السبت  23 تشرين الثاني 2024

عن الشعر الفلسطيني في يوم الشعر العالمي

2023-03-21 12:17:46 PM
عن الشعر الفلسطيني في يوم الشعر العالمي

تدوين- سوار عبد ربه

"يكفي نُطق اسم فلسطين حتى يحضر الشعر كضيف من تلقاء نفسه، ونادرا ما نجد في تاريخ الأدب اسم بلد، والأمر يتعلق هنا بفلسطين تحديدا، يستحيل في حد ذاته إلى شعرية، ويجب الإقرار هنا بأن المكانة تعود في جزء كبير منها إلى شعراء فلسطين من الرواد، ثم جيل الستينات والسبعينات، لتتعاقب بعد ذلك الأجيال لتغني هذه الشعرية وتحتك بالنزعات الجديدة للشعر المعاصر". بهذه الكلمات استهل الشاعر والمترجم عبد اللطيف اللعبي تقديمه لكتاب "أن تكون فلسطينيا .. أنطولوجيا الشعر الفلسطيني الراهن"، الصادر باللغة العربية عن منشورات المتوسط عام 2022، ويحوي مجموعة من قصائد شعرية مختارة لشعراء فلسطينيين من كامل جغرافية الأرض المحتلة وفي منافي العالم المختلفة.

وهو الكتاب الأحدث الذي يقدم قراءة  للشعر الفلسطيني الحديث، مستخلصا مجموعة من النتائج والتحولات والتحديات التي عصفت به وأثرت عليه.

وتفتح المختارات الموجودة في الكتاب، الراهن الشعري الفلسطيني من خلال الشعراء الواردين في الكتاب، وهي الأصوات التي أطلق عليها مؤلفا الكتاب "جيل الألفية الجديدة".

يقول اللعبي إن ما يميز شعر هذا الجيل "هو أن صوت الشاعر أصبح يركز على مأساته كإنسان وليس كشخص أو مجموعة أو قضية".

كما يتساءل الأديب ياسين عدنان، الذي أعد الكتاب رفقة اللعبي، في توطئته للكتاب: كيف نذهب باتجاه شتات الشعر الفلسطيني الراهن الذي يعرش اليوم مثل لبلاب في أرواح الأجيال الجديدة، ولا نتهيب؟".

وللوقوف عند هذا الطرح، التقت تدوين بعدد من الشعراء الفلسطينيين لسؤالهم عن أبرز ملامح الشعر الفلسطيني الراهن، موضوعاته، أشكاله الفنية، وغيرها، في محاولة لقراءته ضمن السياقين السياسي والثقافي.

الشعر ومواكبة مسار الحركات السياسية

يرى الشاعر ووزير الثقافة الأسبق إيهاب بسيسو أن الشعر لم ينفصل يوما عن ذاتية الشاعر ورؤيته الإبداعية الخاصة في تناول مختلف القضايا السياسية والاجتماعية ضمن سياق شعري يعبر من خلاله عن العديد من القضايا الشخصية والعامة. غير أننا وبشكل عام يمكن أن نلحظ بعض التغيرات الجوهرية منذ مطلع القرن العشرين على طبيعة الدور الشعري في الحياة العامة والذي واكبت فيه الحركة الشعرية مسار الحركات السياسية المختلفة للتحرر والاستقلال، خصوصا مع نهاية الحربين العالمينين الأولى والثانية ووقوع نكبة فلسطين عام 1948، حيث برز الشعر بقوة كأداة مقاومة ثقافية ضمن فضاءات الحركات السياسية والوطنية المناضلة والتي بدا واضحا استثمارها الفعلي في الكلمة والفنون بشكل نوعي ما شكل حاضنة للعديد من المبدعين والمبدعات.

إيهاب بسيسو: الشعر ما زال ينبض بكل مقومات الحرية غير أن البيئة المحيطة بالشعر والفنون هي التي تتغير ما يدفع أحيانا ببعض التغيرات على صعيد الدور والانتشار والتأثير

ويرى بسيسو أن التغيرات السياسية التي مر بها العالم منذ نهاية حقبة الاستعمار واستمراره في فلسطين، قام بالتأثير على مفهوم ودور المثقف والثقافة في المجتمع، لذا - رغم كل ما حدث ويحدث من تغيرات - يمكن القول إن الشعر ما زال ينبض بكل مقومات الحرية غير أن البيئة المحيطة بالشعر والفنون هي التي تتغير ما يدفع أحيانا ببعض التغيرات على صعيد الدور والانتشار والتأثير.

