تدوين- ثقافات
لم تكن ريم البنا مجرد مطربة عادية في تاريخ الأغنية الفلسطينية، التي ستتوقف عندها طويلاً، كي تتمكن من تفكيك أسطورة تأديتها لأغانيها، واختيارها لألحانها. فريم، التي امتازت بعذوبة الصوت، ومقدرة خامته الغنائية على بث الطمأنينة والدفء، رغم صعوبة الموضوع وتدفقاته الحزينة، كانت بمثابة الرحالة، التي ترتحلُ من موضوع إلى موضوع في رحلة واحدة، فلا يجد المستمعُ مقاماً لها، فيتماهى هنا مع فكرة الرحيل المستمر، من وإلى الوطن، من وإلى القضية، من وإلى الحب الإلهي المتصوف.
يُصادف هذا اليوم ذكرى رحيل الفنانة ريم البنا، التي صارعت مرض السرطان وانتصرت عليه مرتين لكنه غلبها في المرة الثالثة. ريم المولودة في 6 ديسمبر/كانون الأول 1966 في مدينة الناصرة بالجليل شمالي فلسطين المحتلة عام 1948، هي ابنة الشاعرة الفلسطينية زهيرة صباغ. تزوجت عام 1991 من الموسيقي الأوكراني ليونيد أليكسيانكو الذي درس معها الموسيقى والغناء، وأنجبا ثلاثة أطفال، لكنهما انفصلا عام 2010.
معظم أغاني ريم من تأليفها، كما أن لديها طريقة موسيقية مختلفة في التأليف والغناء، فكلمات أغانيها مستوحاة من وجدان الشعب الفلسطيني وتراثه وتاريخه وثقافته، حيث تعبر أغانيها عن معاناة الشعب الفلسطيني كما تعبر عن أفراحه وأحزانه وآماله. تتميز أنماطها الغنائية بالانفراد في التقديم، وهي تهاليل تراثيّة فلسطينيّة، أبدعت في أدائها والتصقت باسمها.
يمكن القول إن موسيقى ريم تنتمي إلى ذلك النوع من الموسيقى الذي يتعدد فيه الواحد في الكثير، وإن كانت توجهاته واحدة وهي توجه وطني ملتزم، إلا أنه يضفي نوعاً من التنوع في كيفية نظرة الفلسطينيين إلى ماضيهم. هنا يبرز مفهوم المقاومة الثقافية، التي تعيد اختراع الماضي عبر أنماط متعددة بطرق أكثر ارتباطاً بل تنوعاً فيما يتعلق بإعادة تقديم ماضي الفلسطيني، وإعادة النظر في سؤال ما الذي يعنيه لنا ذلك الماضي.
وبينما تبذل دولة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلية قصارى جهدها لإنكار الثقافة الفلسطينية ومحوها، تأتي ريم، في رحليها، لتضيف قيمة جديدةً لمعنى الثقافة في ظل الاستعمار. فإذا كانت الصفة الأهم للاستعمار الاستيطاني الصهيوني هي في الأساس المحو الثقافي، واستحلاله، يتعاملُ الفلسطينيون مع هذه الفكرة باعتبارها حقيقية يومية تجب مواجهتها، واجهتها ريم بإعادة إحياء التراث الفلسطيني، والإضافة له، كما تطوير مواضيعه، وواجهتها بعد رحيلها بأن تركت لنا إرثاً ثقافياً بحاجة لأن يتم الحفاظ عليه، كما فهمه وتدرسيه ودراسته.
ماتت ريم ، لكن أغنياتها وألحانها ما زالت حاضرة ولا يمكن ترويضها بالبنادق أو حبسها خلف جدار الفصل العنصري.
كانت ريم بنا صوت فلسطين الذي لا يمكن إسكاته أبدًا، لأنه يظلُ يرحلُ من رحيله، ويأتي بإرثها الذي تركته لنا ليظل صوت فلسطين كما أرادت ريم إيصاله، يغني ويغني حتى الحرية.