تدوين- نصوص
اختارنا لكم في تدوين، نصا من رواية الأسير سائد سلامة التي تحمل عنوان "العاصي" الصادرة عن دار الفارابي عام 2022.
والأسير سائد سلامة هو أحد أبرز قيادات الحركة الأسيرة وأقدم أسرى الجبهة الشعبية المقدسين، ويصادف 30 آذار- مارس ذكرى مرور 23 عاماً على اعتقاله.
وكان الأسير سلامة قد اعتقل بتاريخ 30 آذار - مارس 2001، وأدانته محكمة الاحتلال الصهيونية بتهمة الانتماء للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ومُشاركته في خلية عسكرية، ويقضي حكمًا بالسجن لمدة 24 عامًا، وقد تنقل في سجون عدة، وهو يقبع حاليًا في سجن "نفحة".
وُلِد الأسير سائد سلامة في بلدة جبل المُكبر في القدس المُحتلة عام 1976 وبرفقة مجموعة من أبناء بلدته التحق بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
كما عُرف سائد بين رفاقه كمناضل ديناميكي لا يهدأ وثوري مبدأي لا يتراجع ما أهله للانخراط في قوات المقاومة الشعبية ( الذراع العسكري للجبهة الشعبية بدايات اشتعال انتفاضة الأقصى عام 2000).
نَفَذ سائد مع رفاقه في قوات المقاومة سلسلة عمليات كفاحية أوجعت العدو قبل اعتقاله بتاريخ 30/3/2001.
تعرض سلامة لجولات تحقيق طويلة ومُكثفة داخل سراديب الموت الصهيونية قبل أن يصدر حُكماً بسجنه لمدة 24 عاماً.
شارك سلامة في كل معارك الحركة الأسيرة كقائد وُمنظر ورجل صدامات دائمة مع إدارة مصلحة السجون ما عرضه للحرمان من الزيارة والعزل الانفرادي أكثر من مرة.
قدم للرواية الناقد والمفكر فيصل دراج. وقال فيها: "إنّ الأسير سلامة يستأنف في "العاصي" رواية المقاومة الفلسطينية بمنظور جديد، يفصل بين الوعي الوطني المتسق ووعي مهزوم ملتبس، ينتسب إلى فلسطين وينسى معناها، ويهمّش دلالات الكرامة والهوية والذاكرة الوطنية، ويكتفي بفتات السلامة الذاتية والربح الرخيص، ويعبث بصور الشهداء وتضحياتهم.
وتستذكر الرواية قيم الكفاح التي حفظت وحدة الشعب الفلسطيني وتندّد بنقائضها معلنة بصوت عالٍ، عن زمن مقاتل سبق الفعل السلطوي الراهن عن زمن متساقط تلاه استعاض عن المواجهة بالتخاذل، وعن المصلحة الوطنية الجامعة، بمصالح فئوية مسلّحة، تدّعي الدفاع عن فلسطين وتلقّن الفلسطينيين دروس الإذعان، متوسّلة ثنائية التجويع والترهيب، كما لو كان الفلسطيني لا يحصل على "خُبْزِه المرّ" إلا إن كان خاضعاً...".
وفيما يلي مقطع من روايته "العاصي":
عند مفترق مستوطنة "أرئيل" الجاثمة على أراضي أكثر من قرية فلسطينية في منطقة سلفيت، نزل ساري من الحافلة. كان ثمة محطة على بعد بضع عشرات من الأمتار في الجهة المقابلة من الشارع. نظر في الأنحاء نظرة شاملة، ثم صوّب ناظريه محدقاً باتجاه المحطة. كانت فارغة إلا من شخص واحد. وبدا من لباسه الخاص الذي يتدلى "التالم" منه، والقبعة التي يعتمرها أنه مستوطن. مضى ساري نحو بخطى ثابتة واثقة، لكنه ما لبث أن أحجم عن متابعة سيره.
كان يطغى عليه شعور بالاندفاع المحموم كأنه لا يملك جماح نفسه المتحفزّة، وقد أدرك خطبَ نفسه، وأنها قد تورده موارد الإخفاق إن طاوعها، لذا فقد آثر أن يتأنى علّه بذلك يقوض ثورة انفعاله، ويملك زمام أمره، فأشعل سيجارة وأخذ يمجُّها ببطء، ثم انتحى رابية صغيرة على جانب الطريق واقتعد صخرة عليها. وراح يتأمل المستوطن بعيون نافذة. وقد تساءل في نفسه وهو يرقب حركاته وسكناته:
"لعله الآن يُحس اضطراباً في نفسه وهو يقبع وحيداً في هذا المكان الغريب أو لعله يشعر باطمئنان يغمر روحه التي خرجت من كتب التاريخ وأتت إلى هنا لتأتلف مع هذا المكان. ترى من منّا الذي أتى إلى الآخر؟
وهل يكون سوءُ حظٍ قد ساقه إلى هنا في هذا اليوم، وهذه الساعة؟ ولماذا هو بالذات؟
لبث ساري يلاطم دوامة خواطره برهةً من الزمن، كانت صورة الشاب الفلسطيني الذي أجهز عليه الجندي الإسرائيلي تتراءى له كأنها تتمثل أمامه عند تلك المحطة التي يقف بها المستوطن. كان المستوطن يقف في الجهة المقابلة من الشارع الذي يتألف من مسلكين متعاكسين في الاتجاه الذي يفصل بينهما جزيرة اسمنتية تمتدُ على طول الشارع، قطع ساري المسلك الأول. وطفق يسير نحو المستوطن على نحو مباشر، وربما أثار ذلك ريبته، إذ حين وصل ساري إلى الجزيرة وبينما كان يتحيّن الوقت الملائم لقطع المسلك الثاني وقعت عيناه بعيني المستوطن، فتبادلا نظرات متوجسّة يكتنفها الغموض وهي على ذلك. ما كانت لتخلو من حوار مضمر يثير غريزة الاحتراس والتهيّب.
