تدوين- محمود شقير
(1)
التقيته أول مرة في عمان العام 1972.
أوفدتني قيادة الحزب في الضفة الغربية مع خليل حجازي ومحمد أبو غربية، لحضور اجتماع تعقده اللجنة المركزية للحزب في عمان. أدخل عمان للمرة الأولى بعد نكسة حزيران، وألاحظ أن بعض مظاهر الاحتقان التي أعقبت معارك أيلول بين الجيش والمقاومة، ما زالت تتجلى في هذا الشكل أو ذاك، تتجلى في الحراسات المشددة على مداخل الدوائر والمؤسسات الرسمية، وفي الأحاديث التي تدور بين الحين والآخر عن تلك الأيام، أحاديث تتخذ شكل السرد الإخباري حيناً، وشكل النقد والتقويم والتعليل والتفسير حيناً آخر، كما لو أن ثمة رغبة في حذف المشهد الدامي، وصياغة الوقائع على نحو من شأنه أن يمنع وقوع ما وقع.
التقينا بشير البرغوثي، وعدداً آخر من قادة الحزب، مرات عدة قبل اجتماع اللجنة المركزية. بعض هذه اللقاءات تم في بيت فائق وراد في جبل الحسين، وبعضها في بيت عيسى مدانات عند شارع المستشفى الطلياني قريباً من وسط العاصمة. لاحظت أن قيادة الحزب تتمتع بهامش للتحرك السياسي، مع شيء من الانضباط في الحركة وفي المواقف السياسية. تحدثنا في اللقاءات عن أوضاعنا تحت الاحتلال، قلنا: الناس صامدون رغم المعاناة، وثمة هجمة واسعة لمصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية، وثمة محاولات لخلق قيادة بديلة في الأرض المحتلة موالية للاحتلال. استمع قادة الحزب إلينا ثم قدموا ملاحظاتهم واستخلاصاتهم. وبدا من كلامهم أنهم يتابعون ما يجري عندنا من وقائع وأحداث. كان بشير البرغوثي الذي أراه للمرة الأولى يتحدث بأسلوب واضح، ينم عن سعة اطلاع وقدرة على متابعة الأوضاع.
وفي اجتماع اللجنة المركزية الذي قاده الأمين العام، فؤاد نصار، تحدث بشير بالأسلوب الواضح نفسه، مضيفاً إلى التقرير السياسي المقدم من المكتب السياسي إلى اللجنة المركزية، إضافات جديدة. وقد شاركه في تقديم مثل هذه الإضافات عدد آخر من القادة، الذين لعبوا فيما بعد أدواراً سياسية بارزة.
وفي بيته الكائن في جبل عمان، التقيناه للمرة الأخيرة قبل مغادرتنا عمان. دارت بيننا أحاديث أخرى عن الوطن وعن آفاق النضال المتوقعة، في ظل الانحسار الذي ساد المنطقة بعد خروج المقاومة الفلسطينية من الأردن. كان بشير يترك في النفس انطباعاً مريحاً، فهو يتحدث بهدوء، ولا يلقي الكلام جزافاً.
سمعت باسمه للمرة الأولى أوائل الستينات من القرن العشرين، وهو سجين آنذاك مع المئات من الشيوعيين ومن مناضلي الحركة الوطنية، في سجن الجفر الصحراوي. كان المدّ القومي الناصري يملأ الأسماع، واليسار مقيد بمختلف القوانين والإجراءات. وصل اسم بشير إليّ عبر طرق شتى، (أخوه الأصغر عصام كان أحد تلاميذي في المدرسة الهاشمية الثانوية بالبيرة) ومع اسمه وصلت إليّ بعض صفاته، وأبرزها شغفه بالقراءة وتحصيل المعرفة.
غادر بشير السجن، هو ورفاقه بعد ثماني سنوات. لم ألتق به ولم أتعرف إليه عن قرب، خشية من عيون المخبرين. كان الحزب آنذاك يعيش وضعاً سرياً، ولم يكن الاتصال بأعضائه المعروفين محبذاً، أو هكذا اعتقدت في تلك الأيام. لكنني بقيت أتابع أخبار بشير، خصوصاً بعد أن أصبحت عضواً في الحزب منذ أواسط الستينات.