وفلسطينيا شكلت الثورة الفلسطينية على مر عقود مصدرا من مصادر الإلهام لمختلف المبدعين والمبدعات من فلسطين وحول العالم، ممن وظفوا إبداعاتهم المختلفة انتصارا للحرية والعدالة الانسانية، وفقا للشاعر.

إيهاب بسيسو

في المقابل، يقول الشاعر والإعلامي فارس سباعنة إن هذه النتائج التي خلصت إلى أن الجيل الجديد من الشعراء الفلسطينيين أصبح يركز على مأساته اليومية أكثر من تركيزه على القضية الفلسطينية، انطباعية وبحثها ليس عميقا أو تحليليا في مضامين النصوص، ولا تراعي التغيرات الكبيرة التي جرت على العالم عموما، خلال عشرين عاما تقريبا وأثرها على الحالة الفلسطينية، التي من الطبيعي أن يتأثر بها الشعر، بدءا من تأثيرات كبيرة للتكنولوجيا والاتصالات في الوعي الإنساني عموما بتعريفه لنفسه كفرد ضمن جماعة، وتأثر العلاقات الإنسانية بدعايات الدول الأكثر قدرة على الدعاية، فالممارسات اليومية للإنسان واتصالاته وتواصله مع بيئات اجتماعية مختلفة، لها تأثيرها في صياغة وجدانه، وإيقاعه النفسي، ولغته ... إلخ".

ويضيف: "كما أثرت نتائج المسار السياسي لمنظمة التحرير بعد اتفاقية أوسلو ونشوء السلطة على استيعاب الإنسان لعلاقة اليومي بالحكاية الجمعية، وانعكس ذلك على المؤسسات الراعية للفعل الثقافي من مؤسسات ثقافية، ودور نشر، وصحف ومواقع ... إلخ".

ويؤكد أننا لا نستطيع القول إن الشعر أصبح يركز على المأساة اليومية أكثر من القضية الفلسطينية، لأن الحقيقي أن الاحتلال الإسرائيلي بالنسبة للفلسطينيين هو سبب كل مآسيهم.

أما الشاعرة ورئيس تحرير صحيفة الحدث رولا سرحان فتعتبر أن "مسألة ذاتية الشاعر وانفصاله عن قضيته هي مسألة تحتاج إلى تقييم في حد ذاتها حتى يكون في مقدورنا توصيف المشهد الشعري في فلسطين. لكن إذا ما أردنا الحديث عن التصاق الشاعر بذاته والتعبير عنها، أعتقد أن هذا الكلام نسبياً صحيح، وأقول نسبياً، لأنه في سياقات سياسية واجتماعية معينة يُصبح الإنسان هو القيمة الأعلى."

رولا سرحان: هنالك محاولات لتطبيع معنى الاعتيادي من خلال الرديء، بفصله عن فكرة التحرر، بحيث تصبح المسألتان متباينتين، في حين أنهما متشابكتان

وترى سرحان أنه في السياق الفلسطيني، يوجد صعوبة في فصل ذات الشاعر عن قضيته، حتى وإن أراد الشاعر أو الشاعرة التركيز على القضايا اليومية الحياتية الاعتيادية، فإنه لن يكون في مقدوره ذلك على إطلاقه إلا إذا كان معزولاً عن واقعه تماماً، هنا تصبح ذات الشاعر انطوائية وأنانية حينها لا أستطيع أن أجزم بأن ما يكتبه هو شعر. أما القول بالانفصال ما بين الشاعر الفلسطيني وقضيته هي الحالة العامة، فما هو إلا إجحاف بحق الشعر والشعراء في فلسطين عموماً، وأعتقد أن سببها هو انتشار بعض أشكال الرداءة في النصوص المنتجة. فضلاً عن أن هنالك محاولات لتطبيع معنى الاعتيادي من خلال الرديء، بفصله عن فكرة التحرر، بحيث تصبح المسألتان متباينتين، في حين أنهما متشابكتان. بحيث نصبح أمام تيارين- إن جاز القول- أحدهما يُنتج الاعتيادي الرديء المنفصل عن سياق الفلسطيني، وتيار آخر من الشعراء الذين لا يمكنهم الكتابة عن "الاعتيادي" في واقع "لا اعتيادي".