خلا الشارع من السيارات المارة، فاستأنف ساري سيره قاطعاً المسلك الثاني. كان المستوطن يحدّق إلى ساري بنظرات لاهبة كأنما انجلى له ما يكمن في سرّه وما تخفي نياته، لكن ساري من جانبه، ظل مواظباً على وتيرة سيره الاعتيادية محاولاً بث انطباع يدحض كل ريبة، حتى غدا على مقربةٍ من المستوطن. حاول المستوطن أن يتصنّع الهدوء واللامبالاة حيثُ أشاح بوجهه من ناحية ساري. غير أنه لما استدار على عقبيه بعد لحظة، وجد أن المسافة بينهما قد تلاشت وأصبحت صفراً ثم بلمح البصر استلّ ساري إحدى السكينين اللتين بحوزته وأغمدها في صدر المستوطن. خرجت عن المستوطن صرخة هادرة تبعث على الرعب، غير أن ساري تمالك نفسه وتثبّت، وهمّ به يريد الإجهاز عليه، لكنه ما كاد يسحب النصل ليوجّه له طعنة ثانية حتى دفعه المستوطن دفعة قوية من حلاوة الروح وأخذ يعدو هارباً لا يلوي على هدى، فيما كانت الصرخات تصدر عنه وتتصادى في الأنحاء.
تحرر ساري من الحقيبة التي كان يحملها على ظهره وشرع يطارده كي ينال منه على التمام. كان المستوطن يجري في عرض الشارع والدم ينفر من صدره، وقد أخذ يتداعى مترنحاً، فيما أصبح ساري يقلص المسافة بينهما ويقترب منه. وحدث في تلك الأثناء أن سيارة كانت تمر من هناك. كانت السكين مشرعة في يد ساري والدماء تقطر منها، وقد بدا واضحاً أنه يلاحق الشخص الذي يعدو أمامه. زاد السائق من سرعة السيارة وانحرف بها فجأة نحو ساري فصدمه صدمة مباشرة.
سقط ساري على الأرض مرتطما بالإسفلت. وكانت السكين قد افلتت من يده فسقطت من يده فسقطت على مسافة منه. أخذ يزحف نحو السكين حتى بلغها، ولكنه لدهشته وجد بأنه عاجزٌ عن القبض عليها، إذ اكتشف حيندئذ أن يده كانت تنزف.
تجاسر على ذاته الكليمة وأخذ يستنهض عزيمته، فإذا به يقف على قدميه، ثم طفق يجيل النظر حوله فوجد أن سيارات المستوطنين قد بدأت تتجمع حول المستوطن الجريح، فرسخ لديه أن السيارات العسكرية قد باتت في طريقها إلى هنا. فرأى أن من الصواب أن يشرع في الفرار قبل وصولها.
كان الشارع الفرعي ممتداً أمامه يشق القفار، وكان بادياً بأن أقرب مكان مأهول يستلزم قطع مسافة ليست قصيرة. انطلق ساري بخطوات ثقيلة في ذلك الشارع وهو يدرك بأنه إنما يفر من الموت المحقق.
كان يشعر بالآلام تسري في خاصرته وأطرافه، وكان جسده متهالكا من وقع الصدمة التي تلقاها. غير أنه تجلّد وأخذ يغالب نفسه ويحملها على المجاهدة والثبات. راح يقطع المسافات دون توقف فكان يحسّ بصدره كأنما نار أتونٍ تلتهب فيه، وبحلقه كأنه يتشقق من شدة الجفاف.
كانت أصوات صافرات سيارات الإسعاف والسيارات العسكرية تتناهى إليه وقد هرعت إلى مكان الحادث. توقف لحظة يلتقط أنفاسه ثم أخذ يلتفت بعيون متفحصة في الاتجاهات كافة يستطلع حركات الدوريات العسكرية. ويعاين الطرق وتباعد المسافات. فوجد من الصواب أن يستمر على حاله ويواصل سيره على الإسفلت. وأن لا يتنحى عنه إلى الدروب الجبيلة التي لن يقوى على المضّي في مسالكها وهو على حالته المزرية تلك.
لبث ماضياً في ذلك الشارع الذي يطؤه لأول مرة وهو بالكاد يتمالك نفسه ويسيطر على جسده. مرت عشر دقائق تقريباً من دون أن يلحظ أية حركة للسيارات العسكرية، خصوصا في الشارع الفرعي الذي اتخذه، الأمر الذي أدخل إلى نفسه شيئا من الهدوء والسكينة. كان ذلك في ذاته مدعاة إلى تحفيزه. فأخذ يستحث جسده على التجلّد والمواصلة وهو ويُمنّي نفسه بقرب الانفراج والوصول إلى منطقة آهلة قبل احتدام المطاردة.
كان الوقت يمضي مسرعاً وقد أصبح هاجسه المُلح أن يتوارى عن أعين الجنود بأسرع وقت، أولئك الذين بات من المؤكد أنهم قد شرعوا في ملاحقته. اقترب من منعطف حاد بحيث كان يُخفي ما وراءه. وما أن تجاوزه حتى ألفا مجمعاً للسيارات العمومية. كان ذاك يقع في أول البلدة التي قصد إليها دون أن يعرفها.