كانت سمة المثقف صاحب المبادرات الفكرية والاجتهادات، تُفرد له مكانة خاصة في عقول معارفه وقرائه. ازددت اهتماماً بما يكتبه، بعد قراءتي لكتابه الذي أصدره أوائل السبعينات تحت عنوان "بعض قضايا الصراع الاجتماعي في الأردن". الكتاب فتح عيني على أهمية التحليل الطبقي للظواهر، لمعرفة العلاقة الوطيدة بين السياسة والاقتصاد.
(2)
تأخر موعد اجتماع اللجنة المركزية، لأن التقرير الذي سيجري تقديمه إلى الاجتماع لم يكن مكتملاً. أمضيت في عمان عشرين يوماً، وكان من المتوقع ألا أمضي فيها سوى أسبوع واحد على الأكثر.
أقمت في بيت خليل السالم ابن بيت لحم، الذي أمضى في سجن الجفر الصحراوي ثماني سنوات. البيت في جبل التاج، وكنت أصعد إليه درجاً صعب المرتقى، وعلى الدرج نفسه، كنت أهبط إلى مركز المدينة.
تعرفت إلى عدد غير قليل من قادة الحزب وكوادره. والتقيت بشير البرغوثي غير مرة عند كشك على رصيف الشارع الرئيس في قلب عمان، وهو يشتري صحفاً أردنية وعربية. كنا نتبادل أحاديث مختصرة، يتحدث بالهدوء نفسه وبالرصانة نفسها، ولا يخلو حديثه من سخرية، ثم نتفرق ويمضي كل منا في اتجاه، وتكون حركة الناس على أرصفة الشوارع في أوجها. ويكون ثمة أسى على الوجوه، أو هذا ما توقعته آنذاك.
التقيته في براغ، وكانت تلك هي المرة الثانية التي أراه فيها، بعد ستة عشر عاماً من لقائنا الأول في عمان. كان هادئاً ميالاً إلى السخرية. وكنت قلقاً بخصوص حقيقة كونه الأمين العام للحزب، إذ كيف سأحكم عليه في ضوء الصورة التي أحملها في ذهني لمن يتبوأ هذه المرتبة القيادية. تكونت صورة الأمين العام في ذهني انطلاقاً من متابعتي لسيرة حياة لينين، القائد الذي كانت له مكانة عالية في نفسي وفي نفوس كثيرين من مؤيدي اليسار، ومن ملاحظتي لفؤاد نصار ولطريقته في الكلام وفي إبداء وجهة نظره في قضية ما، وذلك خلال المرات القليلة التي قابلته فيها، وترك لدي انطباعاً بأنه صاحب فكر عميق، وكذلك، من انتباهي للجانب الجماهيري في شخصية فائق وراد، الأمين العام الثاني بعد وفاة فؤاد نصار، علاوة على الانطباعات التي تركتها في نفسي متابعة بعض وقائع حياة عدد آخر من الأمناء العامين للأحزاب الشيوعية في البلدان العربية وفي غيرها من البلدان، مثلاً: سلام عادل في العراق، فرج الله الحلو في لبنان، يوليوس فوتشيك في تشيكوسلوفاكيا وجورجي ديمتروف في بلغاريا.
كان يتحدث في بساطة ودون تكلف. وحينما تدعو الحاجة إلى المزاح فهو مبادر في هذا المجال، وهو متميز في مزاحه الظريف. وحينما تدعو الحاجة إلى إبداء الرأي في مسألة سياسية، فإنه يبدي رأيه دون تعقيدات، وفي سلاسة كما لو أنه رتب أفكاره قبل ذلك بساعات.
ولم أحتج إلى وقت طويل لكي أكتشف أنه ينطوي على قدر كبير من المعرفة ومن القدرة على تحليل الظواهر، وهو يتصرف بصفة كونه شخصاً لا بصفة كونه أميناً عاماً، وتلك ميزة تحسب له لا عليه.
لاحظت ذلك، ونحن نخرج للتمشي في شوارع براغ وقد غطاها الثلج بعد ظهر أحد الأيام. كنا خمسة أو ستة من أعضاء الحزب، نمشي فوق الثلج ومعنا الأمين العام، يمشي في حذر خوفاً من السقوط، ويتصرف مثل أي شخص عادي لا تكبله القوالب ولا الألقاب ولا المظاهر الشكلية التي تحجب الجوهر الإنساني في الكثير من الحالات.