدالة" قدم فيه تصورا شاملا للطريقة التي تأسست بها حداثة مصرية مميزة في القرن التاسع عشر، باتخاذه الجسد البشري وحدة للتحليل.

وفي فصول الكتاب الخمسة تناول فهمي مراحل تأسيس الخدمة الطبية وسياسات الصحة العامة من تشريح وتطبيق الحجر الصحي، والتطعيم ضد الجدري، والأساليب التي طبقت بها الشريعة في المحاكم الشرعية ومجال السياسة، وسياسات تخطيط المدن، ودور الحسبة في الرقابة على الأسواق، إضافة إلى السياسـة العقابية بما تشمله من قصاص وسجن وتعذيب.

ولهذا الغرض، وضع فهمي، الخديوي إسماعيل وعلي مبارك، مقابل جورج هوسمان، ونابليون الثالث كشخصيات محورية في دراسته، على اعتبار أن القاهرة هي مدينة مبنية على الطراز الباريسي، كون إسماعيل ومبارك تأثرا بالتطور الموجود في باريس، أثناء تواجدهما فيها، ما جعلهما يسعيان لبناء دولة مصرية على هذا الطراز.

وفي محاضرة عقدها المؤرخ في صالون التفكير، ضمن سلسلة محاضرات تشكل موسم الربيع الثقافي في الصالون للعام 2023، وتتمحور كلها حول التناول النقدي لكتابه الأخير "السعي للعدالة" الذي ترجم عن دار الشروق عام 2022، تتبع فهمي نقل التجربة الفرنسية إلى مصر، من خلال طرحه القاهرة كنموذج، في محاولة للإجابة عن الأسئلة المركزية المتعلقة بالحداثة وطريقة تكوين الدولة الحديثة التي نعيشها ونتعايش معها، ومن أين جاءت هذه الدولة، وكيف ندرسها تاريخيا، وكيف تكونت الدولة المركزية الحديثة.

وتركزت أسئلة فهمي حول الأسئلة الأكاديمية المتعلقة بموضوع الحداثة المصرية، مثل هل يوجد حداثة واحدة أم حداثات متعددة؟ وإن كانت متعددة هل هي متداخلة أم متعارضة؟، وكيف ندرس الحداثات وما هي علاقة الحداثة الأوروبية ب اللأوروبي.

يقول فهمي في إن هناك نظريات تقول إن أوروبا الحديثة والعقلانية والعلمانية، تشكلت نتيجة تصادمها مع اللأوروبي وتحديدا مع الإسلام، والدولة العثمانية والكولونيالية، معتبرا أن الموضوع شائك، إذ لا يوجد حداثة أوروبية خالصة، ونحن نحاول اللحاق بها، كما لا يوجد تقليد شرقي خالص نحاول أن نتخلص منه.

وإنطلاقا مما سبق، بين فهمي أنه معني بالسجالات الدائرة في مصر والعالم العربي، تحديدا السجال التقليدي ما بين الإسلاميين والعلمانيين، إذ أن الإسلاميين/ الإسلامويين يقدمون طرحا مغايرا لسؤاله المركزي، إذ يرونه بين الأصالة والمعاصرة، وبين الوافد والموروث، فمن وجهة نظرهم، حتى استخدام واقتباس العلم والتكنولوجيا يحمل معه في طياته أفكارا عن العلمانية وأفكار ليبرالية يجب الحذر منها، ويبقى الكلام في النهاية عن الهوية والخوف من ضياع الهوية أو التنصل من أصولنا في محاولة للحاق بالغرب إما عن القصد كما يتهم الإسلامويون النخب السياسية والثقافية، وإما بغير قصد.

كما أن العلمانيين أو الماركسيين يتعاملون مع هذه الإشكالية من خلال تصادمهم مع مجتمعهم، وبنبرة تعالي على الغزو الوهابي، وتخلف الإسلامويين وعلى الناس ومعتقداتها وممارساتها، معتبرا أن ما بين هذه السجالات يوجد دولة، مسيطرة، مهيمنة، تتعالى على المجتمع هي الأخرى، بالإضافة إلى الغرب المتعالي الذي يكيل الاتهامات للإسلام والمسلمين.

