تدوين- ثقافات
ننشر فيما يلي رسالةً مترجمةً من الفرنسية كتبته سيمون دي بوفوار إلى نيلسون ألغرين. ودي بوفوار هي كاتبة ومفكرة فرنسية، وفيلسوفة وجودية، وناشطة سياسية، ونسوية إضافة إلى أنها منظرة اجتماعية. ورغم أنها لا تعتبر نفسها فيلسوفة إلا أن لها تأثير ملحوظ في النسوية والوجودية النسوية. كتبت دي بوفوار العديد من الروايات والمقالات والسير الذاتية ودراسات حول الفلسفة والسياسة وأيضاً عن القضايا الاجتماعية. أما ألغرين فهو كاتب أميركي، جمعته علاقة حب بسيمون دي بوفوار، أما روايته الأشهر فهي «الرجل ذو الذراع الذهبية» الصادرة عام 1949، التي تعد أول رواية واقعية سوداء في الولايات المتحدة، خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كما فازت بأول جائزة قومية للرواية عام 1950، وتحولت إلى فيلم أمريكي عام 1955، قام ببطولته فرانك سيناترا.
وفيما يلي النص مترجماً:
أنتَ حاضر دائما تسكن فؤادي، عليكَ أن تعلم ذلك.
*الأربعاء (بدون تاريخ)
أحببت عنوانكَ ''المهجَّنُ والمهرِّبُ''، جملة ترِنُّ.
حبيبي نيلسون، وصلتني رسالتكَ ذات اللون الأصفر بحجمها الكبير، مع صور صغيرة، كم أحببتها! بدت الصورة التي ضمَّتنا معا وفق المستوى المطلوب، تتمتع حقا بوجه رائع ''طازج''.
كيف يمكن لرسالة مني أن تحرجكَ؟ ما أرسله لكَ غمره دائما حب طافح.
حبيبي،
سواء فترات انكبابي على الكتابة أو أشرب نخبا، وحيدة أو رفقة أشخاص، فأنتَ حاضر دائما تسكن فؤادي، عليكَ أن تعلم ذلك.
أيضا، شرعتُ في وضع لبنات برنامجي حين قدومي عندك إلى أمريكا، سنكون سعيدين.
سأرسل اليوم هذه الرسالة.
إذن إلى اللقاء
أحبّكَ يا مجنوني.
*ليلا في وقت متأخر
شعرت بالاستياء قليلا نحوكَ حينما قرأت بأن رسالتي أثارت حفيظتكَ.
غباء مفرط، حتى بالنسبة لمجنون مثلكَ، إبداء حسِّ عدم الارتياح جراء رسائل مفعمة بأعمق مشاعر الحب.
نيلسون حبيبي،
يصعب علي تحمل مشاعر الإحساس، بأنكَ لست على ما يرام نتيجة كلامي، مع ذلك قد تحدث أمور من هذا القبيل، لكن خاصة أخبرني، ولنحاول باستمرار الإفصاح عن الحقيقة، وتجنب كذب أحدنا عن الثاني.
كلام جعلني أذرف الدموع، وأحسست بغرامكَ عبر سطور ماكتبته.
*السبت صباحا 28 يونيو 1947
نيلسون، حبيبي
أجواء باريس سيئة، مكثت هناك لمدة يومين، تحت وطأة حرارة لم تعرفها المدينة منذ سنة 1900. لحظتها، حلَّق ذهني صوب شيكاغو، فالحياة قاسية هناك أيضا، وحرارة الطقس، على امتداد شارع وابانسيا.
نعاين هنا جريمة قتل، مثلما تقولون في أمريكا. بالتالي أن تبادر إلى الكتابة أو القيام بعمل معين، يقتضي الأمر طاقة كبيرة.
تناولتُ البارحة العشاء صحبة المرأة البشعة (أخبرتك عنها سابقا)، داخل مطعم أثري فاتن ينتمي لأروقة القصر الملكي (1)، احتسينا نبيذ الشامبانيا. لكن ما دواعي إقبالنا باستمرار، أنا وهي، على الشامبانيا؟ لا أملكُ حقيقة جوابا.
أيضا، تواجد في عين المكان جان كوكتو (الشاعر الفرنسي الشهير، اللُّوطي، قارب عمره ستين سنة) يرافقه ثلاثة شباب مثليين، يحظون بوسامة كافية.
انخرطنا جميعا في نقاشات خلال مدة معينة، بدا كوكتو ودودا للغاية، ومَرِحا جدا.
بما أنه لا تتجلى إمكانية أخرى أمام المرأة البشعة سوى أن تكون بدورها مثلية، فقد كنتُ الوحيدة ضمن المجموعة صاحبة التوجه الجنسي المغاير، محض انحراف أكابده، وفق تصور هؤلاء.
انبعث ضحكي وأنا أتابع طريقة تصرف هؤلاء المثليين: مجهودات كبيرة حتى يكتسب مظهرهم فحولة، واتسام مظهرهم بالصلابة، وقد غمرت مختلف ذلك أنوثة دفينة.