أوسلو والموجة الجديدة من الشعر في فلسطين

يفسر الشاعر فارس سباعنة  في لقائه مع تدوين ملامح الشعر الفلسطيني الجديد في أنه يحلم بالحرية والعدالة، وإذا كان له فعل صدامي سيكون مع الجهة التي تحرم الشاعر من حريته وتمارس ضده الظلم، بغض النظر إذا كانت قبيلة أو سلطة محلية أو احتلال، وللحقيقة أن الإنسان بعد أوسلو اصطدم بمزيج قمعيّ مركّب، فقد نشأت تحالفات بين كل أشكال السلطة المذكورة، قبيلة وسلطة وحزب سياسي واحتلال، جعلت مقولة (السلطة المركبة) نفسها غامضة ومزيفة ومثيرة للريبة، وهي غير قابلة للتعاطي معها بشكل أحادي. كما انكشف للإنسان توجهات الإعلام غير الحيادية غير النزيهة، كل ذلك، وغيرها من الأسباب التي لا يمكن حصرها هنا، جعلت الشعر يبحث في مساحات أخرى وتراكيب جديدة للتعبير عن حلمه بالحرية والعدالة.

أما الشاعر إيهاب بسيسو فيرى أن اتفاق أوسلو خلق حالة من الإرباك على المستوى الثقافي ولغة الخطاب المناضل في الشعر الفلسطيني والفنون الفلسطينية بشكل عام، دفع الكثير من المثقفين إلى اتخاذ خيارات فردية أحيانا قد لا تنسجم مع الحالة السياسية الوليدة وذلك لضمان حالة من الاستقلالية الإبداعية أو لنقل حالة من التوزان الثقافي بين الفضاء السياسي الجديد وإرث النضال الوطني، مشيرا إلى إن الإرباك الثقافي قد تطور مع الوقت إلى حالات مختلفة من الإرباك السياسي بين ما يمكن فعله ثقافيا وسياسيا لصون روح ونبض العمل الوطني من أي حالة عبثية هدفها تفتيت الوعي الفلسطيني لصالح عدمية ضبابية مطلقة.

واعتبر بسيسو أن هذا التباين بين الأزمنة السياسية سمح بخلق مفردات جديدة، أكثر ميلاً للذاتية وأكثر انسجاماً مع تطور أشكال القصيدة الفنية من أجل ضمان استمرار الفعل الثقافي في خلق هذه الحالة الضرورية لديمومة الوعي رغم كل التحديات.

رولا سرحان

في المقابل، ترى الشاعرة رولا سرحان إنه يجب أن نطرح سؤال "ما الذي غيرته أوسلو فينا كفلسطينيين أولا قبل أن نتساءل عما غيرته في الشعراء ونصوصهم" ، وتقول: "مما لا شك فيه أن أوسلو ضربت المعيار القيمي عند الفلسطينيين عموماً، لأنها عملت على إعادة تشكيل وعي الفلسطيني بفصل التحرر عن فكرة المقاومة وربطه بالاستقلال عبر المفاوضات. ولأن أوسلو كان بنية متكاملة، لها أدواتها وأذرعها الإعلامية والثقافية كما خطابها التي عملت جميعها على "ركلجة" الوعي الوطني وأعادت صياغة فكرة الفلسطيني عن نفسه وعن هويته وعمن يكون، فقد نجحت في مرحلة ما في مسعاها. ولكن الأمر الذي يدعو للتفاؤل هو أن أوسلو انتهت، وإن ما زال شخوصها موجودون. بالتالي، فالفلسطيني الحر اليوم في مواجهة مع الشخوص الذين يريدون بعث الحياة في أوسلو، ولا يريدون الاعتراف بانفصالهم عن الوعي الفلسطيني الذي يستنهضُ نفسه من جديد ويسترد عافيته، ويعيد المعاني الحقيقية لقيم أساسية في نضال الفلسطينيين". وتضيف "من هنا، نستطيع العودة إلى السؤال حول بنية القصيدة الفلسطينية ليس بعد أوسلو، وإنما عن القصيدة الفلسطينية الآن، بعد معارك جنين، وحروب غزة، والعمليات الفدائية الفردية التي لم تعد تتوقف، هنا يفرضُ السياق نفسه، فما يحدثُ هو مسار تصويبي ليس للسياسي فحسب وإنما أيضاً للثقافي، للرواية والشعر، وحتى المقال الصحفي كما الإنتاج المعرفي حول فلسطين عموماً. أي أن السؤال هنا بالأساس هو سؤال عن المثقف وعن دوره وعن استجابته للأحداث وتعبيره عنها، وبالتالي هو سؤال عن خياراته في الأساس."

ملامح الشعر الفلسطيني اليوم

يقول إيهاب بسيسو في هذا الجانب إن الشعر الفلسطيني يستمر في نحت علاقته مع الأرض والهوية والصمود ويتحدى سطوة المنفى والعزلة والاغتراب بأنماط مختلفة تؤسس لحالة شعرية مميزة ضمن البيئة الإبداعية العربية والانسانية.

