تدوين-يحدث الآن
اثنا عشرة سنة مضت على اندلاع الأزمة السورية، ولا يزال أكثر من 6 مليون لاجئ سوري يحلمون بالعودة إلى وطنهم، بعد أن حطت فيهم الرحال بمختلف بلدان العالم، وهناك أخذوا ينشرون ثقافاتهم وتقاليدهم، في محاولة منهم لاستعادة الرابط المشيمي بينهم وبين وطنهم الأم سوريا.
وانطلاقا من هذا أسست منظمة ناجون مشروعا أطلقت عليه اسم "رأس المعري"، وهو نصب تذكاري لأبي العلاء المعري، ليكون رمزا دائم التذكير بالقضية السورية، وأيقونة انتظار السوريين للسلام في بلدهم، ومثالا صريحا لكرامة المثقف غير المرتهن لأي سلطة سياسية أو دينية، وكذلك ليكون رمزا لمأساة اللاجئين والنازحين السوريين.
وقطفت المنظمة ثمار هذا المشروع، مساء الأربعاء بتدشينها لنصب أبي العلاء المعري في ضاحية مونتروي شرق العاصمة الفرنسية باريس، تزامنا مع الذكرى الثانية عشرة لبدء الأزمة السورية.
تقول ناجون: لرأس المعري المرفوع خارج موطنه رمزية استعادة السوري لحريته وكرامته، وله رمزية الخصوبة الفكرية، واعتماد العقل إماما يتخطى اليقين بالشك، يدعو صبح مساء لرحابة الفكرة ولذة السؤال، يطارد البحث والتجدد، ويبحث عن جوهر الحياة المرتجى يستصرخ الضمائر ويحفز إنسانيتها، كواحد من الناجين السوريين المتطلعين إلى تحقيق العدالة والسلام في كل مكان، وخاصة في وطنهم الأم سوريا".
وبعد إزاحة الستار عن التمثال، بدأت فعاليات التدشين بكلمة لمنظمة "ناجون" ولبلدية مونتروي منظمة المراسم. كما شاركت الفنانة نعمى عمران بفقرة موسيقية أعدتها خصيصا لهذه المناسبة، ومسيرة حداد صامتة تكريما لضحايا الأزمة السورية، وضحايا الزلزال في سوريا وتركيا.
كما تخلل حفل التدشينن مائدة سورية، وعرض لفيلم "ماء الفضة.. سوريا سيرة ذاتية" تلاه نقاش مفتوح بين الناقد السينمائي الفرنسي نيكولاس غوديت والمخرج السوري أسامة محمد.
وكان النحات السوري عصام الباشا قد أنجز تمثال المعري ذلك لأنه يراه "مرادفا للعقل، وهو ما ينقص مجتمعاتنا، حيث تسود الجهالة والإيمان بالغيبيات".
وفي حوار صحفي مع الباشا قال إنه اختار المعري نبراسا منذ يفاعته، بفضل إعجاب والده بآرائه. وسبق للنحات أن صوره نحتا في شبابه لكن استمرار الموت والخراب جعله يعيده.
أما في اختيار ناجون للمعري ليكون هو موضوع النصب، دوافع وأسباب كثيرة، لا تبدأ من كون المعري ثورة يتيمة في عصره، ولا تنتهي بكونه رمزا إنسانيا لحرية التفكير والشك والسؤال، ومثالا لكرامة المثقف الكوني المتعالي عن الارتهان لأي سلطة كانت، فهو أحد أهم رواد الإنسانية على الإطلاق في دعوته إلى مركزية العقل وضرورة النقد الاجتماعي والثقافي.
والمعري هو شاعر وفيلسوف، فقد بصره وهو ما زال في الرابعة من عمره نتيجة إصابته بمرض الجدري؛ إلا أن هذا الأمر لم يمنعه من تحصيل علمه، وخاصة أنه نشأ وتربى في بيت كان محبا للعلم؛ فنظم الشعر مبكرا، وسافر إلى بغداد طلبا للعلم، وأصبح من أبرز الفلاسفة والشعراء العرب.
وألف المعري في الشعر، وعلوم القرآن، والزهد، والوعظ، واللغة، والفلسفة، والنحو، والقواقي، والعروض، والألغاز، وكان إنتاجه الشعري والأدبي ما يقارب مئتي كتاب ورسالة.
بدأ المشروع بمرحلة تشكيل الطين إذ تضمنت هذه المرحلة تحضير كل ما يلزم المشروع من أدوات ومواد في غرناطة، وانتقل الفريق إليها في 24/4/2018 حيث يقيم النحات السوري عاصم الباشا، وهانك تكاتفت الجهود مع النحات ومساعديه في وضع الأساس الطيني للعمل، حتى بلغ وزن الطين المنحوت ثلاثة أطنان ونصف الطن و اســتغرقت عـملية النحت على الطين 26 يوما، وتم إنجاز المرحلة الأساسية بتوقيع الفنان على العمل النصبي الطيني.
أما المرحلة الثانية فكانت صناعة القالب والصب وبدأت بقدوم ورشة البرونز في 1/6/2018 وشرعت بأعمال القياسات من أجل صناعة القالب الذي تكوّن من 17 قطعة، واستغرق الأمر عشرة أيام تقريبا، لتبدأ بعدها عمليات الصهر والصب والتركيب ووضع الرتوش واللمسات الأخيرة من الفنان طيلة الشهور الأربعة التالية.
وكان النصب التذكاري لرأس أبي العلاء المعري قد وصل في الثاني من آذار الجاري إلى ضاحية مونتروي الباريسية، بعد رحلة استغرقت عدة أيام انطلاقا من مدينة غرناطة الإسبانية، وسيحتفظ به في مونتروي كمحطة أولى أو "وطن مؤقت"، وذلك خلال في رحلة العودة المنتظرة إلى مسقط رأس المعري في مدينة معرة النعمان السورية بديلا عن التمثال الذي نحته "فتحي محمد" عام 1940، وفجره متشددون متطرفون قبل نحو عشر سنوات.
وفي محاولة من ناجون للمساهمة في النهوض والتحرر الفكري للسوريين، ومساندتهم في مواجهة الفكر المتطرف، الذي قطع رأس تمثال المعري في موطنه معرة النعمان، أقامت مشروعا يكرم المعري، وأخذت تجول برأسه مرفوعا في المدن الأوروبية.
إذ افتتحت معرضا خاصا بنصب الشاعر والفيلسوف السوري أبي العلاء المعري، بالتعاون مع جمعية بالميرا في ملقا ليبدأ العمل جولته بين كل المدن الأوروبية التي يستطيع السوريون استقدامه إليها، احتفاء بالقيمة الإنسانية الرفيعة لمؤلف "رسالة الغفران"، التي كان تأثيرها عابرا للأزمنة، ولوضع بصمة ثقافية تليق بالسوريين، في شوارع وساحات أوروبا، وفقا للمنظمة.