القاهرة الخديوية

وأشار فهمي إلى أنه درس علاقة مصر بالحداثة وتشكيل الدولة الحديثة المركزية، عن طريق الممارسات والمؤسسات والناس العاديين، وليس بالاعتماد على المفاهيم والأفكار والمفكرين، ذلك بعودته إلى الطريقة التقليدية التي يتم من خلالها تعليم تاريخ القاهرة، وتطورها، التي تعكس الطريقة التي نتكلم بها عن الدولة المصرية الحديثة وعلاقتها بالتراث والغرب، مشيرا إلى أن القاهرة هي نموذج للسؤال المحوري الذي تدور حوله المحاضرة.

ووفقا للمؤرخ، الطريقة التقليدية للكلام عن تطور القاهرة يبدأ بالخديوي إسماعيل، وتحديدا بزيارته لباريس عام 1867 لافتتاح الجناح المصري في المعرض الدولي الذي احتضنته المدينة في تلك السنة، إذ أن إسماعيل وأثناء سنوات دراسته في باريس، وتواجده لمدة طويلة فيها، لاحظ التغيرات المذهلة التي حدثت في ذلك لأن عمدة باريس عهد له من قبل الامبراطور نابليون الثالث بتغيير طبيعة المدينة وفتحها، ما جعل إسماعيل وعلي مبارك الذي كان برفقته، ينبهران بهذا التغيير من الناحية الجمالية والبصرية، فأوعز لمبارك بنقل التجربة الباريسية إلى القاهرة، وتوضيبها لاستقبال الملوك والأمراء.

وبناء على هذا الايعاز، أعيد تخطيط القاهرة، وكان من المفترض أن تجري تغييرات على الشوارع إلى أنه لم يفلح في اقتحام المدينة القديمة بالشوارع المستقيمة، ونتيجة عدم قدرته على تطوير المدينة شرقا وتركيزه على المدينة غربا، ظهرت كأنها مقسومة إذ أن القسم الشرقي يضم الأزقة والحارات القديمة، والقسم الغربي، مدينة حديثة تتقاطع في ميادين عامة، وتحوي تماثيل ونوافير وغيرها، ما جعل الأدبيات تتناول القاهرة على أنها مدينة مشطورة ومنقسمة على ذاتها، كما ظهر في نمط العمارة.

والسؤال الذي طرحه فهمي في هذا السياق، هل نحن نتكلم عن مدينة واحدة أم اثنتين؟، وهو ما تناولته أدبيات ليس لها علاقة بالقاهرة وأخرى متعلقة بها، التي تحدثت عن النمط هذا من ناحية عمرانية وسياسي، إضافة لمن كتب عن نمط العمارة وتخطيط المدن الكولونيالي الذي اتبعه الفرنسيين في شمال أفريقيا والذي اتبعه الإنجليز في شبه القارة الهندية حيث قالوا إن هناك أنماط مختلفة من العمارة الكولونيالية.

ما الذي يجعل تخطيط المدن تخطيطا كوليوناليا؟

في المنطق الاستعماري، يرى باحثون كثر أنها ليست مصادفة أن يبنى بجانب أو بمحاذاة المدينة القديمة ذات الشوارع الملتوية والضيقة، شوارع مستقيمة، كما معالمها ومبانيها، بالإضافة للمسارح والأوبرا والمباني الحكومية وغيرها، وهذا يمثل في طياته رسالة أن المستعمرين أصحاب حضارة وعقلانية، قدموا ليبهروا أصحاب الأرض بهذه الآليات البصرية.

ومن عوامل الإبهار وفقا لفهمي الإبقاء على المدينة القديمة كمتحف، يوضع به السكان الأصليون، مقابل أن يقفوا مشدودين أمام الفرق الشاسع بين قسمي المدينة الحديثة والقديمة، لتبيان الفرق بين العقلية الخرافية الزائفة، تحت عبء الخرافة والدين والقذارة، والمدينة الحديثة التي تعبر عن السلطة الاستعمارية وعقلانيتها ورحابة صدرها وعدلها، وآليات الحكم الجديد التي قدمت به.