كما أن دور الشعر يكمن وفقا لبسيسو في الانتباه والتحفيز والتأمل وصياغة البيان الجمالي والانساني للثقافة، بهدف صون الحرية الإبداعية من محاولات الاضطهاد والقمع الاستعماري والرقابة.

فارس سباعنة: العدمية والعجز هما السمتان الأبرز للشعر الفلسطيني الحديث، حتى ذلك الذي يحتفي بالطبيعة والألوان هو عاجز عن قراءة نفسه ضمن حكاية إنسانية

في حين يرى سباعنة أن النص الشعري هو شبكة علاقات عابرة للزمان والمكان في وجدان الإنسان الشاعر، يعبر عنها بمستويات متفاوتة معتقدا أن العدمية والعجز هما السمتان الأبرز للشعر الفلسطيني الحديث، حتى ذلك الذي يحتفي بالطبيعة والألوان هو عاجز عن قراءة نفسه ضمن حكاية إنسانية، فالشعر هو شكل من أشكال التعبير القصصي المكثف في موقف أو حالة يعيشها الإنسان، والحكاية أو القصة لا يمكنها أن تقتصر على وصف المعاناة، والصور الإخبارية.

بينما تشير سرحان إلى وجود حالة من الفوضى الشعرية، سببها بشكل أساسي غياب النقد الجاد والحقيقي لما يمكن أن يشكل، أو أن نقول عنه بأنه شعر فلسطيني.  وهي ترى أن أفضل شعر يمكن أن يوصف بأنه شعر فلسطيني هو ما يستطيع أن يمزج بين الفردي والجمعي، أي مدى معرفة الشاعر بذاته وأقصى ما يمكن أن يفهمه ويعبر عنه من واقعه المعاش تحت الاستعمار الصهيوني. 

فارس سباعنة

تحديات لا يمكن حصرها

وانطلاقا من المحاور أعلاه، يلاحظ أن الشعر الفلسطيني في هذه المرحلة يعاني من تحديات كبيرة ومتشابكة، يلخصها بسيسو في تحديات ذات طبيعة سياسية اجتماعية وأخرى ثقافية فنية.

وفي التفاصيل، يقول الشاعر بسيسو أن الرقابة السياسية والمجتمعية دفعت إلى تشكيل رقابات ذاتية عفوية، انعكست على النتاج الشعري كما على غيرها من الفنون وساهمت في تقوقع التجارب الفنية في مساحات تكاد تكون مغلقة.

كذلك غياب المطبوعات والمنصات النقدية الرصينة أو تراجعها عن تناول الإبداعات الشعرية الجديدة والمختلفة ساهم في عزل التجارب الشعرية بشكل كبير عن سياقها المجتمعي والسياسي والفكري ودفعها إلى الانعزال نسبياً في تكوينات ثقافية محددة.

إضافة إلى ما يمكن وصفه بخمول الدبلوماسية الثقافية عن فتح آفاق عربية ودولية للثقافة الفلسطينية بشكل عام والشعر بشكل خاص بما يشمل حركة نشر وترجمة نشطة ولقاءات شعرية عربية دولية دفع الكثير من التجارب الشعرية  إلى البحث عن خيارات فردية للانتشار والتفاعل الأدبي.

من جانبها ترى الشاعرة سرحان أن التحدي الأبرز هو ضحالة الحالة الثقافية في فلسطين، والتي هي انعكاس للواقع السياسي عموما، والتي كانت نتيجة فصل الثقافة كمكون أساسي عن مكونات العمل السياسي. بالتالي، أصبحت قيمة الإنتاج الثقافي عموماً تساوي صفرا في ميزان السياسي، بحيث لم يعد من قيمة أو معنى لا لما ينتجه الشاعر أو الروائي أو المثقف عموماً في الفعل السياسي، محملة المثقفين جزءا من المسؤولية، لأنهم غير قادرين على فرض أنفسهم، أو تحمل وزر المواجهة التي هي ضرورية لإعادة الاعتبار لذات المثقف ودروه.  

أما الشاعر سباعنة فيرى أن التحديات المنوطة بالشعر لا يمكن حصرها، ذلك على اعتبار أنه مجموعة اقتراحات لمبان فنية حساسة لإيقاع الحياة التي يعيشها الشاعر تحاول أن تقدم صوته الخاص بعيدا عن الضوضاء الفكرية والذهنية، لكن أبرزها هو ضيق آفاق حرية التعبير وتكاثر أشكال القمع، ابتداءً من قمع وسائل التواصل الاجتماعيّ التي تعتبر ردة الفعل على العنف الإسرائيلي تحريضاً على العنف ومعاداة للسامية، وقمع السلطة الحاكمة المباشر وغير المباشر، والقمع الاجتماعي أو السلطة الاجتماعية، وغيرها.