جميعهم أصدقاء المرأة البشعة، أظني هيأت للأخيرة الأفضل، بحيث ساعدتها كي تتطور على مستوى الكتابة ثم تنسج علاقات صداقة بفضل مؤلفاتها، لذلك لم تعد قط تعيسة مثلما السابق. إنها بالتأكيد المرأة الأكثر إثارة للاهتمام التي تعرفتُ عليها وقضينا معا أمسية رائعة.
قبل ذلك، خلال فترة الظهيرة، أقامت دار النشر غاليمار احتفالا أدبيا كبيرا، تخللته بهذه المناسبة مأدبة طعام مهمة: تسليم كاتب شاب جائزة مالية تقدر بمائة ألف فرنك، وقد حصل عليها شاعر معروف أيضا بميولاته الجنسية المثلية، حدثتكَ عنه في مناسبة سابقة (2)، طفل لقيط أضحى لصا ثم بعد ذلك مؤلف كتب فاحشة رائعة.
حاليا تؤثث صوره كل الجرائد، علما بأن خلِيلَه يقضي حاليا عقوبة سجن تقارب مدتها ثمان عشرة شهرا، لأنه انتشل من فندق كبير ملاعق فضية صغيرة. كان سعيدا لحصوله على المبلغ المالي، ومتذمرا في الآن ذاته من الصور.
بعد ذلك، دائما داخل فضاء غاليمار، حفلة كوكتيل على شرف جون ستاينبيك، لكن في خضم وجود حشد هائل، فقد حال ذلك بيني ولقائه شخصيا.
تحضر حاليا إلى باريس حشود أمريكية، فلماذا أنت حبيبي لست ضمن هؤلاء؟
طيلة اليومين المنصرمين، استمر لقائي بصديقة قديمة تعرفت عليها قبل عشرين سنة تقريبا، سيدة عجوز جذابة، لاسيما، ألهمت إعجابي وأنا صغيرة بينما كانت تبلغ من العمر أربعين سنة: اعتقدتُ آنذاك رائعا ومذهلا بلوغ امرأة سن الأربعين، وقد حدث معي السياق حاليا ثم أدركتُ بكيفية ملموسة بأنها مرحلة مقارنة مع باقي الأعمار، ليست أفضل ولا سيئة.
بلغت هذه السيدة راهنا عقدها السادس، ولم تعد قط تجذب اهتمامي، مع ذلك لا زلتُ أحبها بسخاء. اصطحبها ثنائي شاب وشابة، وأصدقاؤها بمثابة أصدقاء لي. بالكاد استعادت الشابة عافيتها بعد أن ازدردت دبوسا!
منذ بضعة أيام على متن سيارة، أدت رجة مباغتة إلى ابتلاعها دبوسا ضخما، تغافلت عنه بين شفتيها.
هكذا نقِلَت سريعا إلى المستشفى وظلت تحت العناية الطبية لمدة أربعة أيام. بفضل أشعة x تمَّ اقتفاء أثر الدبوس داخل المعدة، وانزلاقه نحو الأحشاء، وأخيرا التمكن منه وإخراجه.
لو حدث معي نفس الأمر لأصابني الرعب، غير أن هذه الفتاة تعيش باستمرار مغامرات من هذا القبيل، وضع مرهق بالنسبة لزوجها المسكين.
طيب حاليا، سأعود إلى العمل، الاشتغال على موضوع النساء، بهذا الخصوص اتفقت مع هيئة تحرير مجلة نيو- يورك كي ينشروا بعض ما كتبتُه، وقد وصلتني مئتان وخمسون دولارا كدفعة أولى، ثم نفس المبلغ حين صدور المقال.
حبيبي، سأودِع هذا المال في نيويورك، لأنه سيمنحنا إمكانية قضاء أيام معا في مدينة أورليانش الجديدة.
أن أكتب، يعني الشروع في التحضير لسفرنا وسعادتنا وكذا حبنا، دافع محفِّز جدا.
إلى اللقاء حبيبي،
أتمنى عدم تضمن هذه الرسالة لأيِّ سمٍّ ضارٍّ بالنسبة إليكَ، بل فقط الورق، والحبر والغرام، معطيات لا أعتقد بأنها تسبب لكَ سوءا، مع ذلك أتهيَّب من الأمر قليلا.
نيلسون، عِشْقي
أتمنى أن لا يقلقكَ أبدا تصرف أنا مصدره، قد أخلق لديكَ شعورا بالاشتياق، وبوسعكَ التحسر ما دمت بعيدة عنكَ، بدوري اشتاق إليكَ ويحزنني ذلك، لكنه ليس بضائقة.
أتمنى أن يغطِّيكَ غرامي، برقَّة ودفء، غاية شعوركَ بأنكَ تستوطنه بكيفية مريحة.
أحبُّكَ جدا، مع أني لا أعتقد بأني سأحبُّك هناك في شيكاغو، بنفس قوة ما أحسه بين طيات هذا الصيف الفرنسي الحارق.
أقبِّلُكَ.
سيمون كلها لكَ.
*هامش:
(1) مطعم فيفورVéfour
(2) جان جنيه
مصدر الرسالة :
Simone de Beauvoir: un amour transalantique(1947 -1964) ;Gallimard1997.PP :53.56.