وعرض فهمي في محاضرته أدبيات كثيرة غربية تطرقت إلى القاهرة كمدينة منشطرة، حتى قبل أن تصبح نظريات المدينة الكولونيالية رائجة، ومتطورة.

روائح القاهرة كعامل دراسي لانشطار المدينة

ودرس المؤرخ مدى صحة انشطار القاهرة، من خلال عوامل مختلفة منها "روائح القاهرة" ذلك لملاحظته الكتابات الكثيرة حول هوس الأهالي والسلطات بالروائح الكريهة المنبعثة من المدينة، النابع من الخوف والهلع، وهو ما اعتبره أنه علامة على شيء خطير أولت له السلطات اهتمام.

وفي الفصل الثالث من الكتاب "الأنف تروي قصة المدينة"، تطرق فهمي إلى الواقعة التي حدثت لسيدة تدعى فضل واسع، والتي أنجبت طفلة متوفاة، ودفنتها، واكتشفها كلب تتبع رائحتها، فلحقتها السلطات وسألتها عن سبب عدم تبليغها عن الولادة والوفاة والدفن، وانطلاقا من هذا بحث فهمي عن المدافن في القاهرة ومتى امتلأت، ومتى أصبح إلزاميا التبليغ عن الوفيات والمواليد، ومن هنا لاحظ أن هذه الإجراءات هي علامات الدولة الحديثة التدخلية، التي تريد أن تنظم كل شيء وتتدخل في كل شيء حتى ما هو شأن خاص.

انطلاقا من القصة أعلاه، يأخذنا فهمي إلى باريس، حيث أولت السلطات اهتماما بالغا لموضوع الروائح، وجعلت من المدينة منطقة آمنة صحيا، الأمر الذي أبهر علي مبارك، وحاول نقل هذه التجربة إلى مصر، ما جعله يولي اهتماما هو الآخر بالأمان الصحي، وينشئ منافع صحية في مصر.

استنتاجات 

ويرى فهمي أن القاهرة الخديوية، ارتقت بصحة الناس، بمنطق نخبة بيروقراطية سياسية علمية مهتمة بتحسين صحة الناس.

وخلص إلى أن القاهرة المنشطرة إلى قسمين، أحدهما قديم وآخر حديث، لم تهمل كما يظهر العامل البصري، إنما بالارتكاز على العوامل الأخرى كالروائح وغيرها، سنكتشف أنها لم تهمل بدليل أن كل حي من أحياء القاهرة القديمة افتتح فيه مكتب صحة عمومية يقدم خدمة طبية صحية بالمجان للناس، بالإضافة لحملة تطعيم في كل المدينة ضد الجدري، إضافة إلى المستشفيات التي سخرت لخدمة الأهالي.

ويرى فهمي أن النمط التقليدي للكتابة يتكلم بشكل مفاهيمي عن حداثة وافدة، وباريس كنموذج وعن نخبة تنصلت من أصولها وأهملت تراثها والبلد، والنتيجة كانت الكشف عن نخبة تحوم فوق المجتمع لا تنصهر به ولا تمتزج معه وليست معينة به، وتنظر دائما إلى أوروبا.

أما كتابة فهمي غير المبنية على العامل البصري، تناولت تطور القاهرة من منظور آخر، وكشفت عن جوانب لم يكتب عنها في الأدبيات التي تناولت القاهرة المستعمرة ودرست تاريخها، وتوصلت إلى أن القاهرة لم تنشطر إلا بصريا وعمرانيا، في حين أن العوامل الدراسية الأخرى التي انتهجها فهمي تجعل الباحثين والمؤرخين ينظرون إلى التاريخ الاجتماعي والثقافي بطريقة مغايرة. 

هذا ويمكن مشاهدة المحاضرة كاملة عبر الفيديو التالي: