تدوين-ذاكرات/شخصيات وأحداث
"كان في الثامنة والثلاثين من عمره آنذاك، قصير القامة، ممتلئ الجسم، ذا نسب أرستقراطي من عائلة الحسيني العربية المقدسية المرموقة، التي تصدر أبناؤها قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية في سني صحوتها. كان يرتدي زيا عسكريا ميدانيا، في حزامه مسدس"، هكذا وصف الكاتب والصحافي الإسرائيلي المتخصص في الشؤون الفلسطينية داني روبنشتاين، في كتابه "إما نحن وإما هم – معركة القسطل: الساعات الأربع والعشرون الحاسمة"، الصادرة ترجمته عن العبرية عن مركز "مدار للدراسات الإسرائيلية عام 2020، الساعات الأخيرة من حياة الشهيد عبد القادر الحسيني، الذي عرف ببسالته فأصبح رمزا للنضال والشجاعة، وارتبط اسمه بمعركة القسطل الشهيرة، التي أسفرت عن استشهاده بعد ثماني أيام من القتال.
وفي الذكرى الخامسة والسبعين لاستشهاده التي تصادف اليوم الثامن من نيسان، نستعرض أبرز محطات حياته، نشأته، نضاله، وحياته الشعرية.
ولد عبد القادر موسى كاظم الحسيني في إسطنبول عام 1910، درس القرآن الكريم في القدس، ثم أنهى دراسته الأولية في مدرسة (روضة المعارف الابتدائية)، بعدها التحق بمدرسة (صهيون) الإنجليزية، وأتم دراسته الثانوية بتوفق، ثم التحق بكلية الآداب والعلوم في الجامعة الأمريكية في بيروت، إلا أنه طرد منها بسبب نشاطه الوطني، فالتحق بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.
تأثر الحسيني باستشهاد عز الدين القسام، فسار على دربه، وآمن بالكفاح المسلح طريقا وحيدا للخلاص، وراح منذ العام 1936 يعمل على تدريب شبان فلسطينيين لينظموا وحدات مسلحة تدافع عن حقها وأرضها إذا ما تعرضت للهجوم من القوات البريطانية.
وفي ذات العام قام عبد القادر الحسيني بإلقاء قنبلة على منزل سكرتير عام حكومة فلسطين تلتها قنبلة أخرى على المندوب السامي البريطاني وتوج نشاطه الوطني في هذا العام بعملية اغتيال الميجور سيكرست مدير بوليس القدس ومساعده، بالإضافة إلى اشتراكه مع أفراد الوحدات التنظيمية التي أسسها في مهاجمة القطارات الإنجليزية، وظلت هذه المناورات بصورة متفاوتة حتى عام 1939 حيث بلغت المقاومة ضد البريطانيين أشدها في معركة الخضر الشهيرة التي قضت بإصابة عبد القادر الحسيني إصابة بالغة.
في عام 1941 شارك الحسيني العراقيين في جهادهم ضد الإنجليز وتمكن أن يوقف تقدم القوات البريطانية لمدة عشرة أيام، واعتقل ورفاقه وقضوا في الأسر العراقي ثلاث سنوات، بعدها انتقل إلى المملكة العربية السعودية، ثم إلى مصر، وهناك عمد إلى وضع خطة لإعداد المقاومة الفلسطينية ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي، فراح ينظم عمليات التدريب والتسليح للمقاومين وأنشأ معسكرا سريا بالتعاون مع قوى وطنية مصرية ليبية مشتركة بالقرب من الحدود المصرية الليبية، كما قام بتدريب عناصر مصرية أيضا للقيام بأعمال فدائية.
لم يقتصر نشاطه عند هذا الحد، بل عمد إلى التواصل والتشابك مع قائد الهيئة العربية العليا ومفتي فلسطين أمين الحسيني من أجل تمويل خطته وتسهيل حركة المقاومين على كل جبهات فلسطين، كما عمد أيضا إلى التنسيق والتواصل مع المشايخ والزعماء والقادة داخل الأراضي الفلسطينية، وأنشأ معملا لإعداد المتفجرات إضافة إلى إقامته محطة إذاعية في منطقة رام الله، وأنشأ محطة لاسلكية في مقر القيادة في بيرزيت وعمل شفرة اتصال تضمن لهم سرية المعلومات وعدم انتقالها إلى الأعداء عبر المراسلات العادية.
كما قام بتجنيد فريق مخابرات مهمته فقط جمع المعلومات والبيانات وخفايا وأسرار العدو الإسرائيلي لضربه في عقر داره، ناهيك عن تكوينه لفرق الثأر التي طالما ردعت وأرهبت اليهود وقللت من عمليات القتل الممنهجة التي أذاقوها للفلسطينيين.
وقعت معركة القسطل خلال الفترة التي سبقت النكبة، وكانت حدثا فاصلا في التاريخ الفلسطيني، واستمرت في منطقة القسطل جنوب مدينة القدس ضد العصابات الصهيونية لمدة ثمانية أيام.
وكانت المعركة قد بدأت في 2 نيسان من عام 1948 عندما قامت قوات "الهاجاناه" الصهيونية بمهاجمة قرية القسطل، واستولت عليها وطردت كل سكانها منها، وفي حينها أخذ عبد القادر الحسيني على عاتقه مهمة التصدي لهذا الهجوم، لكن عتاده القليل لم يسعفه، فتوجه إلى جامعة الدول العربية، طالبا مده بالسلاح والذخيرة، إلا أن الحكام العرب رفضوا المساعدة وطالبوه بعدم افتعال تصرفات فردية.
فكان رد الحسيني عليهم: "إنني ذاهب إلى القسطل وسأقتحمها وسأحتلها ولو أدى ذلك إلى موتي، والله لقد سئمت الحياة وأصبح الموت أحب إلى من نفسي من هذه المعاملة التي تعاملنا بها الجامعة، إنني أصبحت أتمنى الموت قبل أن أرى اليهود يحتلون فلسطين، إن رجال الجامعة والقيادة يخونون فلسطين".
واستشهد عبد القادر الحسيني يوم 8 نيسان عام 1948، وفي اليوم التالي نشرت صحيفة "فلسطين" في صفحتها الرئيسية خبر استشهاده تحت عنوان "أقدس ختام لأنصع حياة باستشهاد عبد القادر الحسيني قائد الجهاد العام".
يقول فيصل دراج في مقال بعنوان "عبد القادر الحسيني المثقف المختلف" نشرته مجلة "أوراق فلسطينية" عام 2013، "لم تر القدس جنازة تماثل جنازة الشهيد عبد القادر ضخامة وجلالا، مشى الناس في الجنازة احتراما ووفاء واعترافا بأن الشهيد يمثل الوطن والشعب".
وانطلقت الجنازة الساعة العاشرة والنصف صباحا يوم الجمعة 9 نيسان 1948 من منزل شقيقه فريد الحسيني وصولا إلى المسجد الأقصى، وشملت شعائر الجنازة التي شارك فيها عشرات الآلاف ممن قدموا من مختلف أنحاء فلسطين، نعي المؤذنين له على مختلف مآذن القدس، ودق أجراس الكنائس، كما أطلقت 11 قنبلة من المدافع تحية للشهيد.
لم يشتهر عبد القادر الحسيني كشاعر مثلما ذاع صيته كقائد مجاهد، إلا أن الراحل كانت له اهتمامات شعرية، وترك وراءه مجموعة قليلة من القصائد التي رسم من خلالها ملامح شخصيته الجهادية، وكانت بمثابة أعمال توثيقية لحياته النضالية، ورؤيته لمستقبل البلاد.
كتب الحسيني مجموعة من القصائد، استعرض فيها الواقع الفلسطيني آنذاك، وطرح فيها أسئلة حول مستقبل القدس وفلسطين، وتمحورت جل أعماله حول الجهاد والمقاومة.
وللراحل قصيدة بعنوان: "ناوليني السيف أمي"، يخطاب الحسيني من خلالها والدتها، طالبا منها أن تحدثه عن البلاد، وكيف "سادتها عداها، وداسوا في حماها"، ويكرر طلبه منها بأن تناوله السيف في القصيدة لأكثر من مرة، ولا ينسى أن يذكر بما سمعه من أمجاد على لسان والدته، واستجابته للجهاد بعد أن "غدت البلاد نهب الأعادي، وشبت النيران في فؤاده".
يطرح الشاعر في هذه القصيدة مفهومين مهمين، الأول أن الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد للخلاص من المحتل، والثاني هو دور الأم في تنئشة جيل قادر على حمل السلاح والمقاومة، في إشارة منه إلى أنها الأساس في هذه التربية القائمة على حب البلاد والتضحية بالنفس من أجلها.
حدثيني عن بلادي ..حدثينـي
اسمعيني خبرا لا تكتمينـي
حدثيني كيف داسوا في حماها
حدثيني كيف عاثوا في رباها
حدثيني عن بلادي ..حدثيني
ناوليني السيف أمي ناوليني
كيف ألتذ بنومـي أو رقـادي
وبلادي قد غدت نهب الأعادي
شبت النيران واجتاحت فؤآدي
مذ دعاني هاتف صوب بلادي
ناوليني السيف أمي ناوليني
هاتف المجد إلى الحرب دعاني
ما عنى غيري ولكن قد عنانـي
إن لي زندا قويا كالجبـال
وأنـا الآن جديـرٌ بالقـتـال
ناوليني السيف أمي ناوليني
حدثيني كيف داسوا في حماها
واصدقيني خبرا عما دهاها
مرتع الأسد وأجداث الجدود
هل غدت موطئ أقدام اليهود
ناوليني السيف أمي ناوليني
وفي قصيدة ثانية للحسيني بعنوان "صوني دموعك"، يخاطب الشاعر ابنته هيفاء وزوجته، ويطالبهما بالكف عن البكاء، ذلك لأن طريق الجهاد فرق بينه وبين عائلته، إلا أنه يؤكد لهما على أنه شرف لا ينعم به إلا الرجال، ويدعوهما في أكثر من بيت للصبر وتحمل ألم ومعاناة الفراق.
رقراق دمعك هز قلبي الباكي .. كفي البكا، نفسي تراق فداك
هيفاء لا تبكي بحق أبوتي .. هيفاء قد هد البماء أباك
صوني دموعك إنها من مهجتي .. ذوب الفؤاد ذرفته ببكاك
إن عادني ترجاج صوتك باكيا .. أشفقت ألا أحتيي لأراك
يا أم هيفاء اصبري وتجلدي .. الله والوكن العزيز عناك
قد نلت من شرف الجهاد مراتبا .. ما نالها رجل القتال الشاكي
أعلاك صبرك فوق كل جليلة .. وعلى النجوم يطول أفق سماك
سيري وربك لا يريد بنا أذى .. إلا ورب البيت منه حماك
سيري فقلبي يا وجيهة سائر .. أنى رحلت يطوف حول حماك
والله يعلم أن هجرتنا له .. والله يرعى ما حييت خطاك
ترك الراحل وراءه أيضا مجموعة مراسلات، تنوعت بين العائلية، والعسكرية، وكانت الأولى رسائل لزوجته، أرسلها في أوقات زمنية متفرقة، وفي مناسبات مختلفة.
وبتاريخ 27/12/1947، أرسل عبد القادر الحسيني رسالة إلى زوجتها، أخبرها فيها عن رعب اليهود من تواجده في قرية صوريف، وطمأنها على صحته.
وفي ما يلي فحوى الرسالة:
"أنا الآن بقرية صوريف، وقربي مستعمرة اسمها كفار عتصيون، وقد جن جنون اليهود لما علموا أني أتيت إلى قربها، وهم خائفون ومرتعبون، صحتي جيدة، والحمدلله، وسلاحي كثير، ورجالي أكثر، وعتادي طيب، كيف صحتك، وصحة الأولاد، سلامي لكم جميعا".
وجاء في رسالة ثانية لزوجته، مؤرخة بتاريخ 4/1/1948، :"لقد أصبحت القدس الآن الجبهة الأولى، شباب حي الشيخ جراح أسود، وكذلك شباب كل القدس، بارك الله فيهم، سنبدأ هجومنا الحقيقي بعد عشرة أيام على أكثر تقدير، وربما بدأنا قبل ذلك إذا وصلتنا الذخائر".
وفي رسالة ثالثة إلى زوجته مؤرخة بتاريخ: 12/2/1948، كتب عبد القادر الحسيني: "حراسنا في الشيخ جراح الآن يحتلون سان هدريا، وبيت إسرائيل، أعمالنا الحربية أثرت في اليهود أثرا عميقا، كما أنها قوّت معنويات العرب، هذه الليلة سنقوم بعمل باهر، وإن شاء الله ينجح، وسيكون له أثر عميق".
أما آخر رسائله قبل استشهاده بستة أيام المؤرخة بتاريخ: 2/4/1948، كتب فيها:
"أعزائي: هيفاء، وموسى، وفيصل، وغازي: "كيف أحوالكم، لماذا لا تكتبون لي، أرجو أن تكونوا متحابين وأولادا طيبين، لا تعذبوا أمكم، كما أرجو أن تكونوا مجتهدين بدروسكم، وإذا نجحتم بالمدرسة، فسأتشري لكم بنادق ومسدسات حقيقية لتقتلوا بها اليهود، وسأشتري لهيفاء أدوات إسعاف لتضمد جراح المجاهدين، سوف أراكم قريبا، الله يرضى عليكم". ووقعها ب: أبوكم المحب.
أما الرسائل العسكرية التي وصلت إلينا فكانت كلها إلى المفتي محمد أمين الحسيني، كتب فيها عن الأعمال التي قام بها، كترتيب حرس قوي للقيادة، وترتيب قناصة حول المستعمرات، وتنظيم الدفاع في القدس والقرى، وترتيب الحرس الليلي.
وفي رسائل أخرى كان يطلب من المفتي أن يرسل له مالا وسلاحا وذخائر، ويطلعه على آخر مستجدات أعماله الجهادية، وحياته اليومية، وكذلك المناطق التي يهتم بها، والتي قطع فيها أشواطا، ويطمئنه على سير الأمور من حوله.